لماذا تحتاج أوروبا لأردوغان الآن؟

mainThumb
لماذا تحتاج أوروبا لأردوغان الآن؟

23-12-2025 09:58 AM

printIcon

أخبار اليوم - في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2025، وقف رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر والرئيس التركي رجب طيب أردوغان جنبا إلى جنب في أنقرة من أجل إعلان استثنائي. وبموجب هذه الصفقة، ستحصل تركيا على 20 طائرة من طراز يوروفايتر تايفون بقيمة 8 مليارات جنيه إسترليني (حوالي 10.7 مليارات دولار أميركي)، مع خطط إجمالية لشراء 40 طائرة، مما يمثل تحولا جذريا في السياسة الدفاعية الأوروبية تجاه أنقرة.

كان لحفل التوقيع في العاصمة التركية رمزية خاصة، حيث وصل ستارمر برفقة وزير دفاعه جون هيلي وقائد القوات الجوية البريطانية، بالإضافة إلى 3 طائرات تايفون تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني حلقت إلى أنقرة للتأكيد على أهمية الاتفاقية. بالنسبة لتركيا، تعد الصفقة انتصارا سياسيا بعد أكثر من عامين من المفاوضات التي عرقلتها ألمانيا، العضو المحوري في تحالف يوروفايتر.

أما بالنسبة لأوروبا، فقد مثلت اعترافا ضمنيا بأن قدرات تركيا وموقعها الجغرافي ودورها الجيوسياسي هي أمور بات من غير الممكن تجاهلها، بغض النظر عن التوترات السياسية السابقة.


مثّلت الصفقة قطيعة تامة مع النهج الأوروبي السابق تجاه تركيا، الذي شابته المشاركة "الفوقية" المشروطة وفق ما تراه أنقرة، إضافة للتعليق الدوري للمفاوضات، والانتقادات الأوروبية اللاذعة بسبب الخلافات حول طريقة حُكم الرئيس أردوغان والسياسة الخارجية التي كانت تنتهجها تركيا. هذا التغير في النهج الأوروبي لم تعكسه تلك الصفقة وحدها لكنه تجلى بوضوح في اللغة التي تستخدمها المؤسسات الأوروبية في الآونة الأخيرة بشأن تركيا.

ففي عام 2021 أصدر البرلمان الأوروبي تقريرا شديد اللهجة اتهم أنقرة "بالابتعاد عن كل القيم والمعايير الأوروبية في السنوات الأخيرة، وأنها تتعمد مهاجمة واستفزاز الدول الأعضاء في الاتحاد والسياسة الخارجية الأوروبية"، مشيرا إلى أن العلاقات بين الطرفين "وصلت إلى أدنى مستوى لها تاريخيا".


كان التقرير شديدا في لهجته، حيث وصفه حينها مقرر البرلمان الأوروبي ناتشو سانشيز بأنه "الأشد قسوة في انتقاد تركيا". غير أن تلك اللغة الحادة تغيرت بشكل درامي في تقرير برلماني صدر في يونيو/حزيران 2023، وخلُص إلى تقييم مختلف كليا مفاده أن الاتحاد الأوروبي "لديه مصلحة كبيرة في تقوية علاقته مع تركيا"، وكلف الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية حينها جوزيب بوريل، بإعداد خطة حول كيفية إصلاح العلاقات مع أنقرة، كما أوصى التقرير بعودة الحوارات رفيعة المستوى بين الاتحاد الأوروبي وتركيا بعد فترة طويلة من التوتر.

وبحلول أغسطس/آب من ذلك العام، ظهر وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في اجتماع غير رسمي لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي لأول مرة منذ 5 سنوات.

ومنذ ذلك الحين جرت مياه جديدة في العلاقات الأوروبية التركية، لم تتوج فقط بإبرام صفقة يوروفايتر التي عرقلها الاعتراض الألماني طويلا، لكن باعتراف عملي صريح من برلين بأهمية تركيا، عبر زيارة مستشارها فريدريش ميرتس إلى أنقرة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، داعيا من قلب العاصمة التركية إلى شراكة إستراتيجية أعمق مع تركيا استجابة لما أسماه بالتحديات العالمية الناشئة، ومقرا أنه ما من سبيل لألمانيا والاتحاد الأوروبي لتجنب شراكة جيدة وعميقة مع تركيا.

