أخبار اليوم - في الطابق الأول من مستشفى العيون بمدينة غزة، يقودك السلم الحجري إلى ممرٍّ ضيق يعلوه الصمت، كأن المكان يحاول إخفاء ما مرّ به خلال عامين من حرب الإبادة الجماعية التي أعادت صياغة كل تفاصيل الحياة في قطاع غزة.
على يسارك، وعلى بُعد خطوات قليلة، يقف باب غرفة الطبيب حسام داود، استشاري أول طب وجراحة العيون وزراعة القرنية، والمدير الطبي للمستشفى، والمسؤول الأول عن بنك القرنيات الذي أُغلق قسرًا منذ بداية الحرب المدمرة على القطاع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ترافقنا مسؤولة العلاقات العامة والإعلام في المستشفى، عبير الحسني، وهي تشير بيدها إلى ثقوبٍ متناثرة في الجدار الأبيض لغرفة الطبيب، ثقوب ليست عادية، بل آثار طلقات استقرت في الحائط عندما تعرّض المستشفى للقصف.
لحظة دخولنا، وجدناه جالسًا خلف مكتب بسيط، يمسح نظارته بقطعة قماش صغيرة، قبل أن يرفع رأسه بابتسامة هادئة توحي بصلابة رجل عرفته غرف العمليات أكثر مما عرفته غرف الاجتماعات.
بدأ داوود حديثه بصوت منخفض، لكنه يختزن سنوات من الخبرة والألم: 'توقّف عمل بنك زراعة القرنيات منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. لم يكن ممكنًا الاستمرار؛ فقدنا المستهلكات الطبية، والمعدات، والأدوية، وحتى المتبرعين، وكثير من المرضى فقدوا بصرهم فقط لأننا لم نستطع إجراء عمليات زراعة القرنية'.
عامان بلا نور
كان بنك القرنيات قبل الحرب نافذة أمل لعشرات المرضى شهريًا، فزراعة القرنية ليست عملية جراحية عادية؛ إنها حرفيًا انتقال المريض من ظلام دامس إلى حياة جديدة.
قبل الحرب، كان الفريق الطبي يزرع ما بين 40 و50 قرنية شهريًا، ويستقبل حالات حرجة من مختلف المحافظات، وفق ما قاله الطبيب داود لمراسل 'فلسطين أون لاين'.
لكن كل ذلك توقّف. ويشير داود إلى أن غياب المستهلكات الطبية، وخيوط العمليات، ووسائل حفظ القرنيات، إضافة إلى توقّف التبرع بسبب ظروف الحرب، كلها عوامل شلّت عمل البنك تمامًا.
ويضيف الطبيب، الذي درس في الجامعة الأردنية واكتسب خبرته من بنك العيون فيها: 'كثيرون فقدوا بصرهم، ليس بسبب فشل طبي، بل نتيجة غياب الأدوات. خلال الحرب كان تركيز المستشفى على الإصابات الشديدة، ولم يكن ممكنًا إجراء عمليات زراعة قرنيات. العيون لم تكن أولوية، لا للعالم ولا حتى لوقائع الميدان'.
بداية الحلم
يعود داوود بذاكرته إلى عام 2011، عندما عاد من الأردن وهو يحلم بتأسيس بنك للقرنيات في غزة، مستلهمًا تجربته من البروفيسور معاوية البدور الذي أشرف عليه خلال دراسته، ويقول بابتسامة فخر خفيفة: 'تابعت لسنوات حتى أُقِرّ قانون التبرع بالأعضاء، ولم نبدأ العمل فعليًا إلا بعد عشر سنوات'.
كانت أول عملية زراعة قرنية أجراها الطبيب عام 2015 لرجل من دير البلح، أوصى أبناؤه بالتبرع بقرنيتيه بعد وفاته. نجحت العملية، وتحوّلت إلى حجر أساس لمشروع وطني كبير.
