الأستاذ الدكتور أمجد الفاهوم
يشكّل افتتاح سمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، ولي العهد، لمشروع العقبة الرقمية (Aqaba Digital Hub) نقطة تحوّل استراتيجية في مسار التحول الرقمي الوطني، وخطوة نوعية تضع الأردن في قلب شبكة الاقتصاد الرقمي العالمي. فهذا المشروع لا يقتصر على كونه أول مركز بيانات متكامل في المملكة، بل يمثل نموذجًا هندسيًا وتقنيًا متقدمًا للبنية التحتية الرقمية الإقليمية، بما يتضمنه من مركز بيانات عالي السعة، ومحطة إنزال كابلات بحرية، ونقطة تبادل إنترنت، ومنظومة ألياف ضوئية تمتد عبر الحدود لتربط ثلاث قارات في منظومة واحدة.
من الناحية التقنية، يُعد مركز العقبة الرقمي أول منشأة محايدة للناقلين (Carrier-Neutral) في الأردن، بقدرة تشغيلية أولية تصل إلى 6 ميغاواط قابلة للتوسع حتى 12 ميغاواط، وبمعايير Tier III العالمية التي تضمن الاعتمادية التشغيلية بنسبة 99.982%. يتيح المركز استضافة خدمات الحوسبة السحابية، وتخزين البيانات، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، والحلول المالية الرقمية، إلى جانب خدمات التعافي من الكوارث، والأمن السيبراني، والمعالجة عالية الأداء. إن امتلاك الأردن لمثل هذا المركز يرفع تصنيفه في مؤشرات الجاهزية الرقمية ويؤهله ليكون عقدة إقليمية لنقل البيانات والخدمات السحابية عبر الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
الأهمية الاستراتيجية للمشروع تتجاوز حدوده التقنية إلى بعدها الجيو-اقتصادي. فالعقبة تمثل نقطة التقاء بين الكابلات البحرية الآتية من آسيا وأوروبا وإفريقيا، ما يجعلها موقعًا مثاليًا لإنشاء محطة إنزال بحرية (Cable Landing Station) تعزز الربط الدولي وتخفض كلفة نقل البيانات إلى الداخل الأردني. كما يشكّل نظام التبادل المحلي للإنترنت (Aqaba IX) منصةً حيويةً لتبادل البيانات بين مزودي الخدمة المحليين والإقليميين، ما يقلّل زمن الوصول (Latency) ويرفع كفاءة الأداء بنسبة قد تتجاوز 40%، وهي قفزة نوعية للمستخدمين والمؤسسات على حد سواء.
اقتصاديًا، يُعد المشروع محفزًا قويًا لنمو الاستثمارات الرقمية في المملكة. فقد أعلن صندوق الاستثمار الأردني (JCIF) عن مساهمة استراتيجية في المشروع، ضمن رؤية تهدف إلى جعل العقبة مركزًا إقليميًا للبنية التحتية الرقمية، وجاذبًا للشركات العالمية في مجالات التكنولوجيا المالية (FinTech) والتجارة الإلكترونية وإنترنت الأشياء (IoT). ويُتوقع أن يخلق المشروع مئات فرص العمل في مجالات التقنية، ويعزز الناتج المحلي الإجمالي الرقمي بنسبة تتراوح بين 1 إلى 1.5% خلال السنوات الثلاث الأولى من التشغيل، وفق تقديرات أولية استندت إلى تجارب مراكز بيانات مماثلة في سنغافورة ودبي.
على المستوى الوطني، يفتح مشروع العقبة الرقمية آفاقًا جديدة للتحول الحكومي الإلكتروني، إذ يتيح للحكومة الأردنية استضافة أنظمتها وخدماتها ضمن بيئة وطنية آمنة تتوافق مع أعلى معايير حماية البيانات (ISO 27001 و GDPR). كما يمكّن المؤسسات التعليمية والبحثية من الوصول إلى موارد حوسبة متقدمة تدعم مشاريع الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة، مما يرسّخ مكانة الأردن كمنصة علمية وتقنية في الإقليم.
إن إطلاق هذا المشروع يشير إلى تحوّل نوعي في فلسفة الاستثمار الوطني من البنية التحتية التقليدية إلى البنية التحتية المعرفية التي تخلق القيمة من تدفق المعلومات لا من السلع. فالعقبة لم تعد فقط ميناءً بحريًا، بل بوابة رقمية تربط الاقتصادات والابتكارات، وتحوّل موقع الأردن الجغرافي إلى ميزة تنافسية في عالمٍ تتحكم فيه سرعة البيانات أكثر مما تتحكم فيه حركة البضائع. إنها بداية فصلٍ جديد في الاقتصاد الأردني، عنوانه: من عبور السلع إلى عبور المعرفة.