أخبار اليوم - مع أول خيط من ضوء الصباح، بدأ عشرات الأطفال يتوافدون إلى قطعة أرض ضيقة في حي النصر غرب مدينة غزة، يحملون دفاتر ممزقة وحقائب بلا سحّابات، ووجوههم تلمع بحماس غريب وسط الركام. هناك، تنتصب خيمة كبيرة نصبتها المعلمة المتقاعدة فاطمة الحلبي، تحولت خلال أسابيع قليلة إلى خيمة تعليمية يدرس فيها نحو 100 طالب وطالبة.
الخيمة المصنوعة من أقمشة نايلون سميكة وقطع مشمّع أزرق، مشدودة بحبال مربوطة على أعمدة خشبية غير متناسقة.
عند المدخل، لافتة صغيرة كتبت بخط اليد: 'مدرسة اقرأ'. داخل الخيمة، قُسّمت المساحة إلى ستة 'فصول' بوساطة ستائر نايلون معلقة على هياكل من خشب جمعه الأهالي من المنازل المدمرة.
الجدران تهتز مع هبوب الريح، ويتسلل الضوء عبر ثقوب صغيرة في السقف، بينما الأرض مفروشة بطبقة رقيقة من الرمل فوقها بقايا إسفنج وأغطية مهترئة يجلس عليها الطلاب.
في أحد الأركان، ألواح خشبية سوداء مطلية بالفحم تعمل كسبورات، تحمل معادلات بسيطة وأحرف الهجاء. صوت الطباشير الخشن على الخشب يختلط بضحكات الأطفال، وصوت الريح التي تضرب أطراف الخيمة، في مشهد يبدو أقرب إلى التحدي منه إلى الدرس التقليدي. هذه المدرسة البديلة، رغم هشاشتها، أصبحت ملاذا يوميا للأطفال، ومساحة تحفظ لهم شعورا بأن الحياة لم تتوقف تمامًا.
ورغم بدائية الإمكانات، تبدو العملية التعليمية داخل الخيمة نابضة بالحياة على نحو يثير الدهشة. تعتمد فاطمة الحلبي ومعها ست معلمات متطوعات على وسائل بسيطة للغاية: سبورة خشبية، أقلام طباشير قليلة، ودفاتر أعيد تدبيس صفحاتها. الدروس تُقدَّم بالصوت والحركة والإشارة، حيث تقف المعلمة أمام الطلاب وترسم الحروف بأصابعها في الهواء، أو تستخدم قطعة من الخشب لتوضيح عمليات الجمع والطرح. أحيانًا تتخذ عبوة بلاستيكية فارغة شكل مجسّم لتعليم العلوم.
ما يلفت الانتباه أكثر هو مشاركة الطلاب. يرفعون أيديهم بحماس، يتسابقون للإجابة، ويكررون بصوت جماعي الدروس خوفا من أن تبتلعها ضوضاء الريح. بعضهم يقف لأن الأماكن لا تكفي، ومع ذلك يصرون على المشاركة، يتهجون الكلمات بصوت مرتجف تارة ومفعم بالثقة تارة أخرى. الأطفال الذين فقدوا مدارسهم وكتبهم يجدون هنا مساحة صغيرة يستعيدون فيها ما تبقى من روتينهم المدرسي.
'شعرت بضياع مستقبلي'
تجلس عبير السعدي، طالبة في الصف الثامن، قرب زاوية الخيمة، تمسك دفتراً فقد غلافه، وتقول بنبرة تجمع بين الخجل والإصرار لصحيفة 'فلسطين': 'كنت أظن أنني لن أدرس هذا العام… حين دُمِّرت مدرستنا شعرت أن المستقبل انطفأ. لكن عندما فتحت المعلمة فاطمة هذه الخيمة، أحسست أن حياتي بدأت تتحرك من جديد'.
ترفع عينيها نحو السبورة الخشبية وتتابع: 'الدراسة هنا صعبة… الفصول ضيقة، ولا مقاعد أو طاولات، لكنني لا أريد أن أنسى ما تعلمته. أخاف أن أكبر وأنا لا أعرف شيئًا'.