وبشكل لا يقل درامية، بدأت قبرص (اليونانية)، وهي واحدة من أهم خصوم تركيا في أوروبا، في التراجع عن موقفها المتشدد. تجلى ذلك في تصريحات رئيسها نيكوس كريستودوليدس الجريئة لصحيفة "فايننشال تايمز" في وقت تستعد فيه بلاده لتولي الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي مطلع العام القادم، والتي أكد فيها أنه يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يُحدث تغييرا جذريا في علاقته بتركيا وأن يسعى لاحتضان أنقرة كشرط أساسي من أجل حل المسألة القبرصية وإحلال الاستقرار في المنطقة، وقال أيضا إنه ينوي دعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى اجتماعات غير رسمية مع الاتحاد.


القلب النابض للأمن الأوروبي
يدفعنا ما سبق إلى التساؤل عن الدوافع وراء التغير الكبير في الموقف الأوروبي، وهو تحول لا يعكس تقاربا "أيديولوجيا" بين أنقرة وأوروبا بقدر ما يكشف عن عملية إعادة تقييم مدروسة للأولويات الإستراتيجية للقارة، مدفوعة بمتطلبات أمنية ملحة وحتميات جيوسياسية طارئة تفرض مقاربة مختلفة لخريطة الحلفاء والخصوم.

وبحسب مقال لمجلة "أسبينيا" الصادرة عن معهد "أسبن" الإيطالي المختص بالشؤون السياسية والإستراتيجية، فإن الخوف الأوروبي الكبير والمتزايد من روسيا و"عدوانيتها" المستقبلية وانعدام القدرة على التنبؤ بالسياسة الخارجية الأميركية في عهد دونالد ترامب بالإضافة إلى تنامي نفوذ تركيا الملحوظ ودورها في ملفات سوريا وليبيا وغزة وشرق البحر الأبيض المتوسط، كل تلك العوامل وضعت أنقرة في قلب معادلة الأمن الأوروبي وجعلت من الصعب تجاهل أهمية إقامة علاقات وطيدة معها.

حيث تمتلك تركيا ثاني أكبر قوة عسكرية في حلف شمال الأطلسي (الناتو) بعد الولايات المتحدة، إذ تفوق قواتها المسلحة قوات جميع الدول الأوروبية الأعضاء. وقد أدى هذا الثقل العسكري، إلى جانب الموقع الجغرافي لتركيا، إلى تقارب المصالح بين أنقرة وبروكسل فيما يتعلق بالأمن الإقليمي.


والأهم أن تركيا رسخت نفوذها بشكل فعال على البحر المتوسط، البوابة الجنوبية لأوروبا، بفضل الدفعة التي اكتسبها حضورها في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد نهاية العام الماضي وصعود حكومة تنتمي إلى المعارضة التي دعمتها تركيا لسنوات طويلة.

ومنح هذا التغيير أنقرة نفوذا في الهيكلية الأمنية للشرق الأوسط بطريقة تؤثر بشكل مباشر على مصالح أوروبا. وهذا التموضع التركي الجديد، بالإضافة إلى الضغوط التي تتعرض لها القارة العجوز من روسيا (الخصم اللدود) والولايات المتحدة (الحليف المتنمر) على السواء دفعت المفوضية الأوروبية لإعادة إطلاق الحوار رفيع المستوى بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، والذي كان معلقًا منذ عام 2019.

إضافة إلى الشرق الأوسط والبحر المتوسط، ازدادت أهمية تركيا أيضا في سياق الصراع الأوكراني والأمن في البحر الأسود. فقد تولت أنقرة قيادة المكون البحري لقوة المهام المشتركة عالية الجاهزية التابعة لحلف الناتو في يونيو/حزيران 2022، وصنفت فيلقها سريع الانتشار المتمركز في إسطنبول كفيلق قتالي تابع لحلف الناتو في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، مما وضع القوات التركية فعليًا في قلب رد الناتو على أي "عدوان" روسي محتمل.


