أخبار اليوم - في عربات البرادات داخل مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، ترقد جثامين متحللة تحمل ندوب الوحشية الإنسانية: حبال مشدودة بقسوة حول الرقاب، أيدٍ مقيدة بأغلال حديدية، أجساد محروقة، أطراف مبتورة، وأسنان مفقودة؛ شواهد دامغة على تعذيب ممنهج وإعدامات ميدانية.
هذه الجثامين، التي أعادها الاحتلال الإسرائيلي ضمن اتفاقات وقف إطلاق النار، ليست مجرد رفات؛ بل صرخات صامتة تكشف عن جرائم حرب تتجاوز الوصف. في أروقة المستشفيات والمقابر الجماعية تتكشف قصص إنسانية مؤلمة، تروي وجهاً آخر للحرب الإسرائيلية على غزة. ومع تسليم دفعات من هذه الجثامين، يواجه الأهالي تحديات نفسية ولوجستية هائلة في التعرف على أحبائهم، وسط اتهامات بسرقة أعضاء بشرية وانتهاكات جسيمة للقانون الدولي.
ووفق تقديرات أولية، هناك نحو 10 ألاف فلسطيني مفقود أو مختفٍ قسرياً في غزة منذ اندلاع الحرب في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، معظمهم من الشباب، ما يفاقم المأساة الإنسانية في ظل الحصار والدمار. وحتى الآن، تم تسليم 195 جثماناً فقط، جرى التعرف على جزء صغير منها، بينما دُفن الباقي في مقابر جماعية مجهولة الهوية.
الذكريات والندوب
تُجسّد شهادة السيدة أفنان القرناوي نموذجاً مؤلماً لمعاناة ذوي الشهداء. بعد استلام جثمان زوجها حامد القريناوي من الاحتلال عبر الصليب الأحمر، كتبت أفنان تقول: 'تعرفت على زوجي من خلال أظافره والشق الأيمن من وجهه، إضافة إلى إصابة قديمة في ظهره تعرّض لها خلال مسيرات العودة.'
وأضافت أن آثار الضرب على الجثمان تشير إلى أن الاحتلال اعتدى عليه بعد استشهاده، رغم مقتله برصاصة في الرأس قبل اعتقاله، مشيرة إلى اختفاء إصبع الإبهام.
وتتابع: 'نعتقد أن الاحتلال يحتفظ بقائمة بأسماء الجثامين وهويات أصحابها، لكنه يخفيها عمداً لزيادة معاناة ذوي الضحايا'، لافتة إلى أنه يأخذ عينات DNA من كل جثمان قبل تسليمه.
في لحظة إنسانية نادرة، ألبست أفنان أطفالها الثلاثة أجمل الثياب لاستقبال الجثمان قائلة: 'أصبحنا نعرف مكان قبره ونستطيع زيارته... وهذا وحده يمنحنا بعض السلام.'
ومن بين الشهادات المؤلمة أيضاً، تروي الصحفية أسماء الصانع، زوجة الشهيد سلامة العروقي (أبو يحيى)، تجربتها القاسية في البحث عن جثمان زوجها عبر الرابط الإلكتروني لصور الجثامين في مستشفى ناصر.
تقول أسماء: 'أبحث بعيون شاخصة وأصابع مرتجفة بين صور شهداء عظماء؛ وجوه بالكاد تُرى ملامحها، أسنان، أيادٍ، ملابس، أقدام لحمها مفصول عن عظمها... أدقق في أيديهم وبناطيلهم وأحذيتهم حتى يغيب عقلي لهول ما أرى.
توقفت عند وجه جميل كالملاك، لم يكن زوجي، لكني قلت: ستعرفه أمه أو زوجته. ثم رأيت حذاءً يشبه حذاء أبو يحيى، لكن شيئاً داخلي قال إنه لا يكفي.