ثم تبتسم ابتسامة صغيرة، وكأنها تحاول هزيمة اليأس: 'أريد أن أصبح مهندسة معمارية. أريد أن أعيد بناء مدرستنا وبيتنا وكل البيوت التي تهدمت. أريد أن أدرس حتى أستطيع أن أفعل ذلك'.
وتضيف بصوت أكثر قوة: 'هذه الخيمة ليست مدرسة فقط.. إنها تقول لنا إننا ما زلنا هنا، وإن الحرب لم تأخذ كل شيء'.
يقف خالد العايدي، طالب في الصف السادس، في الصف الأمامي لأنه لا يجد مكانًا يجلس فيه. يقول لصحيفة 'فلسطين': 'أنا كنت أساعد أبي في جمع الحطب بعد ما نزحنا… قلت لنفسي خلص، ما في دراسة. لما سمعت عن الخيمة، ركضت من أول يوم. اشتقت للدرس ولأصحابي'.
ينظر إلى السقف المهتز بفعل الريح ويقول: 'أحيانًا المطر ينزل علينا من فوق،، بس أحسن من إني أظل بالشارع. هنا بحس إني طالب من جديد'.
ويمسح الرمل عن دفتره قبل أن يضيف: 'أنا أحب الرياضيات كثير. لما أفهم المسألة بحس إني قوي… بحس إنه في شي لسه بقدر أسيطر عليه'.
ويتابع: 'أنا بدي أصير معلّم رياضيات. بدي أعلّم الأطفال اللي فقدوا مدارسهم، مثل ما المعلمات هون علمونا. الحرب ما رح توقفنا'.
تطوع يمنح الأمل
تقف ميرا عابد، معلمة متطوعة في منتصف العشرينيات، قرب السبورة الخشبية، يعلو صوتها محاولا جذب انتباه الطلبة. تمسح يديها الملطختين بالطباشير وتقول بثبات واضح لصحيفة 'فلسطين': 'أنا فقدت بيتي ومدرستي وأشياء كثيرة في هذه الحرب… لكن الشيء الوحيد الذي لن أسمح بفقدانه هو تعليم هؤلاء الأطفال. إذا توقف التعليم، الحرب تكون انتصرت'.
تنظر نحو الطالبات الجالسات على قطع الإسفنج المهترئة وتتابع بصوت دافئ: 'هؤلاء الأطفال يحتاجون أكثر من الدرس… يحتاجون مكانًا يشعرون فيه بالأمان، يشعرون أن هناك من يراهم ويهتم بمستقبلهم. كثير منهم يخافون في الليل، يبكون، يفقدون التركيز. التعليم يساعدهم يثبتوا… يعيد لهم جزءًا من حياتهم'.
تلتقط قطعة طباشير مكسورة وتبتسم ابتسامة مريرة: 'نحن نعلّم بفتات الإمكانيات… سبورة من خشب، نايلون يتطاير، ودفاتر ممزقة. لكن الإصرار هنا أكبر من كل شيء. كل يوم آتي وأنا متعبة، أحيانًا بلا طعام، لكن مجرد أن أرى عيونهم تلمع عندما يفهمون فكرة… أشعر بأن كل التعب يختفي'.
وتضيف: 'أنا هنا لأن التعليم مقاومة. لأن هؤلاء الأطفال هم المستقبل الوحيد الذي بقي لنا. إذا تركناهم للجهل واليأس، من سيعيد بناء هذه البلاد؟'.
مقاومة التجهيل
في باحة الخيمة التعليمية، تجلس فاطمة الحلبي، المعلمة المتقاعدة ومديرة هذه المدرسة البديلة، على كرسي بلاستيكي مكسور الساق تستند إليه بحجر، تراقب حركة الطلاب داخل الخيمة بعينين يختلط فيهما الإرهاق بالفخر.
تقول بصوت هادئ لصحيفة 'فلسطين': 'هذه الخيمة ليست مجرد مكان للدراسة… هي آخر ما تبقى لهؤلاء الأطفال من حقهم في التعليم. عندما دُمِّرت المدارس، شعرت أن جيلاً كاملاً يضيع أمام عيني. قلت لنفسي: إذا لم نفتح مكانًا لهم، سيكون ذلك استسلاما'.