والأهم من ذلك، أن أنظمة الاستخبارات التركية تُزوّد ​​حلف الناتو وأوكرانيا بنحو 67% من المعلومات المتعلقة بالمجال البحري في البحر الأسود. هذا التزويد الاستخباراتي، إلى جانب القدرات البحرية التركية العاملة في إطار اتفاقية مونترو لعام 1936، يمكّنان تركيا من الحفاظ على توازن دقيق بين التزامات حلف الناتو وإدارة الاستقرار الإقليمي في ​​هذا البحر الحيوي.

وقد عكس دور تركيا كوسيط في البحر الأسود "استقلالية إستراتيجية" واضحة، تتوسط بين الانحياز المطلق لحلف الناتو والحياد الجامد. فقد زوّدت أنقرة أوكرانيا بطائرات "بيرقدار TB2" القتالية المسيّرة وأنظمة صواريخ متطورة قبل الحرب الروسية عام 2022، حين لم يكن أي شريك غربي آخر مستعدا لتوفير مثل هذه القدرات.

وفي الوقت نفسه، حافظت تركيا على حوار دبلوماسي مع موسكو، وعرضت التوسط بين روسيا وأوكرانيا، وقدمت نفسها كمركز محتمل لتزويد أوروبا بالغاز الروسي كما رفضت الانضمام إلى أنظمة العقوبات الغربية المفروضة على شركات الطاقة الروسية.

وأظهر هذا التوازن الإستراتيجي بين تقديم دعم عسكري حاسم لأوكرانيا مع الحفاظ على علاقات اقتصادية ودبلوماسية مع روسيا، قدرة تركيا على العمل كفاعل سياسي مستقل ضمن هياكل حلف الناتو، وليس كجهة تابعة تنفذ توجيهات الحلف. وبمرور الوقت، أدرك صناع القرار الأوروبيون أن استقلال تركيا السياسي يمثل ميزة لا عبئا، مما مكّن أنقرة من أداء وظائف إقليمية لم يكن بإمكان الجهات الأوروبية الأخرى القيام بها دون إثارة تصعيد.

وحتى في جنوب القوقاز تحتاج أوروبا لتركيا، فبحسب مقال نشرته مؤسسة "كارنيغي" للأبحاث فإن أوروبا باتت مهتمة للغاية بضمان إبقاء منطقة جنوب القوقاز ضمن المدار الإستراتيجي الأوروبي وذلك منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وقد كان ذلك الاهتمام مدفوعا بالأساس بالرغبة في إيقاف نفوذ موسكو ومنعه عن هذه المنطقة.

لكن وبحسب كارنيغي فإن نهج الاتحاد الأوروبي تجاه أرمينيا وأذربيجان وجورجيا اتسم بالارتجالية إلى حد كبير، ولم تظلله إستراتيجية متكاملة أو تصور جاد لشراكة طويلة الأمد رغم محاولة الاتحاد تطوير علاقات ثنائية مع الدول الثلاث في مجالات مختلفة.

وبحسب كارنيغي، فإن الاتحاد الأوروبي لا يمكنه بحال أن يتجاهل حجم نفوذ تركيا في تلك المنطقة خاصة أنها الجسر المحوري بين جنوب القوقاز وآسيا الوسطى والغرب، فضلا عن كونها مركز عبور الطاقة الرئيسي من بحر قزوين لأوروبا. إن هذا النفوذ التركي في تلك المنطقة التي تهم الاتحاد الأوروبي قد تم تجاهله دائما من قبل الاتحاد أو في أحسن الأحوال نُظر إليه بريبة لفترة طويلة، قبل أن تُدرك أوروبا حاجتها للنظر إلى المسألة بطريقة أكثر عقلانية وبرغماتية.