قلبي بات أشلاء، لكنني أواصل البحث. لست بطلة، فقط إنسانة تبحث عن وداعٍ أخير... قبلة على بقايا جثة أو قطعة قماش. لا لغة تصف هذا العذاب، لكن كفى بالله شهيداً.'
هذه الشهادة، التي نُشرت عبر مواقع التواصل، تُجسد الألم النفسي العميق للبحث الرقمي عن الأحبة وسط تشويه متعمد للجثامين.
جرائم منظمة
يؤكد المختص في الأدلة الجنائية وعضو لجنة الجثامين بوزارة الصحة في غزة سامح حمد أن معظم الجثامين المستلمة تحمل آثار تعذيبٍ شديد، تشمل إصابات بالرأس والصدر من مسافة قريبة، وتقييداً بالأغلال، وإعداماتٍ ميدانية.
وقال حمد للصحفيين: 'فُجعنا بحالة الجثامين التي وصلت، فقد تعرض كثير منها لتعذيبٍ قاسٍ، وبعضها كان مقيداً بالأغلال. كشفت عمليات التشريح عن سرقة أعضاء مثل القرنية والكلية والكبد، وهو انتهاك خطير للقانون الدولي.'
وأوضح أن عدد الجثامين المستلمة بلغ نحو 195 جثماناً على دفعات متتالية منذ 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، مشيراً إلى أن الدفعة الأولى (45 جثماناً) كانت مجهولة الهوية ومقيدة الأيدي، والثانية (45 أخرى) تحمل إصابات نارية من مسافات قريبة، والثالثة (30 جثماناً) ظهرت عليها آثار شنق وحروق، بينما ضمت الأخيرة (75 جثماناً) سُحقت تحت الدبابات.
ومن أصل 195 جثماناً، تم التعرف على 51 فقط، بالاعتماد على علامات شخصية نتيجة التشويه الشديد.
وأضاف: 'نمهل الأهالي 10 أيام للتعرف قبل الدفن، لكن الاحتلال لا يزال يحتجز نحو 450 جثماناً إضافياً، ويتعمد حجب الهويات لتعذيب الأهالي نفسياً.'
وأشار إلى أن عمليات التشريح وثّقت آثار التقييد والخنق والإعدام الميداني، إضافة إلى التنكيل بعد الوفاة عبر قطع الأطراف وأخذ العينات الوراثية، مطالباً بتوثيق دولي لهذه الجرائم وعرضها أمام المحاكم الجنائية.
كما أكد مدير عام وزارة الصحة في غزة د. منير البرش أن الجثامين تحمل علامات تنكيل وضرب وتكبيل للأيدي وتعصيب للأعين، وأن بعضها خضع لفحوص DNA في مراكز احتجاز إسرائيلية مثل 'سدي تيمان'.
وفي السياق ذاته، جرى دفن 54 جثماناً مجهول الهوية في مقابر الأرقام بعد فشل محاولات التعرف عليها، ما يعكس عمق الكارثة الإنسانية.
الدعوات الدولية والتأثير الإنساني
تثير هذه الشهادات والتقارير تساؤلاتٍ حول ازدواجية المعايير الدولية، إذ تُبذل جهودٌ حثيثة لاسترجاع جثامين الأسرى الإسرائيليين، بينما يُترك آلاف الشهداء الفلسطينيين تحت الركام أو في ثلاجات الاحتلال.
ويدعو خبراء، من بينهم مدير المركز الفلسطيني للمفقودين والمختفين قسرياً أحمد مسعود، إلى فتح تحقيق دولي مستقل لتوثيق هذه الجرائم، محذّرين من تفاقم آثارها النفسية على الأسر الفلسطينية.
في غزة، حيث أصبح الدفن الكريم رفاهية نادرة، تظل هذه القصص شاهداً على صمود شعبٍ يبحث عن عدالةٍ وسط الركام. وكما قالت أفنان: 'أصبحنا نعرف مكان قبره.'
