أخبار اليوم - استذكرت ندوة نظمها منتدى مؤسسة عبد الحميد شومان الثقافي مؤخرا، الكاتب والشاعر الأردني الراحل أمجد ناصر بعنوان " أمجد ناصر: طريق الشعر والنثر والسفر"، شارك فيها نخبة من الأدباء، والأكاديميين، والكتاب، الأردنيين، والعرب.
وقالت الرئيسية التنفيذية للمؤسسة فالنتينا قسيسية في كلمة ألقاها نيابة عنها مدير المنتدى الثقافي والجوائز الأدبية موفق ملكاوي، إن الندوة تأتي انطلاقا من فرادة التجربة الأدبية للشاعر والأديب الأردني الراحل أمجد ناصر، ونتطلّع من خلالها إلى كشف جوانب ثرية تلقي الضوء على إبداعه ومكانته وتجربته، إلى جانب استكشاف امتداده في أبناء جيله العربي وتأثيره في الأجيال اللاحقة.
وأضافت أن الندوة تأتي أيضا من باب تكريم الإبداع الأدبي والثقافي تحت اسم بارز من عناوينه، هو اسم أمجد ناصر الذي يرتبط أثره بدوره في تطوير قصيدة النثر العربية على مدى أربعة عقود، وقد مثّلت دواوينه الشعرية تجربة فريدة في إطار هذه القصيدة.
وأكدت أن مؤسسة عبد الحميد شومان، تؤمن بأهمية الكلمة ودورها في بناء الوعي وتشكيل الوجدان، وتؤمن أن الثقافة جسر يربط الماضي بالحاضر والمستقبل، وأن الإبداع هو المحرك الأساسي لتقدم الأمم، وهي تلتفت باستمرار إلى أولئك الذين أسهموا في وضع بصمة خاصة على هذا المدماك الحيوي. ولذلك، فإن المؤسسة ترى في تكريم أمجد ناصر تكريما لكل مبدع، وتشجيعا لكل قلم يطرح رؤيته الخاصة في مجال الإبداع.
وأستذكر المتحدثون في الندوة الإنجازات والأعمال الأدبية والشعرية للراحل أمجد ناصر، مؤكدين أنه أحد الأدباء الأردنيين الذين امتد تأثيره إلى كامل العالم العربي وليس في الأردن فقط، وقد أثر كثيرا بأبناء جيله من الشعراء وخاصة قصيدة النثر.
وتحدث في الجلسة الأولى التي جاءت بعنوان " في التجربة الشعرية " وترأستها الكاتبة بسمة نسور، الكاتب صبحي حديدي بورقة بعنوان "أمجد ناصر وقصيدة النثر: ثلاث مجازفات في الشكل والمحتوى"، والدكتور زياد الزعبي بورقة بعنوان "الصورة في شعر أمجد ناصر"، والدكتور جمال مقابلة بورقة عنوانها "اللمعات النقدية في شعر أمجد ناصر"، والدكتورة مها العتوم بورقة بعنوان "مفهوم قصيدة النثر عند أمجد ناصر".
وبين المتحدثون أن الراحل ناصر هو أحد الأصوات الأبرز في جيل من الشاعرات والشعراء عريض وتعددي وغنيّ، صعد منذ أواسط سبعينيات القرن المنصرم وتسيّد المشهد لاعتبارات شتى قد يكون في طليعتها دأبُ التجريب، وجسارته، ومحاسنه، وعثراته.
وأشاروا إلى أن أعماله الإبداعية أعمال ملتبسة في تجنيسها، متمردة في لغتها، ممتدة في أطرها الجغرافية المتباعدة مكانيا وحضاريا ولغويا، مثلما لفتوا إلى أنّ شعر أمجد ناصر يظهر نزوعًا ميتاشعريًا يعكس وعيًا نقديًا عميقًا بمفهوم الشعر وحدوده؛ لأنّه يكتب قصيدة يصف فيها العالم، وهو يتأمل فعل الكتابة المدهش في ذاته، وهو الفعل الذي يمكّنه من القدرة على وصف هذا العالم كما يراه.
وأوضحوا أن ناصر قدم خلال تجربته الطويلة والممتدة على مدى يقارب الأربعين عاماً: 1979-2019 قصيدة نثر متكاملة الأركان والملامح، وكانت التحولات التي مرت بها قصيدته تشي بنموٍّ يتصاعد تدريجياً وصولاً إلى مرحلة النضج. وبينوا أن أمجد ناصر هو واحدٌ من أهم شعراء جيله وأكثرهم دأبًا على المغامرة والتجريب وولوج مناطق شعريّة جديدة خاصّة بعد ديوانه "الحياة كسرد منقطع" الذي رسّخه واحدًا من أهم شعراء قصيدة النثر العربيّة.