ترفع يدها وتشير إلى الفصول المصنوعة من النايلون والخشب: 'نحن نعمل في ظروف لا يمكن وصفها… الأطفال يجلسون على الأرض، بعضهم على قطع إسفنج مهترئة، المطر والرطوبة يقتحمان الفصول. ومع ذلك، يأتون الطلبة كل يوم قبل الوقت، ينتظرون الدرس. هذا وحده يكفي ليجعلنا نستمر'.
ثم تتحول نبرتها إلى طلب واضح: 'لكن الحقيقة أننا بحاجة ماسة لأبسط الأشياء. نحتاج طاولات وكراسي حتى لا يبقى الأطفال على الأرض. نحتاج سبورات حقيقية بدل هذه الألواح الخشبية التي تتآكل. نحتاج قرطاسية: دفاتر، أقلام، كتب. أحيانًا نضطر لتمزيق ورقة واحدة إلى أربعة أجزاء حتى نوزعها'.
وتضيف بنبرة تعكس شعورًا عميقًا بالمسؤولية: 'أنا لا أريد أن تكون هذه المدرسة مجرد مبادرة عابرة.. أريد أن تصمد طوال الحرب، حتى يعود الأطفال إلى مدارسهم الحقيقية. لكن بدون دعم، سيكون من الصعب الاستمرار. التعليم هنا حياة… وإذا فقدناه، سنفقد المستقبل'.
المصدر / فلسطين أون لاين
أخبار اليوم - مع أول خيط من ضوء الصباح، بدأ عشرات الأطفال يتوافدون إلى قطعة أرض ضيقة في حي النصر غرب مدينة غزة، يحملون دفاتر ممزقة وحقائب بلا سحّابات، ووجوههم تلمع بحماس غريب وسط الركام. هناك، تنتصب خيمة كبيرة نصبتها المعلمة المتقاعدة فاطمة الحلبي، تحولت خلال أسابيع قليلة إلى خيمة تعليمية يدرس فيها نحو 100 طالب وطالبة.
الخيمة المصنوعة من أقمشة نايلون سميكة وقطع مشمّع أزرق، مشدودة بحبال مربوطة على أعمدة خشبية غير متناسقة.
عند المدخل، لافتة صغيرة كتبت بخط اليد: 'مدرسة اقرأ'. داخل الخيمة، قُسّمت المساحة إلى ستة 'فصول' بوساطة ستائر نايلون معلقة على هياكل من خشب جمعه الأهالي من المنازل المدمرة.
الجدران تهتز مع هبوب الريح، ويتسلل الضوء عبر ثقوب صغيرة في السقف، بينما الأرض مفروشة بطبقة رقيقة من الرمل فوقها بقايا إسفنج وأغطية مهترئة يجلس عليها الطلاب.
في أحد الأركان، ألواح خشبية سوداء مطلية بالفحم تعمل كسبورات، تحمل معادلات بسيطة وأحرف الهجاء. صوت الطباشير الخشن على الخشب يختلط بضحكات الأطفال، وصوت الريح التي تضرب أطراف الخيمة، في مشهد يبدو أقرب إلى التحدي منه إلى الدرس التقليدي. هذه المدرسة البديلة، رغم هشاشتها، أصبحت ملاذا يوميا للأطفال، ومساحة تحفظ لهم شعورا بأن الحياة لم تتوقف تمامًا.
ورغم بدائية الإمكانات، تبدو العملية التعليمية داخل الخيمة نابضة بالحياة على نحو يثير الدهشة. تعتمد فاطمة الحلبي ومعها ست معلمات متطوعات على وسائل بسيطة للغاية: سبورة خشبية، أقلام طباشير قليلة، ودفاتر أعيد تدبيس صفحاتها. الدروس تُقدَّم بالصوت والحركة والإشارة، حيث تقف المعلمة أمام الطلاب وترسم الحروف بأصابعها في الهواء، أو تستخدم قطعة من الخشب لتوضيح عمليات الجمع والطرح. أحيانًا تتخذ عبوة بلاستيكية فارغة شكل مجسّم لتعليم العلوم.
