أخبار اليوم - في قلب الدمار الذي خلّفته حرب إبادة لا تنتهي، ووسط صرخات الأمهات ودموع الآباء، وُلد الطفل "قيس" لكنّه لم يُكمل أكثر من خمس دقائق في هذه الحياة.
خمس دقائق فقط، كانت كافية لتكون قصته شاهدًا جديدًا، على المأساة المتكررة في قطاع غزة.
ففي فجر يوم الاثنين، وبينما كان محمد أبو مراد (34 عامًا) يحاول استنشاق بعض الهواء بعيدًا عن أصوات الطائرات والانفجارات، سقط صاروخٌ إسرائيلي على منزله الكائن في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، لينهي بذلك حياة عائلته الصغيرة، ويغيّر مسار حياته إلى الأبد.
أنفاس أخيرة
يقول واصف جودة، صديق أبو مراد، والذي كان برفقته وقت القصف لصحيفة "فلسطين": "سمعنا صوت صاروخ قادم بسرعة، التفتُّ نحوه لأدرك أنه يتجه نحو منزل "محمد" صرخنا وركضنا معًا نحو المنزل، وعندما صعدنا إلى الطابق الثاني كان المشهد مفجعًا".
ففي الطابق الثاني، كانت زوجة "محمد" تلفظ أنفاسها الأخيرة، وإلى جوارها الطفل "إسلام"، ابن الخمسة أعوام، وقد مزّقت الشظايا جسده الصغير.
كانت يداه مبتورتين تقريبًا من شدة الإصابة، لم يكن هناك مجالٌ للنجاة، سوى بالتشبث بالحقيقة: أن هذه العائلة لم تكن تحمل سلاحًا، ولا تهدد أحدًا.
ويقول أبو مراد، وهو لا يزال تحت وطأة الصدمة: "كأنني كنت في كابوس، لا أصدق ما حدث، لم نشكّل يومًا خطرًا على أحد، فما ذنب زوجتي؟، وطفلي؟، وطفلي الذي لم يولد بعد؟".
ويلفت إلى أنه بعد أن شاهد أسرته والدماء تتناثر من مختلف انحاء جسدها، تم نقلهم إلى مستشفى الشفاء الطبي -الذي أعيد تشغيل جزءٍ منه بعد أن كان مدمّرًا بفعل القصف- حاول الأطباء إنقاذهما، لكن الحياة كانت قد غادرت جسديهما.
غير أن المأساة لم تنتهِ هنا، فبعد نحو نصف ساعة من وصولهم إلى المستشفى، تذكّر "محمد": أن زوجته كانت حاملاً في شهرها الثامن، ليخبر الأطباء على الفور بذلك، فتم نقل جثمانها إلى غرفة العمليات، على أمل إنقاذ الجنين.
ويكمل بحزن: وبالفعل وبعد تدخلٍ سريع، خرج الطفل "قيس" إلى الحياة، حيًّا لكنه لم يُكمل إلا خمس دقائق، ليفارق الحياة هو الآخر، وينضم إلى والدته وشقيقه، في موكبٍ من الشهداء.
وداع أخير
ويقول محمد، وصوته يختنق بالألم: خمس دقائق عاشها قيس فقط، حملته بين يدي ولم أستطع أن أقول له شيئًا، لم أتمكن حتى من أن أقبّله الوداع الأخير.
ويلفت إلى أنه أطلق عليه اسم "قيس" منذ أن علم بالحمل، وكان ينتظر قدومه بفارغ الصبر، علّه يكون بداية جديدة وسط الخراب المحيط، لكن الحرب التي لم تفرّق بين جنين وشيخ، وأبت إلا أن تحوّل حياة الفلسطينيين إلى سلسلة من الفقد، لم تمنحه فرصة الحياة.
يضيف محمد، بحزن: "ماذا فعل قيس؟، ما ذنبه ليولد في وطنٍ لا يُسمح لأطفاله أن يبقوا أحياء؟، لقد خرج إلى الدنيا ليكون شاهدًا صغيرًا على الظلم، ثم غادر بسرعة، وكأنه يرفض هذا الواقع".
وكانت عائلة مراد، قد نزحت قسرا مرارًا في مدينة غزة، منذ بدء الحرب المدمرة على القطاع، في السابع من أكتوبر 2023، وعادت إلى منزلها بعد انسحاب جيش الاحتلال من مخيم الشاطئ، ولم تكن تعلم أن عودتها المؤقتة ستكون وداعًا أخيرًا.
ويشير أبو مراد، الذي فقد زوجته وطفليه، إلى أن عائلته ودّعت 18 شهيدًا منذ بداية الحرب، غالبيتهم من النساء والأطفال.
ويتساءل أبو مراد بحرقة: "منذ عامين ونحن نُقتل كل يوم، والمجازر تُرتكب في وضح النهار، الأطفال والنساء يُستهدفون بلا رحمة، والعالم صامت، أو مشغول عنّا، إلى متى؟"
"قيس" طفل وُلد في قلب النار، ولم يُمهَل إلا ليلفظ أنفاسه القليلة، ويكون شهيدًا بلا ذنب، وتعد قصة هذا الطفل امتداد لحكاياتٍ لا تُحصى في غزة، لكنها تظل واحدة من أكثر القصص تعبيرًا عن المأساة وصمت العالم تجاه المجازر التي ترتكب بحق المدنيين في القطاع صباح مساء.