ومع تأسيس بنك زراعة القرنيات، تغيّر واقع آلاف المرضى؛ فلم يعد المصابون ينتظرون شهورًا للحصول على تحويلة خارجية، أو يواجهون كلفة مرتفعة قد تصل إلى 5000 دولار للقرنية الواحدة، أو يقبلون العمى قدرًا محتومًا.
ويتابع داوود: 'كان البنك يقدّم الخدمة مجانًا ضمن حملة وطنية أُطلقت عام 2022، بدعم محلي ودولي، وواكبت وسائل الإعلام نجاحاتها المتتالية'.
عمل دؤوب
يتحدّث استشاري أول طب وجراحة العيون وزراعة القرنية بشغف عن المرحلة الذهبية: 'في اليوم الواحد كنا نزرع ست قرنيات. كنّا نعمل بلا توقّف؛ نحصل على القرنيات اليوم، ونجري العمليات في اليوم التالي مباشرة. أعددنا فريقًا طبيًا متكاملًا، وجُهِّزت مركبة خاصة لجمع القرنيات، وكل ذلك أُنجز في وقت قياسي'.
ويشير إلى أن المواطنين كانوا يوصون بالتبرع قبل وفاتهم، وكانت عائلاتهم تتواصل مع البنك فورًا بعد الوفاة، لتُجرى العملية خلال 24 ساعة من الفحوص الطبية، وكأن كل تفاصيل العمل صُمِّمت لإنقاذ البصر قبل فوات الأوان.
غير أن السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان نقطة التحوّل؛ توقّفت الحياة، وتعرّض المستشفى للتحييد أكثر من مرة، واستُهدفت الطواقم الطبية أثناء تنقلها، وانقطعت الأدوية، وتوقّفت التبرعات، وتحول المستشفى إلى مركز طوارئ يخدم مئات المصابين يوميًا.
ورغم ذلك، أجرى داود عمليتي زراعة قرنية في مستشفى آخر، للحيلولة دون فقدان مريضين لبصرهما نهائيًا.
ماذا يحتاج البنك ليعود إلى العمل؟
سؤال وجّهه مراسل 'فلسطين أون لاين' للطبيب داود، الذي وضع قائمة احتياجات واضحة، واصفًا إيّاها بأنها 'ليست طويلة، لكنها حاسمة'، وتشمل:
توفير متبرعين بالقرنيات، وإدخال المستهلكات الطبية الأساسية، مثل خيوط العمليات، وسوائل الحفظ، والأدوات الخاصة باستخراج ونقل القرنية، إضافة إلى الأدوية اللازمة قبل وبعد العمليات، وإعادة تجهيز فريق طبي متكامل قادر على العمل في جميع محافظات القطاع.
ويكرر الطبيب بثقة لا تخلو من الإصرار: 'القدرة العلمية والفنية متوفرة لدينا، وكل ما نحتاجه هو وصول المواد. خلال أيام فقط، يمكن أن يعود البنك إلى العمل'.
التحدي الأكبر
يشير داود إلى أن مئات المرضى في غزة يواجهون اليوم خطر فقدان البصر الكامل؛ فبعضهم فقد إحدى عينيه بالفعل، وآخرون ينتظرون دورهم منذ عامين. هناك مرضى كبار في السن ترفض مستشفيات خارجية إجراء العمليات لهم، وآخرون يعجزون عن تحمل تكاليف السفر، بينما يمكن لبنك القرنيات إعادتهم للنور فور توفّر القرنية.
ويختم حديثه برسالة موجّهة إلى كل الجهات المعنية: 'يجب إعادة تشغيل بنك زراعة القرنيات فورًا. لا وقت لدينا، فكل يوم تأخير يعني مريضًا جديدًا يدخل في ظلام دائم'، مؤكدًا أن غزة استطاعت يومًا أن تنافس أهم مراكز العالم في زراعة القرنيات، 'ونحن اليوم نحتاج فقط إلى فتح الباب من جديد'.