المصدر / فلسطين أون لاين
أخبار اليوم - في عربات البرادات داخل مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، ترقد جثامين متحللة تحمل ندوب الوحشية الإنسانية: حبال مشدودة بقسوة حول الرقاب، أيدٍ مقيدة بأغلال حديدية، أجساد محروقة، أطراف مبتورة، وأسنان مفقودة؛ شواهد دامغة على تعذيب ممنهج وإعدامات ميدانية.
هذه الجثامين، التي أعادها الاحتلال الإسرائيلي ضمن اتفاقات وقف إطلاق النار، ليست مجرد رفات؛ بل صرخات صامتة تكشف عن جرائم حرب تتجاوز الوصف. في أروقة المستشفيات والمقابر الجماعية تتكشف قصص إنسانية مؤلمة، تروي وجهاً آخر للحرب الإسرائيلية على غزة. ومع تسليم دفعات من هذه الجثامين، يواجه الأهالي تحديات نفسية ولوجستية هائلة في التعرف على أحبائهم، وسط اتهامات بسرقة أعضاء بشرية وانتهاكات جسيمة للقانون الدولي.
ووفق تقديرات أولية، هناك نحو 10 ألاف فلسطيني مفقود أو مختفٍ قسرياً في غزة منذ اندلاع الحرب في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، معظمهم من الشباب، ما يفاقم المأساة الإنسانية في ظل الحصار والدمار. وحتى الآن، تم تسليم 195 جثماناً فقط، جرى التعرف على جزء صغير منها، بينما دُفن الباقي في مقابر جماعية مجهولة الهوية.
الذكريات والندوب
تُجسّد شهادة السيدة أفنان القرناوي نموذجاً مؤلماً لمعاناة ذوي الشهداء. بعد استلام جثمان زوجها حامد القريناوي من الاحتلال عبر الصليب الأحمر، كتبت أفنان تقول: 'تعرفت على زوجي من خلال أظافره والشق الأيمن من وجهه، إضافة إلى إصابة قديمة في ظهره تعرّض لها خلال مسيرات العودة.'
وأضافت أن آثار الضرب على الجثمان تشير إلى أن الاحتلال اعتدى عليه بعد استشهاده، رغم مقتله برصاصة في الرأس قبل اعتقاله، مشيرة إلى اختفاء إصبع الإبهام.
وتتابع: 'نعتقد أن الاحتلال يحتفظ بقائمة بأسماء الجثامين وهويات أصحابها، لكنه يخفيها عمداً لزيادة معاناة ذوي الضحايا'، لافتة إلى أنه يأخذ عينات DNA من كل جثمان قبل تسليمه.
في لحظة إنسانية نادرة، ألبست أفنان أطفالها الثلاثة أجمل الثياب لاستقبال الجثمان قائلة: 'أصبحنا نعرف مكان قبره ونستطيع زيارته... وهذا وحده يمنحنا بعض السلام.'
ومن بين الشهادات المؤلمة أيضاً، تروي الصحفية أسماء الصانع، زوجة الشهيد سلامة العروقي (أبو يحيى)، تجربتها القاسية في البحث عن جثمان زوجها عبر الرابط الإلكتروني لصور الجثامين في مستشفى ناصر.
تقول أسماء: 'أبحث بعيون شاخصة وأصابع مرتجفة بين صور شهداء عظماء؛ وجوه بالكاد تُرى ملامحها، أسنان، أيادٍ، ملابس، أقدام لحمها مفصول عن عظمها... أدقق في أيديهم وبناطيلهم وأحذيتهم حتى يغيب عقلي لهول ما أرى.
توقفت عند وجه جميل كالملاك، لم يكن زوجي، لكني قلت: ستعرفه أمه أو زوجته. ثم رأيت حذاءً يشبه حذاء أبو يحيى، لكن شيئاً داخلي قال إنه لا يكفي.
