لوسيلا

mainThumb

19-05-2023 06:19 PM

printIcon

يبدو أن النفس البشرية لم تعرف يوما أن تقف عند العبرة من قصة قابيل وهايبل ...

أن تولد أنثى في مجتمع ذكوري ، حيث القصور والأمراء والسادة والساسة ، حيث المؤامرات والكواليس المظلمة ، في تلك الأماكن التي تعشق السلطة وتحترم القوة وتبحث عن السيطرة وتعشق الدسائس والمؤامرات ، لماذا يجب أن يكون ولي العهد هو الذكر ولو ولد بعد سنين طوال ، أن يكون الذكر هو صاحب السطوة والسلطة والقدرة والإمارة والملك لا لشيء إلا لأنه ذكر، هل كان التطلع إلى ما عند الغير إلا طريق النهاية ، لماذا كل شيء يشفع له لأنه ذكر جبنه وغباؤه وضعفه وقلة علمه وقلة حيلته وقلة خبرته كل هذا يشفع له ، لا لشيء إلا لأنه الذكر، ولأن الشعوب تريد ذكرا حتى لو لم يكن رجلا ، وسيبقى هو وريث العرش ووريث الأمبراطورية والحاكم الأمر الناهي لكل شيء والسبب هو أنه ذكر ...

لم تتقبل لوسيلا إبنة الأمبراطور ماركوس اوريليورس وشقيقة الإمبراطور كومدوس هذا الأمر فهذا الفتى الذي ولد بعدها بإثني عشر عاما قد سلبها كل شيء، فقد كانت تحظى بنوع من السلطة وتجلس مع الساسة والعسكر وكبار رجال الدولة في مجالس إبيها، وقد كان لها نفوذ يمتد من كونها أبنة الأمبراطور الكبرى ومن عائلة ممتدة في الحكم وفي السلطة والسياسة ، فجدها من هذه الجهة قنصل ومن تلك الجهة إمبراطور كل هذه الأمال تبخرت لأن هناك ذكر ...

وهذا الفتى الغارق في الملذات والشهوات والبعيد كل البعد عن الحكم ومتطلباته ، ها هو يتسلى مع عبيده الذين حررهم وجعلهم أصدقاء سوء وفساد ومجالس نساء وخمر ، وهي من هي في العقل والجمال والقدرة ولا ينقصها شيء إلا أن تكون ذلك ذكر ولكنها لن تكون، وهو مع كل فساده ولهوه وفسقه وضعفه سيكون الحاكم الآمر الناهي الإمبراطور لأعظم دولة على وجه الأرض والقطب الأوحد والحاكم الأوحد فيها فقط لأنه ذكر ...

هل هذا هو العدل هل تتقبل هذا ، هي وقفت عاجزة عن ثني أمها فاوستينا من القيام بمغامرتها المجنونة من أجل إنقاذ هذا الفاسد ، وكيف أن أمها ضحت بنفسها من أجله ، والأمة دخلت في حرب من أجله ، وهي تراقب اليوم والدها وهو يسير به ليل نهار محاولا جعله ذلك الرجل المناسب حتى أنه دبّر له زيجة تساعده وترفع من شأنه ليكون الإمبراطور القادم ، أين العدل في كل هذا ، كان كل هذا يحرقها ويشعل نيران الغيرة والحسرة في قلبها ، كان يفسد عليها حياتها ، فلا تقدر على النوم ولا تستطيع أن تستمع بطعم الحياة ولا طعامها ، وهي قد أجبرت على زيجة مدبرة لا لتكون إمبراطورة ولكن لتحافظ على مكتسبات العائلة كما يحدث مع الفتيات اللواتي هن مثلها ، فأي حياة هذه ، كل هذا وأكثر كان يشتعل في تلك النفس ، نفس لوسيلا المليئة بكل هذه المشاعر السلبية والحاقدة والحاسدة لهذا الفتى الذي أخذ كل شيء بلا تعب ولا نصب ، فقط هكذا هو مجرد حظ عاثر لعب دوره ليكون هذا الفاسق ذكرا ويأخذ كل شيء ...