قلب القارة الصناعي الجديد
بيد أن أهمية تركيا بالنسبة للأمن الأوروبي تتجاوز المنفعة الدبلوماسية، لتقدم أجوبة عن تساؤلات جوهرية بشأن قدرة حلف الناتو على الحفاظ على الردع العسكري في مناطق جغرافية متعددة، في ظل احتمالية تقليص الوجود العسكري الأميركي في أوروبا، وتركيز الاهتمام الإستراتيجي على الأميركتين ثم منطقة المحيط الهادي بحسب ما جاء في الإستراتيجية الأمنية الأخيرة للإدارة الأميركية.


لقد حققت تركيا قفزة كبيرة في تطوير قدراتها العسكرية معتمدة في المقام الأول على التصنيع المحلي، ومع ذلك تظل القوات الجوية التركية (التقليدية) متأخرة نسبيا عن مسيرة التحديث، بسبب العقوبات التي فرضت على تركيا في مراحل من تاريخها الحديث "بسبب القضية القبرصية" ثم بسبب استبعادها من برنامج المقاتلة "إف-35" على خلفية شرائها نظام الدفاع الصاروخي الروسي "إس-400".

ويتكون أسطول المقاتلات التركي الحالي في معظمه من طائرات "إف-16" أُنتج العديد منها خلال حقبة الحرب الباردة، وهو ما يضعه في موقع متأخر تقنيا عن المنافسين في اليونان ودولة الاحتلال الإسرائيلي.

سعت تركيا إلى معالجة هذه الفجوة مجددا عبر التصنيع المحلي، من خلال مشروع مقاتلة الجيل الخامس الشبحية "كآن" المنتظر أن تدخل الخدمة في وقت ما خلال العقد القادم.

وتسهم طائرة يوروفايتر تايفون في سد هذه الثغرة من خلال دمج إلكترونيات طيران متطورة وأنظمة "جو-جو" بعيدة المدى غير متوفرة في طائرات إف-16 التركية مثل صواريخ "إم بي دي إيه ميتيور" التي تتمتع بقدرة اشتباك خارج مدى الرؤية البصرية. وعلى الرغم من أن أولى عمليات التسليم (في عام 2030) تبدو بعيدة زمنيا، فإنها تتوافق مع جداول خطط حلف الناتو لتحديث القوات، وتوفر قدرة انتقالية لتركيا ريثما تُطوّر وتختبر طائرتها محلية الصنع.

في غضون ذلك، باتت أوروبا تنظر بشكل متزايد للصناعات الدفاعية التركية كمكمل للإنتاج الدفاعي الأوروبي وليس كمنافس له. وقد حققت شركات الدفاع التركية أرقام تصدير قياسية بلغت 7.1 مليارات دولار في عام 2024، مع توقعات بتجاوز 8 مليارات دولار أميركي في عام 2025. وبلغت صادرات شركة بايكار وحدها 1.8 مليار دولار أميركي في عام 2024، بفضل أنظمة طائراتها المسيرة واسعة الانتشار، حيث تسيطر الشركة التركية على ما يقارب 65% من سوق تصدير الطائرات القتالية المسيّرة عالميًا، مما يجعلها "أكبر بثلاث مرات من أقرب منافسيها الأميركيين".



أثبتت هذه الأنظمة، المصنّعة في تركيا، أهميتها العسكرية الحاسمة في العديد من النزاعات المعاصرة. والمثال الأهم أوروبيا هو ما أظهرته القوات الأوكرانية التي تشغل طائرات بيرقدار المسيّرة من فعالية مدمرة ضد الدبابات والسفن الحربية الروسية وتدميرها العديد من التشكيلات المدرعة وأنظمة الدفاع الجوي.

وقد ولّد نجاح الأنظمة التركية المسيّرة في أوكرانيا طلبا دوليا محموما، وجعل تركيا موردا رئيسيا للتكنولوجيا العسكرية المتقدمة لحلف الناتو بما في ذلك الولايات المتحدة، وجمهورية التشيك، ورومانيا، وبولندا، وسلوفاكيا، وبلغاريا، إلى جانب مبيعاتها لعملاء في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا.