اما الجلسة الثانية وعنوانها " قضايا ثقافية وأسلوبية "، وترأستها الدكتورة بثنية البلخي، فقد تحدث فيها الكاتب فخري صالح وجاءت ورقته بعنوان "الأسلوب الأخير: أمجد ناصر في "مملكة أدم""، والدكتورة ليديا راشد بورقة عنوانها "سؤال الهوية ولعبة السرد في " حيث لا تسقط الأمطار""، والدكتورة فاطمة محيسن بورقة عنوانها "شعرية الرحلة والآخر الثقافي: بلاد ماركيز أنموذجا"، والدكتور ليث الرواجفة بورقة عنوانها جماليات الأبعاد الثقافية في شعر أمجد ناصر: مقارنة نسقية في نماذج مختارة".
المتحدثون في أوراقهم أشاروا إلى أن أمجد ناصر عرف شاعرًا طليعيًّا يتجاوز الأشكال الشعرية بشجاعة منحازًا إلى حرية التعبير والتشكيل في القصيدة النثرية منذ ديوانه الأول، غير أن أمجد لم يكن شاعرا فحسب، إنما كان سرّادًا ذكيًّا تتسلل جماليات أسلوبه الوثاب إلى التمرد في شعره وسرده معًا.
وقالوا إن ناصر أبدع في أدب الرحلة حيث امتازت كتاباته في هذا الجنس الأدبيّ بأنها تحفل بالمرجعيات؛ فكتب الرحلة كمن يكتب بحثًا، وأبدع في خطّ رحلاته التي نجد في كل واحدة منها إحالات عديدة وغنيّة تذكّرنا بقوّة بمذكرات كازانتزاكي المليئة بالرموز والتأملات
وتحدث في الجلسة الثالثة التي ترأسها الأديب مفلح العدوان وجاءت بعنوان " المقال وكتابة الذات"، الشاعر حسين جلعاد بورقة جاءت بعنوان " بين الشعر والموقف.. جمالية المقال الصحفي عند أمجد ناصر"، والروائي يحيى القيسي بورقة بعنوان "المقال الصحفي وكتابة الذات"، والدكتور محمد عبيدالله بورقة بعنوان" كتابة الذات وشعرية النثر".
وأشار المتحدثون إلى أن تجربة أمجد ناصر تشكّلت في منطقة وسيطة بين الإبداع الشعري والممارسة الصحفية. بدأ الصحافة في عمّان وواصلها في بيروت، ومع انتقاله إلى لندن في ثمانينيات القرن العشرين، دخل عالم الصحافة الثقافية والسياسية من بابها العريض، ليصبح أحد أهم الأقلام التي كتبت المقال الأسبوعي بأسلوب فني لا يخلو من الشاعرية والتهكم والحس التاريخي معًا.
وقالوا إنه لا يكتفي بالانحياز الواضح للقضايا الوطنية الكبرى كمثقف عضوي مشتبك مع أمته، بل يتناول المسائل الشخصية التي تبدو عادية إذ يلتقطها بذكاء، وينفخ فيها من قدراته البلاغية والمعرفية لتغدو مسألة عامّةً، وهو بكلّ ذلك يسعى إلى أن تخرج بعد قراءتك لمقاله وأنت مقتنع برأيه.
وأضافوا أن نثر أمجد ناصر لا يقل قيمة وأهمية عن شعره، وهو حري بالقراءة والتحليل والتأمل، لقيمته المعرفية والفنية التي تأتّت للأديب الراحل بعد خبرة طويلة في الشعر والكتابة والصحافة، وهو حقا نثر نادر في الكتابة العربية لخصوصية التجربة في تعبيرها عن "جماليات" البداوة، من منظور بدوي وحضري في آن.
الجلسة الرابعة التي ترأستها الشاعرة وفاء جعبور وحملت عنوان " التجربة الروائية والسردية "، تحدث فيها الدكتورة أماني سليمان وحملت ورقتها عنوان " شعرية الرواية في "هنا الوردة ""، والدكتور عماد الضمور وجاءت ورقته بعنوان " جماليّة أدب الرحلات "خبط الأجنحة" أنموذجًا، والدكتورة لينداء عبيد وحملت ورقتها عنوان " الرواية والتقنية في "حيث لا تسقط الأمطار""، كذلك الدكتورة نداء مشعل وجاءت ورقتها بعنوان ""هنا الوردة": استعارة الغياب في الرواية العربية المعاصرة.
