أخبار اليوم - لم يكتف الاحتلال الإسرائيلي بتدمير مخيم جنين شمال الضفة الغربية وتهجير سكانه واعتقال العشرات من أبنائه، وقتل عدد كبير منهم، بل واصل محاولاته لاجتثاث كل من له علاقة بالمقاومة وبحاضنتها الشعبية والوطنية، مستهدفا رموز المخيم وناشطيه داخل السجون الإسرائيلية وخارجها.
ومن بين تلك الرموز ظهر اسم المناضل والأسير الفلسطيني محمود عبد الله "أبو طلال" (49 عاما)، الرجل الذي نعى نفسه قبل استشهاده، ولا تزال كلماته تتردد في أزقة المخيم الذي أحبّه.
وتلك الكلمات التي لطالما شكّلت دعما للمقاومة ولشهداء جنين وأسراها، صارت اليوم نداء أخيرا بعد أن استشهد "أبو طلال" الأحد الماضي داخل سجون إسرائيل، ضحية لإهمال طبي أنهى حياته بصمت كما أراد الاحتلال، لكن صدى رحيله دوَّى بين أبناء المخيم ومدينة جنين بشكل أكبر.
عائلة مناضلة
وقبل اعتقاله الأخير، والذي استشهد خلاله، طورد أبو طلال واعتقل في نهاية الانتفاضة الثانية، حين نشط مع كتائب شهداء الأقصى -الجناح المسلح لحركة التحرير الوطني (فتح)- في مخيم جنين بين عامي 2006 و2007، وقضى آنذاك عامين في سجون الاحتلال.
وينتمي أبو طلال إلى عائلة مناضلة، فابن شقيقه محمد الحربوش نصب كمينا في حارة "الدمج" ضد جنود الاحتلال الذين اقتحموا مخيم جنين، في أغسطس/آب 2024 واستُشهد خلاله، وقبيل استشهاده تلقّى والده اتصالا من ضابط في جيش الاحتلال الإسرائيلي هدّده فيه وطالبه بتسليم ابنه، كما توعَّد أبو طلال -في الاتصال نفسه- بالملاحقة والاعتقال بسبب نشاطه الوطني والمقاوم.
"أنا بلّشت (بدأت) حياتي بشرف، وبدي أنهيها (أريد إنهاءها) بشرف"؛ عبارة تلخّص فلسفة الشهيد أبو طلال في الحياة والنضال، إذ كان يرى أن طريق المقاومة خيار شخصي اتخذه بإرادته الكاملة رغم امتلاكه حياة مستقرة وعملا وراتبا.
ورغم أنه كان أحد أفراد الشرطة الخاصة التابعة للسلطة الفلسطينية قبل تقاعده، فإن ذلك لم يمنعه من الاختلاف مع توجهات السلطة السياسية، ما جعله عرضة للملاحقة خلال حملة "حماية وطن" التي أطلقتها السلطة في ديسمبر/كانون الأول 2024 للقضاء على مجموعات المقاومة في مخيم جنين.
رفيق الكل
ويتحدث الصحفي عبادة طحاينة للجزيرة نت عن علاقته القوية بالشهيد أبو طلال بحكم عمله الميداني في المخيم، مشيرا إلى أنه كان دائم الحضور في كل فعالية أو مواجهة، قريبا من المقاومين، يمنحهم معنويات عالية بخطابه المؤثر وشجاعته الميدانية.
ويرى طحاينة أن أبو طلال شكّل نموذجا نادرا في المخيم، ويقول "كان حضوره يبعث الحماس في كل من حوله، ولم يخشَ التهديدات، لا من الاحتلال ولا من أجهزة السلطة، وكان يقول دائما إن أمامه خيارين فقط: النصر أو الشهادة".
ويؤكد طحاينة أن تأثير أبو طلال لم يقتصر على المقاتلين، بل امتد إلى الأطفال والنساء وكبار السن، إذ كان حاضرا في تفاصيل الحياة اليومية، محاطا بمحبة واحترام الناس، حتى صار اسمه مرتبطا بمخيم جنين كرمز للمقاومة والثبات في وجه الحملات العسكرية المتكررة.