وقد أدى الاعتراف الأوروبي بتطور الصناعة الدفاعية التركية إلى إطلاق مبادرات تعاون صناعي مكملة للأطر السياسية والأمنية. فعلى سبيل المثال، وصف مسؤولون دفاعيون بريطانيون صفقة يوروفايتر بأنها حافز لتعاون صناعي دفاعي أوسع نطاقا، وبالمثل، أدركت ألمانيا أهمية الشراكة التكنولوجية والمشروعات الدفاعية المشتركة مع تركيا.

ويعكس هذا البُعد "الصناعي" إدراكا متناميا بأن متطلبات تحديث الدفاع الأوروبي يمكن تعزيزها من خلال التعاون مع الشركات التركية، بدلا من الاعتماد حصريا على الموردين الأوروبيين أو الأميركيين. ويوفر الإنتاج التركي للسفن البحرية المتقدمة، وأنظمة الصواريخ، والطائرات المسيّرة، ومعدات الحرب الإلكترونية، بدائل فعالة من حيث التكلفة للحلفاء الأوروبيين لسدّ الثغرات في قدراتهم العسكرية.

أبعاد اقتصادية
بخلاف السياسة والأمن، لدى العلاقات الأوروبية التركية جذور اقتصادية راسخة تتراوح من العلاقات التجارية الثنائية المباشرة إلى متطلبات أمن الطاقة الحيوية. فقد بلغ حجم التجارة الثنائية بين الاتحاد الأوروبي وتركيا مستويات قياسية تجاوزت 210 مليارات يورو (246 مليار دولار) في عام 2024، حيث حافظت تركيا على مكانتها كخامس أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي، ممثلة 4.2% من إجمالي تجارة الاتحاد الأوروبي.

في المقابل، يُعد الاتحاد الأوروبي أكبر سوق موحدة لتركيا من حيث الصادرات والواردات، إذ وُجهت 41% من الصادرات التركية إلى أسواق الاتحاد الأوروبي في عام 2024، بينما بلغت نسبة الواردات التركية من الاتحاد الأوروبي 32.1%.


ويرتكز هذا الترابط التجاري على اتفاقية الاتحاد الجمركي التأسيسية لعام 1995 بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، والتي أنشأت منطقة اقتصادية متكاملة رسخت المصالح التجارية الأوروبية والتركية. وسهّل الاتحاد الجمركي عمل الشركات الأوروبية متعددة الجنسيات التي أنشأت مصانع في تركيا للاستفادة من انخفاض تكاليف الإنتاج مع الحفاظ على امتيازات الوصول إلى أسواق الاتحاد الأوروبي.

ونتيجة لذلك، تُشغّل آلاف الشركات الأوروبية مصانع في تركيا، مما يوفر فرص عمل للعمال الأتراك ويحقق أرباحا للشركات الأوروبية. وقد أدى هذا التكامل الصناعي إلى خلق مصالح هيكلية مقاومة للاضطرابات الجيوسياسية، إذ امتلكت مجتمعات الأعمال الأوروبية مصالح اقتصادية كبيرة في الحفاظ على علاقات تعاونية مع تركيا.


تسير اتفاقية يوروفايتر، رغم طابعها الدفاعي، على الخط الاقتصادي نفسه. ويُنتظر أن تحقق الصفقة فوائد اقتصادية فورية للمملكة المتحدة، تُقدّر بنحو 20 ألف وظيفة في قطاع التصنيع على مدى 10 سنوات. وخلال زيارة فريدريش ميرتس إلى تركيا في أكتوبر/تشرين الأول 2025، أعلنت برلين وأنقرة عن نيتهما زيادة حجم التجارة الثنائية من 50 مليار يورو حاليا إلى 60 مليار يورو في المدى القريب.

تزامنت هذه المبادرات الثنائية مع جهود الحوار الاقتصادي الأوسع نطاقا بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، بما في ذلك المجلس الأوروبي التركي للتجارة والاستثمار (ETTIC) الذي أُنشئ لتنسيق مصالح الشركات وتعزيز التحول الرقمي، ومبادرات الطاقة النظيفة.