فلسطين أون لاين
أخبار اليوم - في الطابق الأول من مستشفى العيون بمدينة غزة، يقودك السلم الحجري إلى ممرٍّ ضيق يعلوه الصمت، كأن المكان يحاول إخفاء ما مرّ به خلال عامين من حرب الإبادة الجماعية التي أعادت صياغة كل تفاصيل الحياة في قطاع غزة.
على يسارك، وعلى بُعد خطوات قليلة، يقف باب غرفة الطبيب حسام داود، استشاري أول طب وجراحة العيون وزراعة القرنية، والمدير الطبي للمستشفى، والمسؤول الأول عن بنك القرنيات الذي أُغلق قسرًا منذ بداية الحرب المدمرة على القطاع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ترافقنا مسؤولة العلاقات العامة والإعلام في المستشفى، عبير الحسني، وهي تشير بيدها إلى ثقوبٍ متناثرة في الجدار الأبيض لغرفة الطبيب، ثقوب ليست عادية، بل آثار طلقات استقرت في الحائط عندما تعرّض المستشفى للقصف.
لحظة دخولنا، وجدناه جالسًا خلف مكتب بسيط، يمسح نظارته بقطعة قماش صغيرة، قبل أن يرفع رأسه بابتسامة هادئة توحي بصلابة رجل عرفته غرف العمليات أكثر مما عرفته غرف الاجتماعات.
بدأ داوود حديثه بصوت منخفض، لكنه يختزن سنوات من الخبرة والألم: 'توقّف عمل بنك زراعة القرنيات منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. لم يكن ممكنًا الاستمرار؛ فقدنا المستهلكات الطبية، والمعدات، والأدوية، وحتى المتبرعين، وكثير من المرضى فقدوا بصرهم فقط لأننا لم نستطع إجراء عمليات زراعة القرنية'.
عامان بلا نور
كان بنك القرنيات قبل الحرب نافذة أمل لعشرات المرضى شهريًا، فزراعة القرنية ليست عملية جراحية عادية؛ إنها حرفيًا انتقال المريض من ظلام دامس إلى حياة جديدة.
قبل الحرب، كان الفريق الطبي يزرع ما بين 40 و50 قرنية شهريًا، ويستقبل حالات حرجة من مختلف المحافظات، وفق ما قاله الطبيب داود لمراسل 'فلسطين أون لاين'.
لكن كل ذلك توقّف. ويشير داود إلى أن غياب المستهلكات الطبية، وخيوط العمليات، ووسائل حفظ القرنيات، إضافة إلى توقّف التبرع بسبب ظروف الحرب، كلها عوامل شلّت عمل البنك تمامًا.
ويضيف الطبيب، الذي درس في الجامعة الأردنية واكتسب خبرته من بنك العيون فيها: 'كثيرون فقدوا بصرهم، ليس بسبب فشل طبي، بل نتيجة غياب الأدوات. خلال الحرب كان تركيز المستشفى على الإصابات الشديدة، ولم يكن ممكنًا إجراء عمليات زراعة قرنيات. العيون لم تكن أولوية، لا للعالم ولا حتى لوقائع الميدان'.
بداية الحلم
يعود داوود بذاكرته إلى عام 2011، عندما عاد من الأردن وهو يحلم بتأسيس بنك للقرنيات في غزة، مستلهمًا تجربته من البروفيسور معاوية البدور الذي أشرف عليه خلال دراسته، ويقول بابتسامة فخر خفيفة: 'تابعت لسنوات حتى أُقِرّ قانون التبرع بالأعضاء، ولم نبدأ العمل فعليًا إلا بعد عشر سنوات'.
كانت أول عملية زراعة قرنية أجراها الطبيب عام 2015 لرجل من دير البلح، أوصى أبناؤه بالتبرع بقرنيتيه بعد وفاته. نجحت العملية، وتحوّلت إلى حجر أساس لمشروع وطني كبير.