قلبي بات أشلاء، لكنني أواصل البحث. لست بطلة، فقط إنسانة تبحث عن وداعٍ أخير... قبلة على بقايا جثة أو قطعة قماش. لا لغة تصف هذا العذاب، لكن كفى بالله شهيداً.'
هذه الشهادة، التي نُشرت عبر مواقع التواصل، تُجسد الألم النفسي العميق للبحث الرقمي عن الأحبة وسط تشويه متعمد للجثامين.
جرائم منظمة
يؤكد المختص في الأدلة الجنائية وعضو لجنة الجثامين بوزارة الصحة في غزة سامح حمد أن معظم الجثامين المستلمة تحمل آثار تعذيبٍ شديد، تشمل إصابات بالرأس والصدر من مسافة قريبة، وتقييداً بالأغلال، وإعداماتٍ ميدانية.
وقال حمد للصحفيين: 'فُجعنا بحالة الجثامين التي وصلت، فقد تعرض كثير منها لتعذيبٍ قاسٍ، وبعضها كان مقيداً بالأغلال. كشفت عمليات التشريح عن سرقة أعضاء مثل القرنية والكلية والكبد، وهو انتهاك خطير للقانون الدولي.'
وأوضح أن عدد الجثامين المستلمة بلغ نحو 195 جثماناً على دفعات متتالية منذ 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، مشيراً إلى أن الدفعة الأولى (45 جثماناً) كانت مجهولة الهوية ومقيدة الأيدي، والثانية (45 أخرى) تحمل إصابات نارية من مسافات قريبة، والثالثة (30 جثماناً) ظهرت عليها آثار شنق وحروق، بينما ضمت الأخيرة (75 جثماناً) سُحقت تحت الدبابات.
ومن أصل 195 جثماناً، تم التعرف على 51 فقط، بالاعتماد على علامات شخصية نتيجة التشويه الشديد.
وأضاف: 'نمهل الأهالي 10 أيام للتعرف قبل الدفن، لكن الاحتلال لا يزال يحتجز نحو 450 جثماناً إضافياً، ويتعمد حجب الهويات لتعذيب الأهالي نفسياً.'
وأشار إلى أن عمليات التشريح وثّقت آثار التقييد والخنق والإعدام الميداني، إضافة إلى التنكيل بعد الوفاة عبر قطع الأطراف وأخذ العينات الوراثية، مطالباً بتوثيق دولي لهذه الجرائم وعرضها أمام المحاكم الجنائية.
كما أكد مدير عام وزارة الصحة في غزة د. منير البرش أن الجثامين تحمل علامات تنكيل وضرب وتكبيل للأيدي وتعصيب للأعين، وأن بعضها خضع لفحوص DNA في مراكز احتجاز إسرائيلية مثل 'سدي تيمان'.
وفي السياق ذاته، جرى دفن 54 جثماناً مجهول الهوية في مقابر الأرقام بعد فشل محاولات التعرف عليها، ما يعكس عمق الكارثة الإنسانية.
الدعوات الدولية والتأثير الإنساني
تثير هذه الشهادات والتقارير تساؤلاتٍ حول ازدواجية المعايير الدولية، إذ تُبذل جهودٌ حثيثة لاسترجاع جثامين الأسرى الإسرائيليين، بينما يُترك آلاف الشهداء الفلسطينيين تحت الركام أو في ثلاجات الاحتلال.
ويدعو خبراء، من بينهم مدير المركز الفلسطيني للمفقودين والمختفين قسرياً أحمد مسعود، إلى فتح تحقيق دولي مستقل لتوثيق هذه الجرائم، محذّرين من تفاقم آثارها النفسية على الأسر الفلسطينية.
في غزة، حيث أصبح الدفن الكريم رفاهية نادرة، تظل هذه القصص شاهداً على صمود شعبٍ يبحث عن عدالةٍ وسط الركام. وكما قالت أفنان: 'أصبحنا نعرف مكان قبره.'