أوصى ماركوس اوريليورس بولاية الأمبراطورية لإبنه كومدوس ، وقد سارع مرض الوالد بالطاعون بوفاته ، ليصبح هذا الفتى هو الإمبراطور ، هل يصلح أم لا يصلح هل هو على قدر هذه المهمة الجلل ، أن يكون الرجل الأعظم في العالم والسلطة الأعلى والقوة الأكبر من كل القوى المحيطة به ، هو في الحقيقة قائد أعظم قوة على وجه الأرض ، فهذه الجيوش الرومانية أنهت قرطاج واليونان والفرس ولم يعد هناك قوة على وجه الأرض تستطيع مواجهتها ، نعم كان هناك تحديات من قبائل على أطراف الأمبراطورية من الغال ومن البربر الجرمانين ولكنها قبائل متفرقة وليست جيوشا ، فجميع الجيوش خضعت لقوة روما ، وكل الطرق تؤدي إلى روما ، وروما يحكمها هذا الأحمق الضعيف الفاسق ، هذا ما كان يشتعل في رأس لوسيلا ...

بدأت تتحرك هنا وهناك في محاولة تحريك بعض الرجال الأقوياء من مجلس الشيوخ ليكونوا يدها في التخلص منه وعونا لها في عودة السلطة إليها ، هذا ما ظنت أنه سيحدث ، ومع علمها بأن إخيها أعلن عن المباريات في الكلوسيوم هنا بدأت التحرك هي ومن معها كان الهدف هو إستغلال هذه المناسبة حيث الكثير من الأحداث والأماكن التي من الممكن أن يتواجد فيها وهذا يجعل من السهل التخلص منه ، وما زاد في حنق وغضب بعض رجال مجلس الشيوخ وشجعهم هو أن كومدوس وضع كبير المستشارين والمسؤول عن التنسيق والإتصال معهم فتى من فتيانه المحررين هو ساتورس ، كيف يضع رجل كان عبدا في هذا المنصب الذي يمثل الرجل الثاني في الدولة ، لقد ساهم هذا في خلق حالة من الغضب في نفوس مجلس الشيوخ ، إضف إلى ذلك أيضا في نفس فتى آخر من فتيانه المحررين الذين كانوا يلهون معا وهو كلياندر ولهذا قصة سنأتي عليها لاحقا ، إشتعلت في نفسه نيران الحسد والحقد على زميله هذا الذي أصبح الرجل الثاني في الإمبراطورية الرومانية والمستشار الأعلى للإمبراطور وسيدفع ثمن هذا الطمع لاحقا ...

كل هؤلاء كانوا الطريق التي حاولت لوسيلا أن تسلكه للتخلص من أخيها ، فتى من فتيان إخيها ورجل من مجلس الشيوخ إمتلىء حقدا وحسدا وفي نفس الوقت هو على علاقة مع لوسيلا تدفعه للقيام بهذا الفعل ليكون قريبا منها وصاحب حظوة عندها وأخرون إلتقت أهدافهم على التخلص من كومدوس ، كل هذا هو جزء من حياة القصور ومؤامراتها ودسائسها ، وإذا لم تستطع تقبل هذا فأعلم أن هذا وأكثر منه حدث ويحدث في هذه القصور على مدى العصور ...