وفي هذا السياق، يبرز تحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي لعام 1995 ركيزة أساسية في مناقشات التعاون الاقتصادي التركي الأوروبي خلال العامين الماضيين، وينتظر أن يشمل التحديث التجارة الرقمية والخدمات والقطاعات الصناعية المتقدمة بما يسمح بنمو الناتج المحلي الإجمالي التركي بنسبة 1.44%، بينما سينمو الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي بنسبة 0.01%، مع مكاسب تُقدر بنحو 12.5 مليار يورو لتركيا و5.4 مليارات يورو للاتحاد الأوروبي.

كما أثبتت اعتبارات أمن الطاقة أهميتها البالغة في تطور العلاقات الاقتصادية بين أوروبا وتركيا. إذ تحتل أنقرة موقعا محوريا في سلاسل إمداد الطاقة الأوروبية بفضل سيطرتها على ممرات خطوط الأنابيب الرئيسية التي تنقل الغاز من منطقة بحر قزوين وأذربيجان وآسيا الوسطى إلى الأسواق الأوروبية.

ويمثل خط أنابيب "ترك ستريم" طريق التصدير الرئيسي للغاز الروسي بتجاوز أوكرانيا، حيث ينقل ما يقارب 31 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا، ويمر جزء منه إلى أوروبا. كما يمثل خط أنابيب "ترانس أدرياتيك" (TAP)، الذي ينقل الغاز الطبيعي الأذربيجاني عبر الأراضي التركية إلى إيطاليا ومنها إلى اليونان والاتحاد الأوروبي، قناة حيوية أخرى للطاقة الأوروبية.

وإلى جانب البنية التحتية القائمة يروّج المسؤولون الأتراك لفكرة جعل أنقرة مركزا إقليميا لتوزيع الطاقة قادرا على إعادة تصدير واردات الغاز الطبيعي المسال إلى الأسواق الأوروبية. وتبلغ الطاقة الاستيعابية لتركيا حوالي 75 مليار متر مكعب سنويا، مقابل استهلاك محلي يعادل 50 مليار متر مكعب، مما يخلق نظريا فائضا قدره 25 مليار متر مكعب متاحا للتصدير إلى الدول الأوروبية المجاورة.

ويتطلب تحقيق هذه القدرة التصديرية تطوير البنية التحتية على الحدود اليونانية والبلغارية، وهو أمر لا يمانعه مخططو الطاقة الأوروبيون الذين باتوا يدركون أن تنويع مصادر إمدادات الطاقة وإيجاد مسارات بديلة مستقلة عن السيطرة الروسية يشكلان هدفين إستراتيجيين للقارة العجوز.

بشكل مماثل، من المرجح أن الاختراق الذي حققته تركيا مع تركمانستان هذا العام في مجال الغاز الطبيعي أثار المزيد من الترقب والفضول في أوروبا. ففي فبراير/شباط 2025، اختتمت تركيا وتركمانستان مفاوضات بشأن اتفاقية تاريخية تُمكّن من تدفق الغاز الطبيعي التركماني عبر البنية التحتية الإيرانية إلى تركيا، ومنها إلى الأسواق الأوروبية، وهو مشروع كانت تعرقله سابقًا معارضة روسية وإيرانية. وتضيف تركمانستان بعدا جديدا لجهود تركيا للتحول إلى مركز للغاز، مما يجعلها بالتبعية أكثر أهمية لأمن الطاقة في أوروبا.

ليست على قلب رجل واحد
رغم كل هذه الأسباب التي تمهد لتوافق تاريخي بين أوروبا وتركيا، من المهم الإشارة إلى أن دول القارة العجوز ليست على صفحة واحدة تماما فيما يخص الموقف من تركيا ويرجع ذلك إلى المصالح المتباينة للاعبين الأوروبيين أنفسهم. مثلا تعد بولندا، العضو الأهم في الجناح الشرقي للناتو، من بين أكثر الدول رغبة في تعميق العلاقات مع أنقرة حيث ترى فيها بوابة لاحتواء التهديدات الروسية.

لا عجب إذن أن وارسو هي أول دولة في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو تشتري طائرات بيرقدار "TB2" التركية بدون طيار، بجانب حصولها على أنظمة استطلاع ومراقبة من شركة الدفاع التركية "أسيلسان".