ما يلفت الانتباه أكثر هو مشاركة الطلاب. يرفعون أيديهم بحماس، يتسابقون للإجابة، ويكررون بصوت جماعي الدروس خوفا من أن تبتلعها ضوضاء الريح. بعضهم يقف لأن الأماكن لا تكفي، ومع ذلك يصرون على المشاركة، يتهجون الكلمات بصوت مرتجف تارة ومفعم بالثقة تارة أخرى. الأطفال الذين فقدوا مدارسهم وكتبهم يجدون هنا مساحة صغيرة يستعيدون فيها ما تبقى من روتينهم المدرسي.
'شعرت بضياع مستقبلي'
تجلس عبير السعدي، طالبة في الصف الثامن، قرب زاوية الخيمة، تمسك دفتراً فقد غلافه، وتقول بنبرة تجمع بين الخجل والإصرار لصحيفة 'فلسطين': 'كنت أظن أنني لن أدرس هذا العام… حين دُمِّرت مدرستنا شعرت أن المستقبل انطفأ. لكن عندما فتحت المعلمة فاطمة هذه الخيمة، أحسست أن حياتي بدأت تتحرك من جديد'.
ترفع عينيها نحو السبورة الخشبية وتتابع: 'الدراسة هنا صعبة… الفصول ضيقة، ولا مقاعد أو طاولات، لكنني لا أريد أن أنسى ما تعلمته. أخاف أن أكبر وأنا لا أعرف شيئًا'.
ثم تبتسم ابتسامة صغيرة، وكأنها تحاول هزيمة اليأس: 'أريد أن أصبح مهندسة معمارية. أريد أن أعيد بناء مدرستنا وبيتنا وكل البيوت التي تهدمت. أريد أن أدرس حتى أستطيع أن أفعل ذلك'.
وتضيف بصوت أكثر قوة: 'هذه الخيمة ليست مدرسة فقط.. إنها تقول لنا إننا ما زلنا هنا، وإن الحرب لم تأخذ كل شيء'.
يقف خالد العايدي، طالب في الصف السادس، في الصف الأمامي لأنه لا يجد مكانًا يجلس فيه. يقول لصحيفة 'فلسطين': 'أنا كنت أساعد أبي في جمع الحطب بعد ما نزحنا… قلت لنفسي خلص، ما في دراسة. لما سمعت عن الخيمة، ركضت من أول يوم. اشتقت للدرس ولأصحابي'.
ينظر إلى السقف المهتز بفعل الريح ويقول: 'أحيانًا المطر ينزل علينا من فوق،، بس أحسن من إني أظل بالشارع. هنا بحس إني طالب من جديد'.
ويمسح الرمل عن دفتره قبل أن يضيف: 'أنا أحب الرياضيات كثير. لما أفهم المسألة بحس إني قوي… بحس إنه في شي لسه بقدر أسيطر عليه'.
ويتابع: 'أنا بدي أصير معلّم رياضيات. بدي أعلّم الأطفال اللي فقدوا مدارسهم، مثل ما المعلمات هون علمونا. الحرب ما رح توقفنا'.
تطوع يمنح الأمل
تقف ميرا عابد، معلمة متطوعة في منتصف العشرينيات، قرب السبورة الخشبية، يعلو صوتها محاولا جذب انتباه الطلبة. تمسح يديها الملطختين بالطباشير وتقول بثبات واضح لصحيفة 'فلسطين': 'أنا فقدت بيتي ومدرستي وأشياء كثيرة في هذه الحرب… لكن الشيء الوحيد الذي لن أسمح بفقدانه هو تعليم هؤلاء الأطفال. إذا توقف التعليم، الحرب تكون انتصرت'.
تنظر نحو الطالبات الجالسات على قطع الإسفنج المهترئة وتتابع بصوت دافئ: 'هؤلاء الأطفال يحتاجون أكثر من الدرس… يحتاجون مكانًا يشعرون فيه بالأمان، يشعرون أن هناك من يراهم ويهتم بمستقبلهم. كثير منهم يخافون في الليل، يبكون، يفقدون التركيز. التعليم يساعدهم يثبتوا… يعيد لهم جزءًا من حياتهم'.