ومع تأسيس بنك زراعة القرنيات، تغيّر واقع آلاف المرضى؛ فلم يعد المصابون ينتظرون شهورًا للحصول على تحويلة خارجية، أو يواجهون كلفة مرتفعة قد تصل إلى 5000 دولار للقرنية الواحدة، أو يقبلون العمى قدرًا محتومًا.
ويتابع داوود: 'كان البنك يقدّم الخدمة مجانًا ضمن حملة وطنية أُطلقت عام 2022، بدعم محلي ودولي، وواكبت وسائل الإعلام نجاحاتها المتتالية'.
عمل دؤوب
يتحدّث استشاري أول طب وجراحة العيون وزراعة القرنية بشغف عن المرحلة الذهبية: 'في اليوم الواحد كنا نزرع ست قرنيات. كنّا نعمل بلا توقّف؛ نحصل على القرنيات اليوم، ونجري العمليات في اليوم التالي مباشرة. أعددنا فريقًا طبيًا متكاملًا، وجُهِّزت مركبة خاصة لجمع القرنيات، وكل ذلك أُنجز في وقت قياسي'.
ويشير إلى أن المواطنين كانوا يوصون بالتبرع قبل وفاتهم، وكانت عائلاتهم تتواصل مع البنك فورًا بعد الوفاة، لتُجرى العملية خلال 24 ساعة من الفحوص الطبية، وكأن كل تفاصيل العمل صُمِّمت لإنقاذ البصر قبل فوات الأوان.
غير أن السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان نقطة التحوّل؛ توقّفت الحياة، وتعرّض المستشفى للتحييد أكثر من مرة، واستُهدفت الطواقم الطبية أثناء تنقلها، وانقطعت الأدوية، وتوقّفت التبرعات، وتحول المستشفى إلى مركز طوارئ يخدم مئات المصابين يوميًا.
ورغم ذلك، أجرى داود عمليتي زراعة قرنية في مستشفى آخر، للحيلولة دون فقدان مريضين لبصرهما نهائيًا.
ماذا يحتاج البنك ليعود إلى العمل؟
سؤال وجّهه مراسل 'فلسطين أون لاين' للطبيب داود، الذي وضع قائمة احتياجات واضحة، واصفًا إيّاها بأنها 'ليست طويلة، لكنها حاسمة'، وتشمل:
توفير متبرعين بالقرنيات، وإدخال المستهلكات الطبية الأساسية، مثل خيوط العمليات، وسوائل الحفظ، والأدوات الخاصة باستخراج ونقل القرنية، إضافة إلى الأدوية اللازمة قبل وبعد العمليات، وإعادة تجهيز فريق طبي متكامل قادر على العمل في جميع محافظات القطاع.
ويكرر الطبيب بثقة لا تخلو من الإصرار: 'القدرة العلمية والفنية متوفرة لدينا، وكل ما نحتاجه هو وصول المواد. خلال أيام فقط، يمكن أن يعود البنك إلى العمل'.
التحدي الأكبر
يشير داود إلى أن مئات المرضى في غزة يواجهون اليوم خطر فقدان البصر الكامل؛ فبعضهم فقد إحدى عينيه بالفعل، وآخرون ينتظرون دورهم منذ عامين. هناك مرضى كبار في السن ترفض مستشفيات خارجية إجراء العمليات لهم، وآخرون يعجزون عن تحمل تكاليف السفر، بينما يمكن لبنك القرنيات إعادتهم للنور فور توفّر القرنية.
ويختم حديثه برسالة موجّهة إلى كل الجهات المعنية: 'يجب إعادة تشغيل بنك زراعة القرنيات فورًا. لا وقت لدينا، فكل يوم تأخير يعني مريضًا جديدًا يدخل في ظلام دائم'، مؤكدًا أن غزة استطاعت يومًا أن تنافس أهم مراكز العالم في زراعة القرنيات، 'ونحن اليوم نحتاج فقط إلى فتح الباب من جديد'.
