أخبار اليوم - في ظهيرة السابع من شهر نوفمبر لعام 2023، خرج محمد طالب البالغ من العمر 44 عامًا، من منزله الكائن في منطقة الصفطاوي شمال القطاع، برفقة ابنه حمزة، بحثًا عن قليل من الاحتياجات لعائلته. فلم يكن خروجه من المنزل عادة مألوفة خلال القصف، فقد كان يحرص دومًا على البقاء مع أبنائه الخمسة حفاظًا على سلامتهم، لكن الضرورة أقوى من الخوف.
في الطريق، نظر محمد إلى حمزة وقال له بابتسامة تحمل دفئًا ووصية: "هاي هويتي فيها شوية مصاري، هدول إلك، وجوالي وسيارتي كمان إلك يا بابا". لم يكن يعلم أن هذه الكلمات ستكون الأخيرة، وأن اللحظة التالية ستبدد كل شيء.
فجأة، باغتتهما طائرة حربية إسرائيلية بصاروخ استهدف سيارة مدنية تسير بالقرب منهما، وتطايرت الشظايا في المكان، واخترقت جسديهما، محمد ارتقى على الفور شهيدًا، أما حمزة، فقد أُصيب إصابات بالغة في الرأس والكتف والوجه، ونقل إلى المستشفى في حالة حرجة.
في البيت، كانت زوجته هويدة تنتظر عودتهما بفارغ الصبر، تقول بصوت يملؤه القلق الذي عاشته لصحيفة "فلسطين": "ما تعود يطلع وقت الحرب، حسيت إنه في شي مش طبيعي.. قربت صلاة العصر، ولسّا ما رجعوا، حاولت أتصل فيه، بس ما في إرسال، حسيت الدنيا كلها سكتت".
مع حلول أذان المغرب، وبعد ساعات طويلة من القلق والبحث والرجاء، تنفست العائلة الصعداء للحظة، لكن الألم لم ينتهِ؛ تضيف: "بدأت رحلة البحث المرعبة، حيث توجه أقارب إلى مستشفى الإندونيسي، ثم إلى مجمع الشفاء الطبي، يتفقدوا وجوه الجرحى، ويدعو ألا يكون محمد بينهم لكنهم وجدوا اسمه في ثلاجة الشهداء".
تتابع بصوت أقرب للبكاء: "عندما علمت بالخبر انهرت.. محمد راح، زوجي وسندي، راح وتركلي وجع ما بينوصف".
بينما حمزة الذي كان يرقد في قسم الجراحة، يصارع الإصابة والغياب، فقد كان وضعه خطير جدًا، القصف لم يتوقف، ولم تستطيع الذهاب له، "قلبي كان بين رجليه، طول الليل ما نمت، كل شوي أتخيل شكله، كيف حاله، إذا صاحي أو لأ...".
وتضيف بصوت مختنق: "ظلّيت أعد الساعات لحد ما طلع النهار، وما إن أشرقت الشمس حتى ركضت على المستشفى، وصلت له وكان نايم، وجهه متورم وفيه دم، بس كان عايش، وهاي كانت معجزة بالنسبة إلي بعد ما فقدت أبوهم".
وطيلة وقت تقطيب الجروح، لم يصمت لحظة.. رغم الوجع، رغم النزيف، كان يسأل من حوله: بابا استشهد؟.. كان ينادي عليه، ورغم انه يدرك انه قد استشهد إلا أن الأطباء كانوا يحاولوا إخفاء الحقيقة عنه.
في المستشفى، حين اقتربت والدته هويدة من حمزة، وجدت عينيه تتلألأ كالجمر، نظراتهما تلاقت في صمتٍ ثقيل، يخلو من الكلمات، لكنهما تحدثا بلا صوت، لم يستطع أي منهما نطق شيء، كانت لحظة تفيض بالحزن والصمت الموجع.
وبحسب هويدة، "لم يستطع أن يجهش بالبكاء إلا في اليوم الثاني، حين انهار فجأة أمامي، وفي ذلك البكاء رأيت كل ألم فقد والده، كل خوفه من مصير إصابته، وكل صدمته من الواقع الجديد الذي لم يكن يتخيله".
هذه اللحظة كانت بداية رحلة طويلة من الألم والمعاناة، لكنها أيضًا لحظة ارتجاع للإنسانية وسط الحرب والدمار.
وبعد أيام اضطرت والدة حمزة ترك المستشفى لتواجه تحديًا جديدًا في رعاية جروحه، خاصة بعد اقتحام المستشفى من قبل قوات الاحتلال، مما أجبرها على الاهتمام به بمفردها وسط ظروف صعبة.
تقول هويدة بصوتٍ ملؤه الحزن: "كانت أصعب مرحلة، لأن المستشفى كان تحت القصف والاقتحام، وما في حد يساعدني، اضطرّيت أعتني بحمزة بنفسي، وأتغلب على كل الصعوبات".
وفيما بعد مرت نفسية حمزة بتقلبات وألم عميق، خاصة مع كل مرة يخرج فيها من البيت، حيث كان يرى المكان الذي استُهدفت فيه السيارة، فقد والده في لحظة مروعة، ليبقى قلبه مثقلاً بالحزن والذكريات التي لا تفارقه.
ويواجه حمزة اليوم صعوبة في التكيف مع وضعه الصحي، إذ لا تزال شظية عالقة في بطنه، إضافة إلى حاجته الماسة لعمليات تجميل في الوجه واليد لتعويض التشوهات التي أصيب بها.
رحل محمد، الأب الحنون، تاركًا خلفه خمسة أبناء، أحدهم يئن تحت وطأة الجراح، وأم تحاول أن تتماسك رغم الحزن والفقد. في عيون العائلة الصغيرة، قصة وطن بأكمله يمشي فوق الوجع، ويحاول أن ينهض من تحت الركام.
فلسطين أون لاين