عيد "تحت الرَّماد" في غزَّة .. الحرب تسلب الطُّقوس والفرح معًا

mainThumb
عيد "تحت الرَّماد" في غزَّة... الحرب تسلب الطُّقوس والفرح معًا

10-06-2025 10:31 AM

printIcon

أخبار اليوم - في وقت استقبل المسلمون حول العالم عيد الأضحى المبارك بفرح وابتهاج، حل على أهالي قطاع غزة للعام الثاني على التوالي تحت وطأة المجاعة، والدمار، والحصار الخانق، والقتل مع استمرار الحرب منذ أكثر من سنة ونصف السنة، حوّلت حياة السكان إلى مأساة حقيقية.

إنه العيد الرابع الذي يحلّ على أهالي القطاع وقد نزعت حرب الإبادة من تفاصيله كل ملامح الفرح، بل بات يوم العيد مصدر قلق جديد، وضغوط نفسية واجتماعية لا تقل قسوة عن القصف والجوع. فماذا يعني أن يأتيك ضيوف العيد، وأنت لا تملك ما تقدمه لهم سوى الماء؟

فرحان حق، نائب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، يقول في أحدث تصريح له إن الوضع الإنساني في غزة بلغ حدًا كارثيًا، حيث بات 100% من سكان القطاع – أي نحو مليوني شخص – على حافة المجاعة وأضاف أن (إسرائيل) لم تسمح خلال الأسبوع الماضي إلا بدخول عدد محدود جدًا من الشاحنات، بينما تم رفض مئات الطلبات لإدخال المساعدات الإنسانية، مما أدى إلى تفاقم معاناة السكان.

وأكد "حق" أن القصف المتكرر، وتدمير المستشفيات، واستهداف العاملين في المجال الإنساني، ساهم في تفاقم الكارثة. وقال: "نحن لا نقلق فقط من خطر المجاعة، بل من التهجير المستمر، والنزوح المتكرر منذ أكتوبر 2023، وهذه الكارثة تتصاعد بلا توقف".

لكن المأساة تأخذ طابعًا أكثر وجعًا في المناسبات، خاصة عندما يتقاطع الجوع مع الحرج الاجتماعي والضغط النفسي. وفي ظل تقاليد العيد، حيث اعتاد الفلسطينيون على استقبال الضيوف والاحتفاء بالعيد بطقوس خاصة، وجد الكثيرون أنفسهم عاجزين حتى عن تقديم قطعة حلوى أو فنجان قهوة لمن يطرق أبوابهم.

يقول المواطن محمد ابو كلوب (47 عامًا) من حي الشجاعية ونازح قسرا في غرب غزة، لصحيفة "فلسطين": "طفتُ كل أسواق غزة قبل العيد بيومين بحثًا عن شيء أقدمه للضيوف، ولم أجد شيئًا... الأسواق فارغة، والبضائع إما مفقودة أو باهظة الثمن. حتى القهوة التي وجدتها، اكتشفت أنها مصنوعة من الحمص والبقوليات، وطعمها سيء جدًا... شعرت بالإهانة حين شربتها. لا ألوم أحدًا، المسؤول الوحيد عن هذا الحصار وهذه المجاعة هو الاحتلال الإسرائيلي".

أما المواطن محمود سليم (38 عامًا) فيصف لحظة استقبال الضيوف هذا العيد بأنها واحدة من أصعب لحظات حياته: "في الأعياد السابقة، كانت طاولة الضيافة مليئة بالحلوى، المكسرات، التمر، وأشكال متعددة من القهوة والعصائر. اليوم... لا يوجد شيء. فقط بعض الحاجيات البسيطة التي تُباع على بسطات الشوارع، تحتوي على القليل من السكر لإسكات جوع الأطفال، لكنها لا تليق حتى بالضيافة. شعرت بالخجل، لكن ماذا بيدي؟ لا يوجد بديل".

القصص تتكرر، لكن كل واحدة تنزف وجعًا بطريقتها. المواطن عماد علي (41 عامًا)، وهو أب لخمسة أطفال نازح في غرب غزة، وجد نفسه هذا العيد في موقف محرج حد الانكسار: "لا أستطيع توفير الخبز لأطفالي، فكيف أقدّم ضيافة للزوار؟ حين طرق الباب بعض الأقارب للتهنئة بالعيد، قدمت لهم عبوات من مكملات غذائية للأطفال، فيها طعم حلو... كنت أشعر بالإحراج الشديد، لكن لم يكن هناك خيار آخر. نحن في كارثة حقيقية، وننتظر من العالم أن يضع حدًا لهذه الحرب، وأن يسمح بدخول الغذاء والدواء فورًا".