ولدى دول الجنوب الأوروبي، خاصة إيطاليا وإسبانيا، موقف مشابه، فموقعها في جنوب القارة الأوروبية يجعلها تدرك حجم النفوذ التركي فيما يتعلق بأمن البحر الأبيض المتوسط، وجدير بالذكر هنا أن إسبانيا باتت مؤخرا من أبرز موردي الدفاع وشركاء الإنتاج المشترك لتركيا، كما وقّع الطرفان مذكرة تفاهم في ديسمبر/كانون الأول 2024 لتطوير طائرة التدريب التركية المتقدمة "حرجيت" لصالح القوات الجوية الإسبانية، أعقبها استثمارات إسبانية بقيمة 1.375 مليار يورو لتطوير الطائرة.

وبالمثل، ترى إيطاليا بقيادة رئيسة الوزراء جورجا ميلوني في تركيا شريكا دفاعيا لا غنى عنه لتحقيق أهدافها الصناعية وتصدير أسلحتها بل الاستفادة من الخبرات التركية في هذا المجال أيضا. ففي مارس/آذار من العام الحالي وقعت شركة ليوناردو الإيطالية مع شركة بايكار التركية مذكرة تفاهم هدفها تأسيس مشروع مشترك لإنتاج الطائرات بدون طيار، وهو قطاع لا تزال أوروبا متأخرة فيه نسبيا مقارنة بتركيا.

ولا عجب إذن أن تفوقت كل من إسبانيا (34%) وإيطاليا (24%) وألمانيا (19%) على الولايات المتحدة (17%) على صعيد صادرات الأسلحة إلى تركيا وفق بيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، رغم أن ألمانيا لا تزال أكثر ترددا نسبيا من دول جنوب أوروبا بشأن الانفتاح على أنقرة.

لكن هذه المواقف المرحّبة بتركيا، لا تتفق معها فرنسا واليونان، حيث ترى باريس في أنقرة منافسا جيوسياسيا لها على النفوذ في أفريقيا ودول الجنوب العالمي بشكل عام، بخلاف موقفها المناهض للإسلام السياسي (الذي ترى الحكومة التركية ممثلا وراعيا له)، ولا أدل على الفجوة في العلاقات من حقيقة أن تركيا كانت في المرتبة الثلاثين بين أكبر مشتري الأسلحة الفرنسية في الفترة 2013-2022.

من جانبها، تعد اليونان أبرز الدول المعارضة لتركيا في أوروبا، وكانت معارضة أثينا هي السبب الرئيسي وراء حرمان تركيا من المشاركة في مبادرة دفاعية أوروبية باسم "العمل الأمني ​​لأوروبا" أو "سيف" (SAFE)، وهو برنامج بقيمة 150 مليار يورو (173.5 مليار دولار) مخصص لتعزيز القدرات العسكرية لأوروبا بمشاركة من الدول "الأوروبية" غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. والسبب ببساطة هو أن أثينا ترى في أنقرة عدوا تاريخيا وقد دخل البلدان في توترات كبيرة ونزاعات عالقة متعلقة بجزر بحر إيجه وبالمجال الجوي والحدود البحرية.

وتُظهر هذه الواقعة القيود المفروضة على العلاقات التركية الأوروبية والتي لا تزال رغم تحسنها دون طموحات أنقرة التاريخية بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ويبقى مصير هذه العلاقة، وإذا ما كانت ستتحول إلى شراكة إستراتيجية فعالة أم ستظل مجرد تسوية مؤقتة تستجيب للتهديدات المشتركة، رهنا باستمرار المصالح المشتركة بين الطرفين، وقدرة هذه المصالح على تجاوز أسباب التوتر السابقة حول قضايا السياسة الداخلية والخارجية.

ومع ذلك، تُشكل صفقة يوروفايتر نفسها دليلا لا لبس فيه على تحول الفكر الإستراتيجي الأوروبي واعترافه بأن تركيا تشغل مكانة لا غنى عنها في الأمن الأوروبي، تستلزم دمجها لا تهميشها.

الجزيرة + مواقع إلكترونية