أخبار اليوم - على امتداد رصيف الميناء، غرب مدينة غزة، حيث قِبلة المواطنين الباحثين عن الترفيه وقضاء أوقات ممتعة، كان الزوار يأتون من محافظات القطاع الساحلي لمشاهدة غروب الشمس وركوب القوارب، ومتابعة الصيادين، إلا أن هذا المشهد صار مختلفًا تمامًا في زمن الحرب.
في الميناء الذي بدأ إنشاؤه في تسعينيات القرن الماضي، كان طيلة الأعوام التالية مكانًا ينبض بالحياة والأضواء الملونة وحركة الناس، فيما تحمل الرياح صدى ضحكات الأطفال وهي تتعالى فرحًا لتختلط بهدير الأمواج المتتالية.
وقبل حرب الإبادة التي بدأها جيش الاحتلال الإسرائيلي في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، كان الميناء بالنسبة لأهالي غزة البالغ تعدادهم أكثر من مليوني نسمة، متنفسًا رئيسيًا. على أرصفته، كانت تقام نزهات العائلات، وتنتشر بسطات الذرة المشوية، ويمر باعة الألعاب الملونة، بينما تمتلئ المقاهي القريبة بالمصطافين. ليلاً، تضيء سلاسل الإنارة الزاهية المكان، ويعلو صوت الموسيقى من الدراجات الكهربائية فرحًا بحياة رغم الحصار.
أما الآن، تحول الميناء إلى ساحة مكتظة بالخيام، تؤوي آلاف العائلات النازحة من مناطق دمرها القصف الإسرائيلي، ولم تجد ملاذًا إلا على هذا الرصيف البحري.
"كنا نأتي هنا لنشرب القهوة، نأكل المكسرات، وننظر إلى البحر. الآن، لا أرى إلا الخيام، ولا أشم إلا رائحة الغبار والرطوبة." يقول رياض الزين (53 عامًا) وهو رب أسرة مكونة من 7 أفراد، تعيش حاليًا في خيمة على حافة الميناء.
وكان الزين فقد 3 منازل يملكها وأبناؤه جراء عمليات القصف والنسف التي نفذها جيش الاحتلال في بلدة بيت لاهيا، شمالي قطاع غزة.
يضيف الزين: الحرب أجبرتنا على التنقل بين محافظات القطاع. أول رحلة نزوح كانت إلى جنوبي القطاع، وبعد أكثر من سنة عدنا ووجدنا منازلنا مدمرة. كانت صعقة كبيرة لنا، لكننا لم نيأس، فنصبنا خيامنا وحاولنا توفير مقومات الحياة.
لكن تكرار العدوان البري الإسرائيلي على شمالي القطاع، أجبر السكان مجددًا على النزوح إلى غرب غزة، حيث صارت خيام النازحين تنتشر على قارعة الطريق وفي الساحات والشوارع، بعدما امتلأت مراكز الإيواء بأعداد كبيرة منهم.
معاناة الزين وعائلته لم تقف عند النزوح ومرارة العيش في خيمة لا تقيهم من الحر والحشرات والآفات. إذ إن نجله محمد فقد ابنته الوحيدة لميس (3 أعوام) غرقًا، ووجدها مواطنون عالقة بين صخرتين قريبتين من الشاطئ.
"جئنا إلى الميناء هربًا من الموت، لكنه يلاحقنا في كل مكان." قال جد الطفلة، وقد أزاح عينيه عن البحر: "لم أعد أطيق النظر إليه، لكني لا أجد مكان آخر."
رصيف الميناء المكتظ بخيام متلاصقة تؤوي آلاف النازحين، يكتظ أيضًا بأكوام القمامة، وتظهر آثار الغارات الإسرائيلية التي طالت عدد من المباني بوضوح، وأدت إلى قسمه لنصفين إبَّان الحرب، حيث لم يعد بإمكان أحد الوصول إلى نهايته الممتدة في عرض البحر.
وسط هذا المشهد المأساوي، وجد المسن عامر خلة مساحة صغيرة، وقد بدأ ينظفها سريعًا لنصب خيمته. تصبب العرق بشدة من جبينه تحت أشعة الشمس اللافحة وهو يمسك بمشط الأرض ويبعد الأوساخ والنفايات.
يقول خلة (65 عامًا): "نحن مجبرون على ذلك، إن لم ننظف المكان لم ينظف علينا أحد. لقد أصبحت حياتنا صعبة بمعنى الكلمة."
في الأفق القريب، ملأ دخان أسود أرجاء المكان، كاد أن يحجب الرؤية بينما تنبعث منه رائحة شديدة لا تُطاق. كان هذا الدخان ناتج عن حرق المخلفات والبلاستيك لاستخراج السولار الصناعي، في واحدة من المهن التي لجأ إليها شبان خلال الحرب.
لم يجد خِلة، وقد أخذت أنفاسه تتسارع وهو يلوح بيده أمام وجهه محاولاً البحث عن هواء نظيف، مكانًا آخرًا لنصب خيمته. "هذا أسوأ مكان نزحت إليه في الحرب، ألا يكفينا البعوض والفئران والكلاب التي تقتحم خيامنا، ليلاحقنا هذا الدخان الأسود.. متى لهذه الحرب أن تنتهي؟"
ويداهم هذا الرجل مخاوف كبيرة على ابنته رندة خلة (35 عامًا)، المصابة بمرض السرطان، وقد قرر الأطباء إعطائها جرعات من العلاج الكيماوي، وتحسن حالتها الصحية مرهون بتوفر غذاء مناسب وبيئة نظيفة وهواء نفي، لكن هذه المتطلبات مفقودة تمامًا على رصيف الميناء.
لم يتوقف التغيير عند الرصيف فحسب. مدخل الميناء، الذي كان محطة التقاء المواطنين بمتنفسهم المفضل، ومرور المركبات دون انقطاع، بات اليوم سوقًا شعبيًا مؤقتًا. تنتشر فيه عربات الباعة المتجولين، المحملة بالمواد والمعقمات وأكوام الملابس المستعملة، وكل ما يمكن بيعه في ظل النزوح الطويل.
بين أصوات الباعة وصراخ الأطفال الجوعى، وبين الخيام الرثة، يصعب تمييز صوت البحر نفسه. رائحته التي كانت تميز المكان اختلطت برائحة الطبخ على مواقد الحطب، أما أصوات قوارب الصيد تحولت إلى ذكريات بعيدة.
يقول الصياد محمد بكر "كنا نضع شباكنا هنا، ونجهز القوارب عند الفجر. الآن، لا يمكننا المرور أصلاً. الخيام تغطي الرصيف. الميناء لم يعد ميناء، ولم يعد متنفسًا أيضًا."
لكن رغم كل شيء، لا يزال البحر هناك، يشهد بصمت ويمتد بلا حدود؛ تمامًا كما تمتد معاناة النازحين على رصيف الذكريات.
فلسطين أون لاين