الاحتلال الإسرائيلي، كما تقول مؤسسات أممية، يواصل تقييد دخول المساعدات، متجاهلًا تحذيرات منظمات الإغاثة بأن القطاع يشهد واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العصر الحديث. الأطفال يموتون من الجوع، والعائلات تنهار تحت وطأة الحصار، والمجتمع الدولي ما زال يكتفي بالتنديد دون تحرك فعلي.

بوظة الأطفال.. أمنية

على أطراف شارع الوحدة في مدينة غزة، وفي زحام الخيام التي نصبها النازحون قسرا هربا من جحيم القصف بالقرب من مكب النفايات، كانت الطفلة أفنان قاسم، ذات الثمانية أعوام، تمسك بخمسة شواقل جمعتها من أقاربها في العيد. بدت فرحةً كما لو أنها تملك الدنيا، تركض حافية القدمين نحو بائع البوظة في الشارع الخلفي الخيمة.

تقول أفنان، وهي تهمس وتبتلع ريقها بصعوبة: "من سنتين وأنا أشتهي البوظة.. كنت أشوفها وما أقدر أشتريها، واليوم أول مرة أذوقها من زمان".

أفنان ليست سوى واحدة من آلاف الأطفال الذين حرمهم الحصار والعدوان من أبسط مظاهر الطفولة، ومن أبسط أمنيات العيد: البوظة، الشيبسي، أو قطعة حلوى.

والدها معتقل منذ ثمانية أشهر، حين أوقفته قوات الاحتلال الإسرائيلي أثناء نزوح العائلة من بيت لاهيا شمال قطاع غزة إلى وسط المدينة.

أما والدتها، فقد كانت في غرفة الولادة في أول أيام عيد الأضحى، تضع طفلها السادس وسط ركام الحرب.

وفي زاوية أخرى من الشارع ذاته، تسير طفلة بملابس بالية وشعر متطاير، تشد قميص امرأة كانت تتشارك قرطاس بوظة مع طفلتها. وبعينين لامعتين ولهفة بريئة، تهمس: "بدي زيها، بس ما معي مصاري...".

تنظر المرأة إليها، ثم تمنحها ما تبقى من البوظة. تركض الصغيرة وتلتهمها بجوع وفرح غريبين. تقول إحدى الأمهات التي كانت تسير في الشارع وشاهدت مشهد الطفلة "صاروا الأطفال يتمنوا شيبس أو قطعة شوكولاتة كأنهم بيطلبوا جواهر، الحرب ما خلت شي.".

أرقام في وجه المأساة

وفقًا لتقارير اليونيسف وهيئات الإغاثة الإنسانية، فإن أكثر من 1.1 مليون طفل في غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، ونحو 17 ألف طفل باتوا يتامى منذ بدء حرب الابادة الإسرائيلية في أكتوبر 2023.

ومع دخول عيد الأضحى، لم يدخل القطاع سوى كميات شحيحة من المساعدات، بسبب استمرار منع الاحتلال لدخول الغذاء والمياه والوقود. يُباع كيس شيبس صغير – يُصنع محليًا تحت الحصار – بسعر يتجاوز ما تستطيع معظم العائلات دفعه. أما الحلويات، فقد أصبحت حلمًا بعيد المنال.

لا ألعاب، لا ثياب جديدة، لا بهجة. حتى خروف العيد، الذي كان رمزًا للمناسبة، اختفى هذا العام من شوارع غزة، بعدما قضت الحرب على مزارع كاملة، ولم تدخل الأضاحي من المعابر المغلقة. تقول الطفلة ملاك العطار (6 أعوام): "العيد زمان كان فيه خروف، نلعب ونضحك، بس هالسنة مافي شي، كل يوم نخاف".

في غزة، صارت البوظة أمنية، وصار العيد ذكرى مؤجلة إلى حين، وحين يسأل الأطفال عن العيد، لا يتحدثون عن ملابس جديدة أو أراجيح، بل عن "قرطاس بوظة"، "كيس شيبس"، أو ضحكة بلا خوف.

