أخبار اليوم - لم تكن عائلة كاظم بلاطة تدرك أن رحلة النزوح التي بدأتها هربًا من الموت، ستنتهي به مطاردًا لهم أينما ذهبوا، ليخطف منهم الأب والسند، ويترك خلفه وجعًا لا دواء له.
كاظم، الأب الحنون، الذي كان يعيش مع أسرته المكوّنة من سبعة أبناء وزوجته أم علاء في حي الصبرة بمدينة غزة، حاول جاهدًا أن يحمي عائلته من ويلات الحرب منذ لحظتها الأولى. ومع تصاعد القصف، وجدت العائلة دبابات الاحتلال تحاصر الحي، فلم يكن أمامهم خيار سوى النزوح.
"نزحنا من بيتنا بعد شهر من بداية الحرب.. كنا مفكرين إن الجنوب آمن، بس القصف كان يلاحقنا في كل خيمة وتحت كل غطاء"، تقول أم علاء بصوت مبحوح وملامح منهكة.
في بداية رحلة النزوح، توجهت العائلة إلى مواصي رفح، حيث أقاموا خيمة صغيرة لا تقيهم حر الصيف ولا برد الليل. ومع اشتداد المعارك في رفح، اضطرت العائلة للنزوح مجددًا في مايو 2024 إلى مدينة دير البلح وسط القطاع، بحثًا عن ليلة هادئة، لكن الطائرات الإسرائيلية كانت لها كلمة أخرى.
في ليلة باردة من ليالي أكتوبر، وتحديدًا عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، سقط صاروخ على خيمتهم.
"صوت الانفجار هزّ المكان.. صرخت بأسماء أولادي وزوجي.. ما كنت أعرف مين عايش ومين شهيد"، تضيف أم علاء والدموع تغالبها لـ "فلسطين أون لاين".
في تلك الليلة، استشهد كاظم ونجله الأوسط علاء (14 عامًا)، فيما أُصيبت أربع من بناته بجراح بالغة، لتبدأ رحلة جديدة من المعاناة بين العيادات وغرف العمليات، فوق ألم الفقد.
"كاظم كان كل شيء لي ولأبنائه.. الأب والسند والضوء والصديق.. رحل وراح معه كل شيء"، تهمس أم علاء وهي تحاول أن تتماسك بينما تسرد كيف تفرّقت بناتها بين المستشفيات.
البنت الكبرى (23 عامًا) أُصيبت ببتر في أصابع يدها اليمنى مع شظايا في أنحاء جسدها، بينما دخلت شقيقتها التي تصغرها بخمس سنوات في غيبوبة بسبب إصابة في الوجه، وتعاني من نقص في لحم وعظم اليد، وخضعت لزراعة بلاتين.
أما سجى (15 عامًا) فبُترت قدمها اليسرى، وتعاني من تهتك وتيبّس في يدها، لا تستطيع تحريكها أو الإحساس بها. والصغيرة تالا (8 أعوام) فقدت أصابع قدمها اليسرى، وأصيبت بحروق في قدمها الأخرى.
"كنت أتنقل بين قسم الجراحة والعناية المركزة والأطفال.. ما كنت أعرف كيف أكون قوية لبناتي وأنا مكسورة على زوجي وابني"، تقول أم علاء والدمع يخنق صوتها.
وبعد إعلان وقف إطلاق النار، عادت العائلة إلى منزلها في غزة، لكنه لم يكن كما كان، "كل زاوية بتصرخ باسم كاظم.. كل صوت بيذكرني فيه.. حتى صحن الفطور ما عاد له طعم"، تتابع وهي تمسح دمعتها.
اليوم، تسكن أم علاء بين وجعين؛ فقد من تحب، ومرض من تبقّى، مضيفة: "نفسي بس أشوف بناتي واقفين على رجليهم.. نفسي يرجعلهم إحساس الحياة".
ورغم البتر والدمار، تؤمن أم علاء أن كاظم لم يرحل وحده، بل أخذ معه دفء البيت والأمان، لكنها تقاتل كل يوم لأجل بناتها، مرددة: "كاظم كان يقول دايمًا.. البنات بدهم قلب قوي.. وأنا بحاول أكون هالقلب، رغم وجعي".
فلسطين أون لاين