المصدر / فلسطين أون لاين
أخبار اليوم - في عربات البرادات داخل مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، ترقد جثامين متحللة تحمل ندوب الوحشية الإنسانية: حبال مشدودة بقسوة حول الرقاب، أيدٍ مقيدة بأغلال حديدية، أجساد محروقة، أطراف مبتورة، وأسنان مفقودة؛ شواهد دامغة على تعذيب ممنهج وإعدامات ميدانية.
هذه الجثامين، التي أعادها الاحتلال الإسرائيلي ضمن اتفاقات وقف إطلاق النار، ليست مجرد رفات؛ بل صرخات صامتة تكشف عن جرائم حرب تتجاوز الوصف. في أروقة المستشفيات والمقابر الجماعية تتكشف قصص إنسانية مؤلمة، تروي وجهاً آخر للحرب الإسرائيلية على غزة. ومع تسليم دفعات من هذه الجثامين، يواجه الأهالي تحديات نفسية ولوجستية هائلة في التعرف على أحبائهم، وسط اتهامات بسرقة أعضاء بشرية وانتهاكات جسيمة للقانون الدولي.
ووفق تقديرات أولية، هناك نحو 10 ألاف فلسطيني مفقود أو مختفٍ قسرياً في غزة منذ اندلاع الحرب في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، معظمهم من الشباب، ما يفاقم المأساة الإنسانية في ظل الحصار والدمار. وحتى الآن، تم تسليم 195 جثماناً فقط، جرى التعرف على جزء صغير منها، بينما دُفن الباقي في مقابر جماعية مجهولة الهوية.
الذكريات والندوب
تُجسّد شهادة السيدة أفنان القرناوي نموذجاً مؤلماً لمعاناة ذوي الشهداء. بعد استلام جثمان زوجها حامد القريناوي من الاحتلال عبر الصليب الأحمر، كتبت أفنان تقول: 'تعرفت على زوجي من خلال أظافره والشق الأيمن من وجهه، إضافة إلى إصابة قديمة في ظهره تعرّض لها خلال مسيرات العودة.'
وأضافت أن آثار الضرب على الجثمان تشير إلى أن الاحتلال اعتدى عليه بعد استشهاده، رغم مقتله برصاصة في الرأس قبل اعتقاله، مشيرة إلى اختفاء إصبع الإبهام.
وتتابع: 'نعتقد أن الاحتلال يحتفظ بقائمة بأسماء الجثامين وهويات أصحابها، لكنه يخفيها عمداً لزيادة معاناة ذوي الضحايا'، لافتة إلى أنه يأخذ عينات DNA من كل جثمان قبل تسليمه.
في لحظة إنسانية نادرة، ألبست أفنان أطفالها الثلاثة أجمل الثياب لاستقبال الجثمان قائلة: 'أصبحنا نعرف مكان قبره ونستطيع زيارته... وهذا وحده يمنحنا بعض السلام.'
ومن بين الشهادات المؤلمة أيضاً، تروي الصحفية أسماء الصانع، زوجة الشهيد سلامة العروقي (أبو يحيى)، تجربتها القاسية في البحث عن جثمان زوجها عبر الرابط الإلكتروني لصور الجثامين في مستشفى ناصر.
تقول أسماء: 'أبحث بعيون شاخصة وأصابع مرتجفة بين صور شهداء عظماء؛ وجوه بالكاد تُرى ملامحها، أسنان، أيادٍ، ملابس، أقدام لحمها مفصول عن عظمها... أدقق في أيديهم وبناطيلهم وأحذيتهم حتى يغيب عقلي لهول ما أرى.
توقفت عند وجه جميل كالملاك، لم يكن زوجي، لكني قلت: ستعرفه أمه أو زوجته. ثم رأيت حذاءً يشبه حذاء أبو يحيى، لكن شيئاً داخلي قال إنه لا يكفي.