أرواح منهكة

وفي صباح عيدٍ لا يشبه سواه، استيقظت غزة على أصوات الطائرات لا على تكبيرات العيد، وعلى رائحة الدخان لا على نكهة القهوة والبهجة.

الشوارع خالية إلا من الركام، والبيوت التي ما زالت تقف، تسكنها أرواح مثقلة بالجوع والخوف والفقد.

في شارع الوحدة، جلست أم محمود عودة نازحة قسرا من بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة أمام خيمة صغيرة نصبتها بعد أن سُوِّي بيتها بالأرض قبل أشهر.

تهمس بصوت يكاد لا يُسمع: "كنا في مثل هذا اليوم نذبح الأضحية، ونوزع اللحم على الجيران، ونرتّب ثياب الأطفال الجديدة. اليوم، لا لحم، لا ملابس، لا بيت، ولا حتى جيران… كلهم شتّتهم الحرب، أو أخذتهم."

حتى صوت الخراف، والمواشي غاب هذا العيد أيضا، فلا رائحة زفرة دماء الأضاحي التي كان يذبحها أصحابها أمام عتبات البيوت عادة بعد صلاة فجر أول يوم في العيد، ويسيل دمها ليملأ الشوارع، وحرم الأطفال للعام الثاني من أن يلتفوا حول الأضحية مشدوهين من المنظر، وفرحين في ذات الوقت بأجواء العيد.

الأطفال، الذين كانوا في مثل هذا اليوم يرتدون الجديد وينتظرون "العيدية"، يجلسون حفاةً بملابس ممزقة، يحدّقون في وجوه آبائهم بصمت لا يفهمونه.

لا صوت للفرح، لا رائحة للشواء، لا زيارات عائلية ولا ضحكات، فقط انتظار طويل لأي خبر عن وقف العدوان، عن شحنة مساعدات، عن لحظة نجاة.

في بعض مناطق الجنوب، ذبح الأهالي دجاجة أو ديكًا رغم ندرة هذه الطيور أيضا بدلًا من الأضحية، في محاولة يائسة لتذكير أطفالهم بمعنى العيد، لكن حتى هذا بدا ترفًا في ظل مجاعة تزداد شدةً كل يوم.

"اشترينا الدجاجة بثمن خيالي، فقط لنرسم بسمة، لكن الطفل بعد أن أكل بكى، قال لي: أين لحم الأضاحي؟" تقول أم محمد زعرب من خانيونس.

في مستشفى الشفاء، لم تتوقف صفارات سيارات الإسعاف. أجساد ملفوفة بكفن أبيض تدخل واحدة تلو الأخرى. هنا العيد يُستقبل بالدعاء للناجين، لا بالتهاني. حتى الأطباء، المنهكون من طول الكارثة، يكتفون برفع أعينهم للسماء، يطلبون رحمة لم تأتِ بعد.

المساجد التي بقيت واقفة وسط أنقاض البيوت خوت من المصلين الذين يأتون لصلاة العيد، ويتبادلون التهاني، ويمنحون الأطفال الفرحة في كيس حلوى، لم يفعلون ذلك للعام الثاني على التوالي.

الحديث عن الأضاحي صار ضربًا من الترف، وعن ملابس العيد حكاية من زمنٍ غابر. وحدها غزة تحيي عيد الأضحى دون أضاحٍ، دون أمان، دون طمأنينة. عيد لا يُشبه شيئًا سوى الحصار والموت والجوع.

وفي نهاية اليوم، جلست عائلات بأكملها تتقاسم قطعة خبز يابسة أو علبة فاصولياء منتهية الصلاحية. لكنهم ما زالوا يبتسمون للكاميرا، يرددون بضع كلمات شكر على السلامة، ويصرون على تمني "عيدكم مبارك"، رغم أن كل شيء حولهم ينفي أن للعيد طعمًا أو وجودًا.

عيد ثقيل

كان عيد الأضحى في غزة، بطعم الدموع وصبر بات على شفا الانهيار، تغيب عنه البهجة وتحل مكانها المعاناة، وجد فيها الأطفال أنفسهم يركضون خلف طوابير الحصول على مياه الشرب وأخرى تكيّات الطعام، كما تغيب أيضاً تكبيرات العيد وروائح الكعك.