بدأت المؤامرة تكتمل وخيوطها تتجمع وكان كل شيء يشير إلى نجاحها ، فهذا الفتى كلياندر سيبعد صديقه المستشار عن الإمبراطور في الليلة المنشودة ، وسيستغل عضو مجلس الشيوخ كانتييانوس اللحظة المنشودة لطعن الإمبراطور على حين غفلة ، وكان الأمر سينجح ، وفي اللحظة الأخيرة فشل كانتييانوس عضو مجلس الشيوخ في قتل الإمبراطور ليقع في يد الحراس ، ولكن الفتى إستطاع قتل صديقه المستشار وعرّض نفسه لجرح سطحي حتى يوحي للإمبراطور الذي نجا بأنه كان عرضة لمحاولة الإغتيال هو أيضا ، نعم ينتقد الكثيرون موقف كومدوس من ترفيع وضعي الشأن هؤلاء الذين هم من العبيد فضلا عن أن يكونوا حتى من عامة الناس وهو أمر غير مقبول في روما ، أن يرتفع هؤلاء إلى هذه المناصب ، فهؤلاء فيهم خسة في الطبع وضعف في الولاء ولن يستطيعوا أن يكونوا على قدر رجال الروما الشرفاء والأحرار ، وأقول بأن عضو مجلس الشيوخ ومن شارك في المؤامرة وحتى أخت كومدوس من علية القوم والشرفاء أيضا ، ويجب أن تختار من يكون حولك وأهل لثقتك نعم ولكن يجب أن تبقى حذرا وتختبرهم دائما خاصة في هذه المناصب لأنها تغري من حولك بشكل دائم فثباتهم على قيمهم ومبادئهم يعد أمر صعبا إلا على تلك النفوس العظيمة ، فليس كل من يدعي الشرف والرفعة والأصل يملكها ولا يملك تلك النفس ...

فشلت المؤامرة في إغتيال كومدوس وتم القبض على لوسيلا ونفيها وتعرضت للإغتيال لاحقا ، أما الباقي ما عدا هذا الفتي كلياندر فلم يستطيع أحد أن يقنع الإمبراطور بأنه كان شريكا في المؤامرة ، لقد أتقن اللعبة فنجا ولكن الأخرين كان مصيرهم الإعدام ...

لم يستطع كومدوس تخيل هذه المشاعر السلبية الكبيرة التي إتضح بأن أخته تحملها له ، هو لم يفعل شيئا ، نعم هو أخذ هذا الحكم لكن لم يأخذه منها ، هذا ما كان يؤمن به وهذا ما كان يحدث في كل الحالات المشابهة والظروف السابقة ، وبأن هذه الظروف وهذه الإعطيات هي حقوق مكتسبة لمن يستحقها ولكن كيف إستحقها لم يكن هذا الأمر يشغل باله ، وكما في الكثير من الثقافات هي حقوق ترفعها الكثير من الثقافات إلى درجة مقدسة وقد تصل إلى مرتبة الألوهية ، ويبدو أن من مارس هذه السياسة على الشعوب أدرك بأنه يجب أن يحيطها بحالة من القداسة حتى لا يفكر أحد في محاولة سلبها منه ، ولكن من هم في اللعبة يدركون ما هو مقدس في الحقيقة من الذي تم منحه صفة التقديس لأهداف كثيرة أهمها صرف الاخرين عن التفكير أو محاولة الوصول لهذا المكان أو نيل هذا المنصب ...

ما يهمنا هو طبيعة العلاقة بين لوسيلا وكومدوس وهي ليست علاقة غريبة أو بعيدة عن الحكم وحتى عن التنافس على متاع الحياة ، ففي هذه القصور يحدث القتل من الأب للإبن ومن الأم للإبن ومن الأخ للأخ ومن الأخت للأخ والعكس وكل ذلك في سبيل السلطة هي تحدث في كل الإتجاهات العامودية والافقية في سبيل السلطة ، لم يستوعب كومدوس ما حصل ولن يستطيع أي عقل طبيعي بعيدا عن المؤامرات والأطماع الشبهات أن يستوعبه ولكنها لعبة القصور ولعبة السلطة ، وتلك الحقوق التي نظن بأنها تخص هذا أو ذاك ، أطماع تكبر ترعاها شبهات وأحلام وشهوات ، ولكن نهايتها على الأغلب وخيمة ، ولا تمس فقط صاحبها بل حتى من يحيطون به ...

إبراهيم أبو حويله ...