قلبي بات أشلاء، لكنني أواصل البحث. لست بطلة، فقط إنسانة تبحث عن وداعٍ أخير... قبلة على بقايا جثة أو قطعة قماش. لا لغة تصف هذا العذاب، لكن كفى بالله شهيداً.'
هذه الشهادة، التي نُشرت عبر مواقع التواصل، تُجسد الألم النفسي العميق للبحث الرقمي عن الأحبة وسط تشويه متعمد للجثامين.
جرائم منظمة
يؤكد المختص في الأدلة الجنائية وعضو لجنة الجثامين بوزارة الصحة في غزة سامح حمد أن معظم الجثامين المستلمة تحمل آثار تعذيبٍ شديد، تشمل إصابات بالرأس والصدر من مسافة قريبة، وتقييداً بالأغلال، وإعداماتٍ ميدانية.
وقال حمد للصحفيين: 'فُجعنا بحالة الجثامين التي وصلت، فقد تعرض كثير منها لتعذيبٍ قاسٍ، وبعضها كان مقيداً بالأغلال. كشفت عمليات التشريح عن سرقة أعضاء مثل القرنية والكلية والكبد، وهو انتهاك خطير للقانون الدولي.'
وأوضح أن عدد الجثامين المستلمة بلغ نحو 195 جثماناً على دفعات متتالية منذ 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، مشيراً إلى أن الدفعة الأولى (45 جثماناً) كانت مجهولة الهوية ومقيدة الأيدي، والثانية (45 أخرى) تحمل إصابات نارية من مسافات قريبة، والثالثة (30 جثماناً) ظهرت عليها آثار شنق وحروق، بينما ضمت الأخيرة (75 جثماناً) سُحقت تحت الدبابات.
ومن أصل 195 جثماناً، تم التعرف على 51 فقط، بالاعتماد على علامات شخصية نتيجة التشويه الشديد.
وأضاف: 'نمهل الأهالي 10 أيام للتعرف قبل الدفن، لكن الاحتلال لا يزال يحتجز نحو 450 جثماناً إضافياً، ويتعمد حجب الهويات لتعذيب الأهالي نفسياً.'
وأشار إلى أن عمليات التشريح وثّقت آثار التقييد والخنق والإعدام الميداني، إضافة إلى التنكيل بعد الوفاة عبر قطع الأطراف وأخذ العينات الوراثية، مطالباً بتوثيق دولي لهذه الجرائم وعرضها أمام المحاكم الجنائية.
كما أكد مدير عام وزارة الصحة في غزة د. منير البرش أن الجثامين تحمل علامات تنكيل وضرب وتكبيل للأيدي وتعصيب للأعين، وأن بعضها خضع لفحوص DNA في مراكز احتجاز إسرائيلية مثل 'سدي تيمان'.
وفي السياق ذاته، جرى دفن 54 جثماناً مجهول الهوية في مقابر الأرقام بعد فشل محاولات التعرف عليها، ما يعكس عمق الكارثة الإنسانية.
الدعوات الدولية والتأثير الإنساني
تثير هذه الشهادات والتقارير تساؤلاتٍ حول ازدواجية المعايير الدولية، إذ تُبذل جهودٌ حثيثة لاسترجاع جثامين الأسرى الإسرائيليين، بينما يُترك آلاف الشهداء الفلسطينيين تحت الركام أو في ثلاجات الاحتلال.
ويدعو خبراء، من بينهم مدير المركز الفلسطيني للمفقودين والمختفين قسرياً أحمد مسعود، إلى فتح تحقيق دولي مستقل لتوثيق هذه الجرائم، محذّرين من تفاقم آثارها النفسية على الأسر الفلسطينية.
في غزة، حيث أصبح الدفن الكريم رفاهية نادرة، تظل هذه القصص شاهداً على صمود شعبٍ يبحث عن عدالةٍ وسط الركام. وكما قالت أفنان: 'أصبحنا نعرف مكان قبره.'
المصدر / فلسطين أون لاين
التعليقات