وأظهرت أوراق العمل في تلك الجلسة، أن ناصر امتلك حساسية في استخدام الأنساق الجمالية التي يستبطنها الشعر مبدعا نسيجا لغويا شفافا وموحيا، وأكثر ما يلفت النظر في روايته (هنا الوردة) هو لغتها التي تجاوزت غاية الإبلاغ السردي وتعالت عليه لتتماس مع غيوم الشعر، ولم يبد ذلك ناتئا في النص أو مجاوزا؛ بل تمظهر جليا في التناغم بين السرد وطبيعة الشخصية المركزية التي اختارتها الرواية.
وبينوا أن أدب الرِّحلة بالنسبة للشاعر أمجد ناصر رحلة معكوسة في التاريخ والجغرافيا تكشف عن المتشابهات الحضارية باختلاف الزمان من جهة، ورحلة من الموضوع إلى الذات لاختبار الذاكرة من جهة ثانية.
وترأس الجلسة الخامسة والأخيرة الكاتب مفلح العدوان وجاءت بعنوان " شهادة في الصداقة والهجرة والقصيدة "، وتحدث فيها الشاعر نوري الجراح بورقة عنوانها " شهادة في الصداقة والهجرة والقصيدة المتمردة"، والدكتور غسان زقطان وجاءت ورقته بعنوان " أفكارك في مأمن وكتابك يمشي في الحديقة"، بالإضافة إلى شهادة عائلة الشاعر قدمتها أبنة أخ الراحل ليلى النعيمي.
في ورقته اعتبر الشاعر نوري الجراح كل من أمجد ناصر، وعباس بيضون، وسركون بولص، وبسام حجار.. وعدد قليل آخر من شعراء قصيدة النثر هم بحق رواد الموجة الثانية، بل إن منجزهم الجمالي والفكري يتفوق بمراحل على شعراء الموجة الأولى.
وقال الدكتور زقطان إن التكوين الغريب الذي شكل تجربة "أمجد" منحه بقوة تلك السمة الخاصة، والتي تبدو مثل بصمة لا يمكن تقليدها أو تكرارها، أقصد التمازج المبدع بين النشأة بتقشفها، سواء في مشهدياتها التي تغلب عليها العناصر القليلة لطبيعة البادية، ما يسمح للمتأمل أن يحدق في كل شجرة على حدة، وفي كلّ ظلّ قد يلوح، والسعي في مدن الآخرين بلا أباليتها وما انطوت عليه من تجاهل وقسوة، وهو ما فعله أمجد في مشروعه الشعري الذي عمقه في جهده السردي اللاحق.
وألقت ليلى أحمد النعيمي نصا أدبيا قالت فيه:
عمل غير مكتمل
"ركض أمجد إلى شقته بعد أن شهد حدثًا في مقهى.
ليس الأمر كما يبدو. لم يكن هذا الحدث مما يهدد الحياة.
على العكس تمامًا. أعاد إليه الروح المتوقدة في داخله.
كان ملهمًا لإبداعه.
كان تفاعلًا بين شابين يتبادلان مجاملات لطيفة.
كان بسيطًا، غير معقد، ويشع بمودة هادئة.
ركض طويلًا في شوارع لندن الصاخبة. لم يكترث للخطر المحتمل الذي تشكله الأرصفة المبللة الزلقة. "لندن ليست لندن من دون مطر"، فكر في نفسه وهو يدعو في سره ألا تنزلق قدمه ويسقط، فينكسر شيء مما يحمله.
شعر أنه ركض لدهر كامل قبل أن يصل إلى المبنى الذي يسكنه. لم يضع وقتًا، فقد تعجل في فتح مدخله، ودلف داخلًا.
ضغط على زر المصعد بسرعة، وبدأ ينقر بقدمه على الأرض بفارغ الصبر، كما لو أنه يستعجل المصعد بالقدوم.
أخيرًا، استقل المصعد، وضغط على زر الطابق الثاني.
وصل أخيرًا إلى شقته.
كانت بسيطة. غير منتظمة عند حوافها، لكن سحرها غير عادي.
تتوشى ببقع طلاء رمادي على جدار أبيض.
لم يكن متأكدًا من مصدر تلك البقع، لكنه لم يكن يكترث بذلك.
