غزة - أخبار اليوم
على درج بيت متواضع في مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة، جلس ثلاثة أطفال ينتظرون والدهم أحمد الهبيل، الذي خرج صباح الجمعة، 11 يوليو/تموز الجاري، بحثًا عن شيء يسد رمقهم مع استمرار المجاعة المتفشية.
محمد (10 أعوام)، وأسيل (13 عامًا)، وسيلين (5 أعوام)، يحدقون في الشارع الذي ابتلع والدهم ولم يُعده إلا شهيدًا.
كان أحمد، البالغ من العمر 39 عامًا، قد قصد ما يُعرف بـ"مؤسسة غزة الإنسانية" – وهي جهة تقول إنها أميركية لكنها تعمل بالتنسيق مع الاحتلال الإسرائيلي – للحصول على مساعدات غذائية محدودة، تُوزع في رفح جنوبي القطاع و"نيتساريم" وسطه.
وفي ظل الحصار الخانق، لم يجد الهبيل خيارًا سوى قطع أكثر من 25 كيلومترًا سيرًا من منزله في مدينة غزة إلى رفح، في رحلة محفوفة بالخطر، فقط من أجل علبة طعام لأطفاله.
لكنه عاد جثة هامدة بعد أن استهدفه رصاص الاحتلال المنتشر في المنطقة، والتي تحوّلت إلى مصائد جماعية للجوعى الباحثين عن النجاة.
مصيدة الجوعى
يقول محمود عزيز، أحد شهود العيان: "بعد ساعات من الانتظار، سمحوا لنا بالتحرك نحو موقع التوزيع. كان الشارع مكتظًا بآلاف الجوعى، وفجأة صرخ صوت عبر مكبّر صوت على رافعة عسكرية: "غزّاوي جعان... برّا!‘، ثم بدأ إطلاق النار من الطائرات المروحية والدبابات والقناصة".
يضيف: "لم يُسمح لسيارات الإسعاف بالوصول، فاضطررنا لاستخدام عربات الخيول لإجلاء الشهداء والمصابين".
في بيت العائلة المفجوعة، جلست ياسمين الهبيل، شقيقة الشهيد، تحتضن أبناء أخيها الثلاثة، وتحاول حبس دموعها بينما تروي اللحظات الأخيرة: "أحمد خرج ليطعم أطفاله، فوجد الموت في وجهه. قال لي قبل خروجه: ’هذه ليست مساعدات، بل مصيدة،‘ لكن الجوع أقسى من الخوف، فذهب".
كانت تلك المرة الأولى التي يقرر فيها "أحمد" الذهاب إلى مركز التوزيع الأميركي، بعد تردد طويل، إذ اعتاد تحذير الناس من التوجه إليه، لكنه استسلم أمام ضغط الحاجة.
تتابع ياسمين: "رافقته في ذلك اليوم، كان قلبه مقبوضًا، قال لي: ’إذا ما رجعت، اعتني بأطفالي.‘ بقيت بعيدة أنتظره، ثم شعرت بضيق شديد، وبدأت أبحث بين المصابين القادمين على العربات التي تجرها الحيوانات، حتى رأيته ممددًا، ينزف من رجله اليسرى".
تقول: "نُقلنا به إلى نقطة طبية قرب منطقة ’فش فرش‘ جنوب غرب خانيونس، وهناك لفظ أنفاسه الأخيرة، وهو يوصي الناس: ’لا تذهبوا... المكان فخ وليس مركزًا إنسانيًا‘".
قتل متعمّد
منذ بدء توزيع المساعدات عبر مؤسسة "غزة الإنسانية" في 27 مايو/أيار الماضي، ارتفع عدد الشهداء في تلك المواقع إلى نحو 800 شهيد وأكثر من 5,200 مصاب، وفق بيانات رسمية.
ورغم هذا الرقم المفجع، تواصل المؤسسة – التي لا تنسّق مع "أونروا" أو أي جهة إغاثية رسمية – عمليات التوزيع وسط فوضى أمنية متعمدة.
ورغم الادعاءات الأميركية بأن المساعدات "إنسانية"، إلا أن الواقع يقول غير ذلك؛ فقد أقر جنود إسرائيليون في تقارير إعلامية بتلقيهم أوامر بإطلاق النار لتفريق الحشود، في وقت تمنع فيه قوات الاحتلال دخول أي مساعدات حقيقية منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ولا تسمح بدخول الإمدادات إلا بشروط سياسية أو في سياقات ضغط وصفقات.
ووصف المكتب الإعلامي الحكومي في غزة هذه الخطة بأنها: "مخطط مدروس يهدف إلى نشر الرعب، وتحويل رغيف الخبز إلى مهمة انتحارية".
تختم ياسمين حديثها وهي تنظر إلى أبناء شقيقها الذين ما زالوا يجلسون صباحًا على عتبة البيت في انتظار والدهم: "أميركا لا تطعمنا... إنها تقتلنا. أحمد استشهد من أجل لقمة العيش، لكنه ترك وصيته: ’لا تذهبوا... المكان فخ، لا مركز إنساني‘".
بات الفلسطينيون اليوم أمام خيارين: إما الموت جوعًا، أو الموت برصاص الاحتلال وهم يطاردون شبح الخبز، في ظل حرب لا تكتفي بقتل الإنسان، بل تقتل الأمل في نجاته.