من بين الركام .. أبٌ يتمسّك بالأرض بعد استشهاد أبنائه الثلاثة

mainThumb
من بين الركام.. أبٌ يتمسّك بالأرض بعد استشهاد أبنائه الثلاثة

02-05-2025 05:00 PM

printIcon

أخبار اليوم - في زقاقٍ ضيّق من مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، يجلس الحاج عادل أبو عبدو، رجلٌ في الثالثة والستين من عمره، تحيط به وجوه الجيران ورفاق أولاده الشهداء.

بين صمتٍ موجع وكلمات تعزية، يرفع أبو عبدو رأسه إلى السماء، يتمتم بحمد الله عز وجل، ويردّد دعاءً خافتًا بالشفاء لمن بقي من أبنائه الجرحى، بعد أن حصد القصف الإسرائيلي أرواح ثلاثة من فلذات كبده: إبراهيم (33 عامًا)، ومؤيد (25 عامًا)، وندى (22 عامًا).

ولم تكن هذه المأساة الأولى التي عاشها الحاج أبو عبدو، فقد قُصف منزله مرتين؛ الأولى في اليوم الرابع والثلاثين من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي بدأت في السابع من أكتوبر 2023، والثانية فجر السادس والعشرين من أبريل 2025، حين مزّق صاروخ إسرائيلي خيمته، وخطف أحلام أولاده الثلاثة.

ورغم كل ما حدث، بقي العم أبو عبدو في مدينة غزة، ولم يغادرها، ولم يتردد في قرار البقاء، رغم أن أسرته نزحت إلى الجنوب. فبقي هو وابنه "إبراهيم" يتنقلان بخفية بين أزقة المخيم، يجمعان ما تيسّر من طعام وشراب، ويتحايلان على ظروف القصف والحصار، حتى عادا إلى منزلهما المدمّر في ديسمبر 2023.

عزيمة فولاذية

يقول أبو عبدو لصحيفة فلسطين: "عدت لأحرس ما تبقّى من بيتي، من ذكرياتي، من جدران شهدت بكاء أطفالي وضحكاتهم.. لن أترك هذه الأرض مهما حصل".

photo_2025-05-02_16-22-14.jpg


ومع عودة الحياة تدريجيًا إلى المخيم في يناير 2025، بدأ أبو عبدو وأولاده بترميم جزء بسيط من منزلهم المدمّر، وأقاموا خيامًا وسط الركام، وسقفوا غرفة كانت مهدّمة لتأوي بناته الأربع وزوجته.

وبرغم البرد والجوع والخوف، صنعوا مساحة صغيرة للأمل على أنقاض منزلهم، إلا أن صاروخًا في ليلة ظلماء نسف كل ذلك في لحظة واحدة.

ويتحدث أبو عبدو عن تلك الليلة بصوتٍ يقطعه الألم: "في تمام الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل، دوّى انفجار هائل. عرفت في لحظتها أن أولادي هم المستهدفون. خرجت أركض، لم أجد الخيمة؛ اختفت كأنها لم تكن، بين الركام والدماء والظلمة. وجدت جسد ابني البكر إبراهيم تغطيه قطعة من الخيمة، ويبعد عنه بأمتار مؤيد، غارق في دمائه".

ويكمل الأب بعد أن تنهد، وقد بدت ملامح الحزن تكسو وجهه: "ما هي إلا لحظات بسيطة حتى سمعت صرخة أوجعت قلبي، جاءت من جهة أخرى، كانت زوجتي تصرخ، فقد أصيبت ندى بشظية في رأسها ورقبتها، واستُشهدت بشظايا القصف".

يبكي الستيني أبو عبدو صامتًا، ثم يمسح دموعه بيدين تشققتا من الألم، ويضيف: "الحمد لله، كل أبنائي جُرحوا، بعضهم نجا، لكن قلبي لم يعد كما كان".

في عينيه حزن ساكن، وفي صوته عزيمة فولاذية، ويردّد العم أبو عبدو: "الاحتلال يريدنا أن نهاجر، يريدنا أن نترك أرضنا، أن ننهزم، لكننا لن نغادر. إن هاجرنا، فلن يكون إلا إلى بلدتنا الأصلية، السوافير الغربية، التي احتلها جيش الاحتلال والمستوطنون عام 1948 وهجّروا سكانها منها. وإلا فالموت في غزة أشرف من الرحيل عنها".

عمود البيت

ورغم القصف والدمار والفقد، لا يزال أبو عبدو يؤمن أن بقاءه مقاومة، وأن صموده رسالة، وأن الشهادة وسام على صدر أبنائه، يتحدث عنهم بكبرياء كأنهم ما زالوا على قيد الحياة.

وعن إبراهيم، يقول: "كان عمود البيت، خدومًا، طيّب القلب، حفر آبارًا، ومدّ شبكات مياه للجيران، حتى حين انقطعت المياه عنا، وكان يمدّ غيرنا بها. كنت أعاتبه، فكان يضحك ويقول: يا أبي، غيرنا أحوج منا".

أما مؤيد، فيبتسم وسط الدموع ويقول: "كان منشدًا بصوت عذب. يومًا ما، سمعت نشيدًا شجيًّا من هاتف ابن أختي، طلبت أن أراه، فإذا به مؤيد.. لم أصدق، فصوته كان يدخل القلب. وكنت أطلب منه دائمًا أن يقرأ لي القرآن".

ويكمل عن ندى، الفتاة التي كانت تملأ البيت حنانًا: "كانت الأقرب إلى قلب أمها، تساعد الجميع بلا كلل، ولم تكن تغادر أمها لحظة. كانت نورًا في هذا الظلام".

ورغم قسوة المصاب، لا ينكسر الحاج عادل، ولا يملّ من ترديد جملة واحدة: "الحمد لله على ما أعطى، والحمد لله على ما أخذ، وإنا لله وإنا إليه راجعون".

ويختم حديثه بحزم: "الاحتلال جرّب كل وسائل القتل والتهجير معنا؛ قصف، تجويع، حصار، لكنه لم يكسرنا. وسيفشل كما فشل سابقًا. لن نترك غزة، وإن خرجنا منها، فوجهتنا الوحيدة هي بلادنا المسلوبة عام 1948. أما الهجرة إلى أي مكان آخر؟ مستحيل".

المصدر / فلسطين أون لاين