تلتقط قطعة طباشير مكسورة وتبتسم ابتسامة مريرة: 'نحن نعلّم بفتات الإمكانيات… سبورة من خشب، نايلون يتطاير، ودفاتر ممزقة. لكن الإصرار هنا أكبر من كل شيء. كل يوم آتي وأنا متعبة، أحيانًا بلا طعام، لكن مجرد أن أرى عيونهم تلمع عندما يفهمون فكرة… أشعر بأن كل التعب يختفي'.
وتضيف: 'أنا هنا لأن التعليم مقاومة. لأن هؤلاء الأطفال هم المستقبل الوحيد الذي بقي لنا. إذا تركناهم للجهل واليأس، من سيعيد بناء هذه البلاد؟'.
مقاومة التجهيل
في باحة الخيمة التعليمية، تجلس فاطمة الحلبي، المعلمة المتقاعدة ومديرة هذه المدرسة البديلة، على كرسي بلاستيكي مكسور الساق تستند إليه بحجر، تراقب حركة الطلاب داخل الخيمة بعينين يختلط فيهما الإرهاق بالفخر.
تقول بصوت هادئ لصحيفة 'فلسطين': 'هذه الخيمة ليست مجرد مكان للدراسة… هي آخر ما تبقى لهؤلاء الأطفال من حقهم في التعليم. عندما دُمِّرت المدارس، شعرت أن جيلاً كاملاً يضيع أمام عيني. قلت لنفسي: إذا لم نفتح مكانًا لهم، سيكون ذلك استسلاما'.
ترفع يدها وتشير إلى الفصول المصنوعة من النايلون والخشب: 'نحن نعمل في ظروف لا يمكن وصفها… الأطفال يجلسون على الأرض، بعضهم على قطع إسفنج مهترئة، المطر والرطوبة يقتحمان الفصول. ومع ذلك، يأتون الطلبة كل يوم قبل الوقت، ينتظرون الدرس. هذا وحده يكفي ليجعلنا نستمر'.
ثم تتحول نبرتها إلى طلب واضح: 'لكن الحقيقة أننا بحاجة ماسة لأبسط الأشياء. نحتاج طاولات وكراسي حتى لا يبقى الأطفال على الأرض. نحتاج سبورات حقيقية بدل هذه الألواح الخشبية التي تتآكل. نحتاج قرطاسية: دفاتر، أقلام، كتب. أحيانًا نضطر لتمزيق ورقة واحدة إلى أربعة أجزاء حتى نوزعها'.
وتضيف بنبرة تعكس شعورًا عميقًا بالمسؤولية: 'أنا لا أريد أن تكون هذه المدرسة مجرد مبادرة عابرة.. أريد أن تصمد طوال الحرب، حتى يعود الأطفال إلى مدارسهم الحقيقية. لكن بدون دعم، سيكون من الصعب الاستمرار. التعليم هنا حياة… وإذا فقدناه، سنفقد المستقبل'.
المصدر / فلسطين أون لاين
أخبار اليوم - مع أول خيط من ضوء الصباح، بدأ عشرات الأطفال يتوافدون إلى قطعة أرض ضيقة في حي النصر غرب مدينة غزة، يحملون دفاتر ممزقة وحقائب بلا سحّابات، ووجوههم تلمع بحماس غريب وسط الركام. هناك، تنتصب خيمة كبيرة نصبتها المعلمة المتقاعدة فاطمة الحلبي، تحولت خلال أسابيع قليلة إلى خيمة تعليمية يدرس فيها نحو 100 طالب وطالبة.
الخيمة المصنوعة من أقمشة نايلون سميكة وقطع مشمّع أزرق، مشدودة بحبال مربوطة على أعمدة خشبية غير متناسقة.
عند المدخل، لافتة صغيرة كتبت بخط اليد: 'مدرسة اقرأ'. داخل الخيمة، قُسّمت المساحة إلى ستة 'فصول' بوساطة ستائر نايلون معلقة على هياكل من خشب جمعه الأهالي من المنازل المدمرة.
الجدران تهتز مع هبوب الريح، ويتسلل الضوء عبر ثقوب صغيرة في السقف، بينما الأرض مفروشة بطبقة رقيقة من الرمل فوقها بقايا إسفنج وأغطية مهترئة يجلس عليها الطلاب.
