أبو حازم .. رجل الإصلاح الذي ختم سيرته بالشهادة

mainThumb
أبو حازم.. رجل الإصلاح الذي ختم سيرته بالشهادة

15-07-2025 09:46 AM

printIcon

أخبار اليوم - في كلّ حارة من حارات مخيم الشاطئ كان اسمه كفيلًا بأن تُطفأ فتنة قبل أن تكبر، وأن تُحلّ عقدة قبل أن تتشابك. كان رجلًا يمشي بخُطى ثابتة بين البيوت والقلوب، يحمل هموم الناس في جيبه كما يحمل مسبحته القديمة التي لا تفارق يده. إنه أبو حازم يونس (جودة)، رجل الإصلاح السبعيني الذي ارتقى شهيدًا قبل أيام، تاركًا خلفه سيرة طيّبة، وبيوتًا تتحدّث عن فضله حتى وهو يوارى الثرى.

في تلك الليلة، كان البيت الذي اعتاد أن يجمع المتخاصمين، شاهداً على واحدة من أبشع المجازر التي ارتكبها الاحتلال في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة. قُصف المنزل الكبير، الذي كان يكتظّ بالأطفال والنساء وكبار السن، ليهوي سقفه الثقيل على رؤوس أكثر من خمسين فردًا من العائلة الممتدّة.

يقول باسل، أحد أبناء الشهيد، وهو يضمّد جرحه الذي لم يلتئم بعد: «هذه ليست المرة الأولى التي يُقصف فيها بيتنا خلال الحرب، لكن هذه المرة كانت أشدّ رعبًا. في البداية، ظننا أنّ الجميع قد استشهد تحت الركام، من شدّة الدمار وتكدّس الأنقاض فوق بعضنا. ما من غرفة ولا زاوية إلا وانهارت فوق رؤوسنا».

كانت نيّة الاحتلال واضحة في تلك الليلة؛ مجزرة جديدة تُضاف إلى عشرات المجازر التي يشهدها المخيم منذ أكثر من عشرة أيام. لم يفرّق القصف الغادر بين شيخٍ مسنّ ولا امرأة ولا طفل، كلّهم تحت القصف سواء.

يضيف باسل بصوتٍ مختنق لـ "فلسطين أون لاين": «عائلتنا كبيرة جدًا، أكثر من خمسين فردًا بين أب وأم وأبناء وأحفاد. لكنّ رحمة الله كانت أكبر من حقد القذائف. استشهد أبي أبو حازم، وزوجة أخي، وأطفالها الخمسة الذين لم يعرفوا من الدنيا إلا حبّ جدّهم لهم. نُقلنا جميعًا إلى المستشفى وبعضنا بين الحياة والموت، إصابات متوسطة وخطيرة. كانت مجزرة حقيقية».

ليس سهلاً أن يكتب الناس عن رجلٍ عاش طيّبًا ومات كريمًا، ففي كلّ تفاصيل سيرته، حكايات تسبق الحروف. أبو حازم، الذي كان بيته بمثابة «ديوان صغير» للجيران، لم يكن يومًا طرفًا في خلاف، بل ظلّ يجمع المتخاصمين على كلمة سواء، يحنو على هذا ويطيب خاطر ذاك.

يقول باسل، وهو يستعيد سيرة والده التي سبقت رائحة البارود: «كان أبي رجل إصلاح معروفًا. الناس تلجأ إليه من كلّ مكان. لم يكن يردّ أحدًا، وبيته كان مفتوحًا. تخيّل أن الليلة التي سبقت المجزرة، كان عندنا بعض الجيران يجلسون في حضرته يحاولون حلّ مشكلة نشبت بينهم. كان حريصًا على أن ينهي أي خلاف قبل أن ينفلت».

كبر أبو حازم بين الأزقة الضيّقة للمخيم، وكبرت معه سيرته التي صارت جزءًا من ذاكرة المكان. لم يكن يملك من الدنيا إلا كلمته الطيبة، وهي كانت تكفيه. رحل شهيدًا، بعد عمر طويل أمضاه حاملًا هموم الناس بين يديه.

لم تتوقّف آلة القتل عند جدران البيت المنهار. الحاجة أم حازم، رفيقة دربه التي عاشت معه عمرًا طويلًا من الإصلاح والحياة البسيطة، خرجت من تحت الركام وهي بين الحياة والموت، إذ أصيبت إصابة خطيرة لتكمل صورة الوجع الذي يعيشه الناجون من تحت الأنقاض.

يقول باسل: «أمي اليوم في المستشفى، جرحها شاهد على أن الاحتلال لم يفرّق يومًا بين رجلٍ مسنّ ولا امرأة ولا رضيع. نحن تحت القصف جميعًا، لا استثناءات هنا».

في الممرات الضيقة لمخيم الشاطئ، يهمس الجيران في ما بينهم أنّ بيت أبو حازم الذي كان بيت إصلاح وسلام، صار حطامًا يحكي للعالم وجه الاحتلال العاري من أي إنسانية. إنه بيتٌ تهدّم ليُبقي حكاية الرجل حيّة في أفواه الناس.

عائلة الشهيد أبو حازم اليوم بلا سقف ولا مأوى، إذ دُمرت جدران البيت كلها ولم يبقَ لهم سوى خيمة صغيرة نصبوها عند أطراف المخيم بانتظار أن يلتئم جرح الناجين. لكنّ الذاكرة المليئة بضحكات الجدّ وجلساته بين أولاده وأحفاده أكبر من أن يزيلها ركام أو حرب.

يقول أحد الجيران وقد ربت بيده على كتف باسل: «أبو حازم رحل بجسده، لكن بقي اسمه علامة خير. كلّ بيت في المخيم فيه ذكرى لرجلٍ أطفأ نار فتنة أو أصلح بين إخوة أو أعاد المياه إلى مجاريها».

أما باسل فيردّ عليه وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة ممزوجة بدموع: «نحن فخورون بأبي. عاش عمره كله يجمع الناس، وختمه الله بالشهادة. هذه نهاية مشرّفة بعد سيرة طيّبة. وما حدث معنا يحدث كل يوم في غزة، عشرات البيوت تحوّلت إلى مقابر جماعية تحت القصف».

ليست مجزرة أبو حازم يونس إلا واحدة من عشرات المجازر التي يرتكبها الاحتلال في مخيم الشاطئ خلال الأيام الأخيرة. يرحل الشهداء تباعًا، ويُدفنون تحت الركام دون أن يجد العالم متسعًا للإنصات إلى قصصهم.

لكن بين الركام، تبقى السيرة. رجل الإصلاح الذي لم يعرف يومًا حدودًا للخير، ارتقى شهيدًا، تاركًا لجيرانه حكاية سيحكونها طويلًا: «كان بيته مأوى للصلح والسلام.. حتى صار قبرًا كبيرًا».

المصدر / فلسطين أون لاين