ويبتسم أحد أبناء مخيم جنين والمقرّب من الشهيد أبو طلال، أحمد حواشين، حين يسترجع ذكرياته معه، ويقول للجزيرة نت "كان أبو طلال صاحب نكتة وشخصا له حضوره الخاص، وكان محبّا للحياة رغم قسوة الواقع، ويملأ الجلسات بالضحك والحديث، ويمتلك كاريزما لافتة بين الناس".
ويتحدث حواشين عن الصورة التي عاش بها أبو طلال في وجدان المخيم وتركها قبل رحيله، موضحا أن غيابه شكّل صدمة كبيرة لأهالي جنين، إذ ظل حاضرا في حياتهم كرمز للمقاوم الصادق والبسيط، الذي عاش من أجل الناس وبقي في صفِّهم حتى اللحظة الأخيرة.
نزوح وفقد
أما عائلة أبو طلال التي تهجّرت من مخيم جنين بعد تدمير منازلها الـ18 بالكامل، تعيش اليوم في بيوت مستأجرة متفرقة، كما حال أهالي المخيم الذين هجّرهم الاحتلال من منازلهم، منذ أن شنّ ولا يزال، عملية السور الحديدي في يناير/كانون الثاني الماضي.
وتحمل العائلة وجعا مضاعفا بين فقدان البيت والابن، بينما يحاول أبناؤه الستة وزوجته، التأقلم مع واقع صعب رغم الحزن العميق الذي خلّفه اعتقاله ومرضه ثم استشهاده في الأسر.
ويروي شقيق الشهيد أبو طلال، ميمون عبد الله، للجزيرة نت، تفاصيل الاعتقال الأخير، مبينا أن الاحتلال اعتقله مطلع فبراير/شباط 2025 بعد مطاردة طويلة، وأن إصابته بسرطان في الكبد اكتُشفت بعد 10 أيام فقط من اعتقاله.
ويقول إن الاحتلال لم يقدّم له أي علاج فعلي طوال فترة اعتقاله، واكتفى بإعطائه المسكنات حتى تدهورت حالته الصحية بشكل كبير، رغم مناشدات العائلة المتكررة للمؤسسات الحقوقية من أجل التدخل والسماح بعلاجه أو الإفراج عنه.
منهجية القتل
من جهتها، أكدت مسؤولة الإعلام في نادي الأسير الفلسطيني، أماني سراحنة، للجزيرة نت، أن "الإهمال الطبي كان متعمدا، إذ تُرك أبو طلال من دون علاج فعّال حتى وصل إلى مرحلة لا يمكن التدخل فيها طبيا".
وأضافت "ما جرى مع أبو طلال ليس مجرد إهمال طبي، بل عملية قتل ممنهجة تتكرر مع عشرات الأسرى المرضى داخل السجون، الذين تواجه المؤسسات الحقوقية صعوبة كبيرة في الوصول إليهم أو الحصول على معلومات دقيقة عنهم".
وأوضحت سراحنة أن نقل أبو طلال إلى مستشفى الرملة جاء بعد أن فقد وعيه تماما، وأن الاحتلال "لم يسمح بأي تدخل طبي حقيقي"، مضيفة أن حالته "تُعيد فتح ملف الأسرى المرضى الذين يواجهون الموت البطيء بصمت خلف القضبان".
رحل أبو طلال تاركا خلفه سيرة تختصر حكاية جيل كامل من أبناء مخيم جنين، وهو الذي ظلّ حاضرا في كل زقاق وفعالية وموكب شهيد، يرفع المعنويات ويُجدد الإيمان بالمقاومة والوحدة، لم يكن رجل شعارات، بل عاش كما قال "بدأت حياتي بشرف وسأنهيها بشرف"، فكانت كلماته وعدا تحقّق فعلا.
واليوم، بين أنقاض المخيم وصدى صوته الذي لا يغيب، يبدو أن إرث أبو طلال لم ينته برحيله، بل بدأ يتجسّد في الوجوه الشابة التي سار معها وعلّمها أن الشرف لا يُكتسب بالكلام، بل يُحفظ بالفعل والثبات حتى النهاية.
وباستشهاد أبو طلال، ومن ثم استشهاد المسن كامل العجرمي (69 عاما) من قطاع غزة، أول أمس الاثنين، يرتفع عدد شهداء الحركة الأسيرة والمعتقلين منذ بدء حرب الإبادة إلى 80 شهيدا، وفق نادي الأسير الفلسطيني.
الجزيرة