أخبار اليوم - بينما تستعد إسرائيل لإسدال الستار على حربٍ الإبادة التي شنتها على قطاع غزة منذ الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تكشف معطيات رسمية جديدة عن ضرر اجتماعي ونفسي باهظ خلفته الحرب في داخل المجتمع الإسرائيلي، تجلّى في ارتفاع غير مسبوق في معدلات الإدمان على الكحول والعقاقير والمخدرات، حتى بات 1 من كل 4 إسرائيليين في دائرة الخطر.
التقرير السنوي الصادر عن المركز الإسرائيلي للإدمان والصحة النفسية "آي سي إيه" (ICA)، الذي نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت، يرسم صورة قاتمة لمجتمع يعيش ما يشبه "الإدمان الجماعي" كأحد إفرازات الصدمة الجماعية التي أحدثتها الحرب على غزة.
من الصدمة إلى العادة
بحسب التقرير، فإن الحرب وما رافقها من توتر وقلق وخسائر بشرية ومشاهد عنف غير مسبوقة، دفعت قطاعات واسعة من الإسرائيليين إلى اللجوء للكحول والمنومات والمهدئات لتخفيف الضغط النفسي. لكن تلك الوسائل المؤقتة تحولت سريعا إلى عادات متجذّرة يصعب التخلص منها حتى بعد انحسار العمليات العسكرية.
وتشير مديرة المنظومة العلاجية في المركز، روني روكاح، إلى أن "من زاد استخدامه للمواد المسببة للإدمان أثناء الحرب سيجد الآن صعوبة أكبر في تغيير عاداته".
وتضيف "الاستخدام في مستوى الخطر هو المرحلة التي تسبق الإدمان، حين تبدأ السيطرة بالتلاشي، وتظهر آثار الضرر على الأداء اليومي والعمل والدراسة والعلاقات".
يبيّن التقرير أن 26.6% من الإسرائيليين، أي أكثر من ربع السكان، يستخدمون مواد مسببة للإدمان في مستوى خطر مرتفع.
فقد تضاعف تقريبا استخدام المواد الأفيونية، وارتفع استهلاك المهدئات والمنومات بمعدل 2.5 ضعف، في حين سجلت المواد المنبهة ارتفاعا مشابها.
ورغم أن الأعراض الحادة لاضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) تراجعت مقارنة بذروتها في بداية الحرب، فإن 16% من الإسرائيليين ما زالوا يعانون أعراضا نفسية خطِرة، مقابل 12% فقط قبل اندلاع الحرب.
ويُرجع الخبراء هذه الزيادة إلى استمرار الشعور بعدم الأمان، والخسائر في الأرواح، وطول فترة التعبئة العسكرية، والضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تلت الحرب.
الجنود والشباب الأكثر تأثرا
يؤكد التقرير أن الفئات الأكثر عرضة للإدمان هي الشباب بين 18 و26 عاما، إذ يقرّ أن 1 من كل 3 قد تعرض لهذا الخطر، بعد أن عاش الإسرائيليون سلسلة من الأزمات المتلاحقة: جائحة كورونا، ثم الحرب، ثم حالة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي.
وتقول روكاح "إنهم يحاولون العودة إلى العمل أو الدراسة أو العلاقات، لكنهم يجدون صعوبة، وهذه الفئة هي التي ستقود المجتمع الإسرائيلي، لذلك يجب أن نمنحها استجابة حقيقية".
كما تكشف المعطيات أن الجنود النظاميين والاحتياطيين وأسرهم من بين الفئات الأكثر تضررا، حيث يبلغ الاستخدام الخطِر بين الجنود 1 من كل 3.
أما الأزواج والزوجات فيعانون معدلات أعلى، على النحو التالي:
زيادة بنسبة 170% في استهلاك الكحول، و180% في القنّب الهندي (الحشيش)، و250% في المواد الأفيونية.
وتؤكد روكاح أن "دوائر الأذى تتسع ليس فقط لمن شاركوا في القتال، بل أيضا لعائلاتهم، وهذا مقلق للغاية".
ويحذر الخبراء من أن الفصل بين علاج الصدمة النفسية وعلاج الإدمان هو خطأ قاتل. تقول روكاح "في البداية، استخدم الناس الكحول أو التدخين لتخفيف التوتر بعد الصدمة، لكن بعد عامين أصبح الإقلاع أصعب بكثير. لا يمكن معالجة الصدمة دون معالجة الإدمان، فالفصل بينهما يخلق ثغرة خطِرة".
وتروي حالة لأحد جنود الاحتياط كتب لها قبل دخوله غزة "أرتدي درعي، أغلق قلبي، نلتقي بعد 3 أشهر"، وتعلق على ذلك بالقول "هؤلاء يعودون من الحرب، فيسقط الدرع، وتبدأ الصدمة الحقيقية بالظهور".
برامج ومحاولات للإنقاذ
استجابة للوضع المتدهور، أطلق المركز الإسرائيلي برنامجا تحت اسم "طريق آخر"، وهو أول مشروع في إسرائيل يعالج الصدمة والإدمان معا.
البرنامج، الذي من المتوقع أن يشمل آلاف المشاركين حتى منتصف عام 2026، يهدف إلى تدريب الطواقم النفسية والطبية على التعامل المتكامل مع الصدمات والسلوكيات الإدمانية، إلى جانب برامج توعية ووقاية في المدارس والبلديات.
حتى الآن، شارك في برامج المركز 283 ألف طالب في المدارس، و 55 ألف شخص في البرامج المحلية، في حين تلقّى أكثر من 21 ألف متخصص تدريبا وتأهيلا في الحرم الأكاديمي للمركز في نتانيا والقدس.
كما افتتح المركز هذا العام عيادة شبابية جديدة باسم "نتع" لعلاج الإدمان بين المراهقين، في وقت يتلقى فيه مئات المرضى العلاج في عياداته المنتشرة بالبلاد. تؤكد روكاح أن مواجهة الأزمة تحتاج إلى تجنيد حكومي ومجتمعي واسع.
ويخلص تقرير يديعوت أحرونوت إلى أن الحرب قد تنتهي ميدانيا، لكن آثارها النفسية والاجتماعية ستظل حاضرة لسنوات طويلة.
ففي الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل إعلان "النصر" العسكري، يواجه المجتمع الإسرائيلي معركة داخلية صامتة ضد الإدمان والاضطرابات النفسية، حيث لم تعد القنابل والدمار في غزة وحدها هي المشكلة، بل أيضا الخراب الداخلي في نفوس الإسرائيليين أنفسهم.