في أحد الأركان، ألواح خشبية سوداء مطلية بالفحم تعمل كسبورات، تحمل معادلات بسيطة وأحرف الهجاء. صوت الطباشير الخشن على الخشب يختلط بضحكات الأطفال، وصوت الريح التي تضرب أطراف الخيمة، في مشهد يبدو أقرب إلى التحدي منه إلى الدرس التقليدي. هذه المدرسة البديلة، رغم هشاشتها، أصبحت ملاذا يوميا للأطفال، ومساحة تحفظ لهم شعورا بأن الحياة لم تتوقف تمامًا.
ورغم بدائية الإمكانات، تبدو العملية التعليمية داخل الخيمة نابضة بالحياة على نحو يثير الدهشة. تعتمد فاطمة الحلبي ومعها ست معلمات متطوعات على وسائل بسيطة للغاية: سبورة خشبية، أقلام طباشير قليلة، ودفاتر أعيد تدبيس صفحاتها. الدروس تُقدَّم بالصوت والحركة والإشارة، حيث تقف المعلمة أمام الطلاب وترسم الحروف بأصابعها في الهواء، أو تستخدم قطعة من الخشب لتوضيح عمليات الجمع والطرح. أحيانًا تتخذ عبوة بلاستيكية فارغة شكل مجسّم لتعليم العلوم.
ما يلفت الانتباه أكثر هو مشاركة الطلاب. يرفعون أيديهم بحماس، يتسابقون للإجابة، ويكررون بصوت جماعي الدروس خوفا من أن تبتلعها ضوضاء الريح. بعضهم يقف لأن الأماكن لا تكفي، ومع ذلك يصرون على المشاركة، يتهجون الكلمات بصوت مرتجف تارة ومفعم بالثقة تارة أخرى. الأطفال الذين فقدوا مدارسهم وكتبهم يجدون هنا مساحة صغيرة يستعيدون فيها ما تبقى من روتينهم المدرسي.
'شعرت بضياع مستقبلي'
تجلس عبير السعدي، طالبة في الصف الثامن، قرب زاوية الخيمة، تمسك دفتراً فقد غلافه، وتقول بنبرة تجمع بين الخجل والإصرار لصحيفة 'فلسطين': 'كنت أظن أنني لن أدرس هذا العام… حين دُمِّرت مدرستنا شعرت أن المستقبل انطفأ. لكن عندما فتحت المعلمة فاطمة هذه الخيمة، أحسست أن حياتي بدأت تتحرك من جديد'.
ترفع عينيها نحو السبورة الخشبية وتتابع: 'الدراسة هنا صعبة… الفصول ضيقة، ولا مقاعد أو طاولات، لكنني لا أريد أن أنسى ما تعلمته. أخاف أن أكبر وأنا لا أعرف شيئًا'.
ثم تبتسم ابتسامة صغيرة، وكأنها تحاول هزيمة اليأس: 'أريد أن أصبح مهندسة معمارية. أريد أن أعيد بناء مدرستنا وبيتنا وكل البيوت التي تهدمت. أريد أن أدرس حتى أستطيع أن أفعل ذلك'.
وتضيف بصوت أكثر قوة: 'هذه الخيمة ليست مدرسة فقط.. إنها تقول لنا إننا ما زلنا هنا، وإن الحرب لم تأخذ كل شيء'.
يقف خالد العايدي، طالب في الصف السادس، في الصف الأمامي لأنه لا يجد مكانًا يجلس فيه. يقول لصحيفة 'فلسطين': 'أنا كنت أساعد أبي في جمع الحطب بعد ما نزحنا… قلت لنفسي خلص، ما في دراسة. لما سمعت عن الخيمة، ركضت من أول يوم. اشتقت للدرس ولأصحابي'.
ينظر إلى السقف المهتز بفعل الريح ويقول: 'أحيانًا المطر ينزل علينا من فوق،، بس أحسن من إني أظل بالشارع. هنا بحس إني طالب من جديد'.
ويمسح الرمل عن دفتره قبل أن يضيف: 'أنا أحب الرياضيات كثير. لما أفهم المسألة بحس إني قوي… بحس إنه في شي لسه بقدر أسيطر عليه'.