فلسطين أون لاين
أخبار اليوم - في الطابق الأول من مستشفى العيون بمدينة غزة، يقودك السلم الحجري إلى ممرٍّ ضيق يعلوه الصمت، كأن المكان يحاول إخفاء ما مرّ به خلال عامين من حرب الإبادة الجماعية التي أعادت صياغة كل تفاصيل الحياة في قطاع غزة.
على يسارك، وعلى بُعد خطوات قليلة، يقف باب غرفة الطبيب حسام داود، استشاري أول طب وجراحة العيون وزراعة القرنية، والمدير الطبي للمستشفى، والمسؤول الأول عن بنك القرنيات الذي أُغلق قسرًا منذ بداية الحرب المدمرة على القطاع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ترافقنا مسؤولة العلاقات العامة والإعلام في المستشفى، عبير الحسني، وهي تشير بيدها إلى ثقوبٍ متناثرة في الجدار الأبيض لغرفة الطبيب، ثقوب ليست عادية، بل آثار طلقات استقرت في الحائط عندما تعرّض المستشفى للقصف.
لحظة دخولنا، وجدناه جالسًا خلف مكتب بسيط، يمسح نظارته بقطعة قماش صغيرة، قبل أن يرفع رأسه بابتسامة هادئة توحي بصلابة رجل عرفته غرف العمليات أكثر مما عرفته غرف الاجتماعات.
بدأ داوود حديثه بصوت منخفض، لكنه يختزن سنوات من الخبرة والألم: 'توقّف عمل بنك زراعة القرنيات منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. لم يكن ممكنًا الاستمرار؛ فقدنا المستهلكات الطبية، والمعدات، والأدوية، وحتى المتبرعين، وكثير من المرضى فقدوا بصرهم فقط لأننا لم نستطع إجراء عمليات زراعة القرنية'.
عامان بلا نور
كان بنك القرنيات قبل الحرب نافذة أمل لعشرات المرضى شهريًا، فزراعة القرنية ليست عملية جراحية عادية؛ إنها حرفيًا انتقال المريض من ظلام دامس إلى حياة جديدة.
قبل الحرب، كان الفريق الطبي يزرع ما بين 40 و50 قرنية شهريًا، ويستقبل حالات حرجة من مختلف المحافظات، وفق ما قاله الطبيب داود لمراسل 'فلسطين أون لاين'.
لكن كل ذلك توقّف. ويشير داود إلى أن غياب المستهلكات الطبية، وخيوط العمليات، ووسائل حفظ القرنيات، إضافة إلى توقّف التبرع بسبب ظروف الحرب، كلها عوامل شلّت عمل البنك تمامًا.
ويضيف الطبيب، الذي درس في الجامعة الأردنية واكتسب خبرته من بنك العيون فيها: 'كثيرون فقدوا بصرهم، ليس بسبب فشل طبي، بل نتيجة غياب الأدوات. خلال الحرب كان تركيز المستشفى على الإصابات الشديدة، ولم يكن ممكنًا إجراء عمليات زراعة قرنيات. العيون لم تكن أولوية، لا للعالم ولا حتى لوقائع الميدان'.
بداية الحلم
يعود داوود بذاكرته إلى عام 2011، عندما عاد من الأردن وهو يحلم بتأسيس بنك للقرنيات في غزة، مستلهمًا تجربته من البروفيسور معاوية البدور الذي أشرف عليه خلال دراسته، ويقول بابتسامة فخر خفيفة: 'تابعت لسنوات حتى أُقِرّ قانون التبرع بالأعضاء، ولم نبدأ العمل فعليًا إلا بعد عشر سنوات'.
كانت أول عملية زراعة قرنية أجراها الطبيب عام 2015 لرجل من دير البلح، أوصى أبناؤه بالتبرع بقرنيتيه بعد وفاته. نجحت العملية، وتحوّلت إلى حجر أساس لمشروع وطني كبير.