جاء هذا العيد ثقيلاً على قلوب الغزيين، فالقلق والخوف يخيمان على آلاف العائلات الفلسطينية خصوصاً الذين يعيشون داخل خيام أنهكتها أشعة الشمس الحارقة، فأصبحت لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء، وآخرين لا يزالون يعيشون ويلات النزوح والتشرد من منطقة إلى أخرى.

يجلس المواطن مهدي مرزوق (64 عاماً) داخل خيمة نصب أوتادها قرب منزله المدمر الواقع في حي الشيخ رضوان غربي مدينة غزة، وقد ارتسمت على وجهه ملامح الحزن والألم، فيقول "العيد هذه السنة لا يختلف عن أي يوم آخر. لا أضاحي، ولا ملابس جديدة، ولا حتى قدرة على شراء الحلويات. بالكاد نؤمن الخبز والماء".

ويحكي مرزوق بصوت مُثقل بالهموم لصحيفة "فلسطين" وهو أب لأسرة مكونة من خمسة أفراد: "جاء هذا العيد في ظل اشتداد الحصار الذي نعانيه وتفشي حالة المجاعة، حيث لا نستطيع توفير أدنى مقومات الحياة. الأسواق فارغة من السلع الغذائية والقليل المتوفر منها أسعارها مرتفعة بشكل جنوني".

ويتساءل "لماذا لا نعيش أجواء العيد كما كل العالم العربي والإسلامي؟ حرب الإبادة حرمتنا كل هذه المظاهر وخصوصاً أنني أصبحت بلا مأوى، فمنزلي الذي اعتدت على قضاء أجواء من السعادة مع عائلتي أصبح أكوام من الحجارة".

فيما يقول الشاب اياد الدنف (38 عاماً) الذي يعمل في مسلخ يمتلكه والده لذبح الأضاحي: "في كل عيد كنا ننطلق لذبح الأضاحي بعد أداء صلاة العيد وسط تجمع عشرات المواطنين وأجواء من الفرح والسرور، لكن هذه المظاهر غابت في هذا العيد بفعل حرب الإبادة المستمرة".

ويوضح الدنف لصحيفة "فلسطين"، أن مسلخ الأضاحي تعرض للقصف وأصابته أضراراً كبيرة، جعلته لا يصلح للذبح وهذا الأمر يبعث حالة من الحزن في قلبنا وقلوب كل سكان القطاع خاصة ممن اعتادوا على التجمهر في المسلخ.

وما يزيد الحزن لدى الدنف وفق قوله، هو تعرض منزل عائلته الواقع في حي الكرامة للقصف مما ألحق به أضراراً بليغة، إضافة إلى اضطرارهم للنزوح منه قسراً إلى منزل أقاربه في حي الشيخ رضوان غربي مدينة غزة، في ظل استمرار العملية الإسرائيلية العدوانية في مناطق شمال القطاع.

ويواصل حديثه "تشديد الحصار ومنع ادخال المساعدات الغذائية أّثر سلباً على حياتي وكل العائلات الغزية، حيث بالكاد أستطيع توفير لقمة حياة كريمة لعائلتي".

فيما تقول الطفلة غزل الكحلوت (11 عاماً) "العيد كان يعني ألعاب وحدائق وفسحات، الآن لا شيء، فقط أصبحنا نعيش في حالة من الخوف والقلق".

وتضيف الكحلوت لصحيفة "فلسطين": "الاحتلال دمر الحدائق والمراجيح والألعاب وحرمنا من تزيين بيتنا بعد ما دمّره بالكامل، وحالياً احنا بنعيش في حالة جوع بسبب اغلاق المعابر وما في مساعدات لغزة.. يارب تخلص الحرب ونرجع نفرح في العيد زي باقي أطفال العالم".

وبدعم أمريكي ترتكب دولة الاحتلال منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 جرائم إبادة جماعية في غزة خلّفت أكثر من 170 ألف شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود. وتشمل حرب الإبادة استخدام سلاح التجويع والتعطيش.

ومع كل شهادة مؤلمة، وكل قصة تخرج من بيوت غزة، يرتفع سؤال واحد: إلى متى سيظل العالم صامتًا؟

ألا يستحق سكان غزة، وهم يحتفلون بعيد الأضحى بلا طعام، بلا ماء، بلا مأوى، أن يشعروا مرة أخرى بطعم الحياة؟!

المصدر / فلسطين أون لاين