ويتابع: 'أنا بدي أصير معلّم رياضيات. بدي أعلّم الأطفال اللي فقدوا مدارسهم، مثل ما المعلمات هون علمونا. الحرب ما رح توقفنا'.
تطوع يمنح الأمل
تقف ميرا عابد، معلمة متطوعة في منتصف العشرينيات، قرب السبورة الخشبية، يعلو صوتها محاولا جذب انتباه الطلبة. تمسح يديها الملطختين بالطباشير وتقول بثبات واضح لصحيفة 'فلسطين': 'أنا فقدت بيتي ومدرستي وأشياء كثيرة في هذه الحرب… لكن الشيء الوحيد الذي لن أسمح بفقدانه هو تعليم هؤلاء الأطفال. إذا توقف التعليم، الحرب تكون انتصرت'.
تنظر نحو الطالبات الجالسات على قطع الإسفنج المهترئة وتتابع بصوت دافئ: 'هؤلاء الأطفال يحتاجون أكثر من الدرس… يحتاجون مكانًا يشعرون فيه بالأمان، يشعرون أن هناك من يراهم ويهتم بمستقبلهم. كثير منهم يخافون في الليل، يبكون، يفقدون التركيز. التعليم يساعدهم يثبتوا… يعيد لهم جزءًا من حياتهم'.
تلتقط قطعة طباشير مكسورة وتبتسم ابتسامة مريرة: 'نحن نعلّم بفتات الإمكانيات… سبورة من خشب، نايلون يتطاير، ودفاتر ممزقة. لكن الإصرار هنا أكبر من كل شيء. كل يوم آتي وأنا متعبة، أحيانًا بلا طعام، لكن مجرد أن أرى عيونهم تلمع عندما يفهمون فكرة… أشعر بأن كل التعب يختفي'.
وتضيف: 'أنا هنا لأن التعليم مقاومة. لأن هؤلاء الأطفال هم المستقبل الوحيد الذي بقي لنا. إذا تركناهم للجهل واليأس، من سيعيد بناء هذه البلاد؟'.
مقاومة التجهيل
في باحة الخيمة التعليمية، تجلس فاطمة الحلبي، المعلمة المتقاعدة ومديرة هذه المدرسة البديلة، على كرسي بلاستيكي مكسور الساق تستند إليه بحجر، تراقب حركة الطلاب داخل الخيمة بعينين يختلط فيهما الإرهاق بالفخر.
تقول بصوت هادئ لصحيفة 'فلسطين': 'هذه الخيمة ليست مجرد مكان للدراسة… هي آخر ما تبقى لهؤلاء الأطفال من حقهم في التعليم. عندما دُمِّرت المدارس، شعرت أن جيلاً كاملاً يضيع أمام عيني. قلت لنفسي: إذا لم نفتح مكانًا لهم، سيكون ذلك استسلاما'.
ترفع يدها وتشير إلى الفصول المصنوعة من النايلون والخشب: 'نحن نعمل في ظروف لا يمكن وصفها… الأطفال يجلسون على الأرض، بعضهم على قطع إسفنج مهترئة، المطر والرطوبة يقتحمان الفصول. ومع ذلك، يأتون الطلبة كل يوم قبل الوقت، ينتظرون الدرس. هذا وحده يكفي ليجعلنا نستمر'.
ثم تتحول نبرتها إلى طلب واضح: 'لكن الحقيقة أننا بحاجة ماسة لأبسط الأشياء. نحتاج طاولات وكراسي حتى لا يبقى الأطفال على الأرض. نحتاج سبورات حقيقية بدل هذه الألواح الخشبية التي تتآكل. نحتاج قرطاسية: دفاتر، أقلام، كتب. أحيانًا نضطر لتمزيق ورقة واحدة إلى أربعة أجزاء حتى نوزعها'.
وتضيف بنبرة تعكس شعورًا عميقًا بالمسؤولية: 'أنا لا أريد أن تكون هذه المدرسة مجرد مبادرة عابرة.. أريد أن تصمد طوال الحرب، حتى يعود الأطفال إلى مدارسهم الحقيقية. لكن بدون دعم، سيكون من الصعب الاستمرار. التعليم هنا حياة… وإذا فقدناه، سنفقد المستقبل'.
المصدر / فلسطين أون لاين
التعليقات