ومع تأسيس بنك زراعة القرنيات، تغيّر واقع آلاف المرضى؛ فلم يعد المصابون ينتظرون شهورًا للحصول على تحويلة خارجية، أو يواجهون كلفة مرتفعة قد تصل إلى 5000 دولار للقرنية الواحدة، أو يقبلون العمى قدرًا محتومًا.
ويتابع داوود: 'كان البنك يقدّم الخدمة مجانًا ضمن حملة وطنية أُطلقت عام 2022، بدعم محلي ودولي، وواكبت وسائل الإعلام نجاحاتها المتتالية'.
عمل دؤوب
يتحدّث استشاري أول طب وجراحة العيون وزراعة القرنية بشغف عن المرحلة الذهبية: 'في اليوم الواحد كنا نزرع ست قرنيات. كنّا نعمل بلا توقّف؛ نحصل على القرنيات اليوم، ونجري العمليات في اليوم التالي مباشرة. أعددنا فريقًا طبيًا متكاملًا، وجُهِّزت مركبة خاصة لجمع القرنيات، وكل ذلك أُنجز في وقت قياسي'.
ويشير إلى أن المواطنين كانوا يوصون بالتبرع قبل وفاتهم، وكانت عائلاتهم تتواصل مع البنك فورًا بعد الوفاة، لتُجرى العملية خلال 24 ساعة من الفحوص الطبية، وكأن كل تفاصيل العمل صُمِّمت لإنقاذ البصر قبل فوات الأوان.
غير أن السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان نقطة التحوّل؛ توقّفت الحياة، وتعرّض المستشفى للتحييد أكثر من مرة، واستُهدفت الطواقم الطبية أثناء تنقلها، وانقطعت الأدوية، وتوقّفت التبرعات، وتحول المستشفى إلى مركز طوارئ يخدم مئات المصابين يوميًا.
ورغم ذلك، أجرى داود عمليتي زراعة قرنية في مستشفى آخر، للحيلولة دون فقدان مريضين لبصرهما نهائيًا.
ماذا يحتاج البنك ليعود إلى العمل؟
سؤال وجّهه مراسل 'فلسطين أون لاين' للطبيب داود، الذي وضع قائمة احتياجات واضحة، واصفًا إيّاها بأنها 'ليست طويلة، لكنها حاسمة'، وتشمل:
توفير متبرعين بالقرنيات، وإدخال المستهلكات الطبية الأساسية، مثل خيوط العمليات، وسوائل الحفظ، والأدوات الخاصة باستخراج ونقل القرنية، إضافة إلى الأدوية اللازمة قبل وبعد العمليات، وإعادة تجهيز فريق طبي متكامل قادر على العمل في جميع محافظات القطاع.
ويكرر الطبيب بثقة لا تخلو من الإصرار: 'القدرة العلمية والفنية متوفرة لدينا، وكل ما نحتاجه هو وصول المواد. خلال أيام فقط، يمكن أن يعود البنك إلى العمل'.
التحدي الأكبر
يشير داود إلى أن مئات المرضى في غزة يواجهون اليوم خطر فقدان البصر الكامل؛ فبعضهم فقد إحدى عينيه بالفعل، وآخرون ينتظرون دورهم منذ عامين. هناك مرضى كبار في السن ترفض مستشفيات خارجية إجراء العمليات لهم، وآخرون يعجزون عن تحمل تكاليف السفر، بينما يمكن لبنك القرنيات إعادتهم للنور فور توفّر القرنية.
ويختم حديثه برسالة موجّهة إلى كل الجهات المعنية: 'يجب إعادة تشغيل بنك زراعة القرنيات فورًا. لا وقت لدينا، فكل يوم تأخير يعني مريضًا جديدًا يدخل في ظلام دائم'، مؤكدًا أن غزة استطاعت يومًا أن تنافس أهم مراكز العالم في زراعة القرنيات، 'ونحن اليوم نحتاج فقط إلى فتح الباب من جديد'.
فلسطين أون لاين
التعليقات