كان هناك شمع جاف على الأرضيات والطاولات. وكتب مبعثرة في كل مكان. وأوراق في كل زاوية من غرفة المعيشة الصغيرة.
بالنسبة لأمجد، لم تكن هذه المساحة تعني شيئًا، ما يهم أكثر هي المساحة التي في رأسه والتي يخرج منها إبداعه.
لكنه لم يكن يعلم أن مساحة المعيشة هي انعكاس لعقله.
الأكواب المستعملة، زجاجات المياه الفارغة، والمخطوطات غير المكتملة، كانت دليلًا على براعته الفنية.
كان من النوع الذي لا يمكن حبسه في صندوق. من النوع العصي على التقاليد والتنميط.
فقد جعل مهمته أن يفرغ قلبه على الورق.
الورق لم يفلح دائمًا في اجتياز الاختبار نحو النهاية، ولكن حتى تلك الأوراق غير المكتملة تركت انطباعًا ما.
خصوصًا عند أخيه.
للحظة، فكر في مراسلة أخيه. أمسك هاتفه وبدأ بكتابة رسالة نصية. لم يكن متأكدًا مما يريد قوله بالتحديد. ظل يشطب الكلمات ويعيد كتابتها. يعدل الجمل، ثم يمحوها تمامًا. ضاق إحباطه بالغرفة، فأطلق تنهيدة عالية وطويلة، ووضع هاتفه جانبًا، وأقنع نفسه بأنه سيكتب الرسالة لاحقًا.
أمسك قلمًا؛ قلمه المفضل: قلم حبر جاف أسود، وبدأ بالكتابة. شعر بموجة من الصور والأفكار تجتاحه فجأة. بدأ يكتب بطلاقة وتدفق، فذُهل مما اكتشف أنه كان قادرًا على فعله. عادت أفكاره إلى الرسالة النصية، وتساءل: "كيف أجد صعوبة في كتابة نص بسيط بينما أستطيع ملء ورقة بكلمات وجمل بهذه المهارة؟"
الساعة على الحائط تعلن عن دقاتها بصوت عالٍ جدًّا، وكأنها تطلب منه أن يضع قلمه جانبًا ويستسلم للنوم. لكنه كان منغمسًا بعمق في كتابته، فتجاهل دقات الساعة التي تقترب من إعلان منتصف الليل.
هو يكره الساعة بشدة. يعتقد أنها أداة ازدراء. تذكير بالمصير المحتوم.
وأخيرًا, وصل أمجد إلى نهاية قصته.
لكن يده توقفت عن تحريك القلم على الورقة.
كان في حيرة شديدة.
لم يكن يعرف كيف ينهي القصة.
حك ذقنه بيده، فيما نظرته تستجوب الورقة كما لو كانت تطلب الإجابة.
وأخيرًا، رفع رأسه عن الورقة، فاستقبلته دقات الساعة غير الرفيقة به.
إنه منتصف الليل.
أراد الاحتجاج. أن يتوسل إلى الساعة لتعيده للوراء، وأن تمنحه مزيدًا من الوقت لإكمال ما بدأه.
لكن الساعات ليست من النوع الذي يطيع الأوامر، أو يتعاطف مع التوسلات.
خاطبها برجاء: "أحتاج إلى إنهاء قصتي".
ولكن ما من أحد هناك ليجيب توسلاته.
على مضض، وضع قلمه جانبًا، ومضى نحو غرفته.
قصته لم تكتمل، ونصه ما يزال مسودة في ذهنه".
ووُلد يحيى النميري النعيمات، الذي اتّخذ من "أمجد ناصر" اسماً أدبياً، سنةَ 1955 في قرية الطرّة/ الرمثا، درس المرحلة الإعدادية في مدرسة الثورة العربية الكبرى بالزرقاء، وأنهى الثانوية في مدرسة الفلاح الثانوية بالزرقاء، ثم درَسَ العلوم السياسية في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
عمل في الصحافة العربية في بيروت وقبرص سنة 1977، ثم أقام في لندن وساهم هناك في تأسيس صحيفة "القدس العربي" سنة 1987، وتولّى إدارة التحرير والإشراف على القسم الثقافي في الصحيفة منذ 1989.
وللشاعر نحو 20 كتاباً في الشعر والرواية وأدب الرحلات، حيث صدرت الإرادة الملكية السامية بمنحه جائزة الدولة التقديرية في الآداب.
نال جائزة محمّد الماغوط للشعر من وزارة الثقافة السورية سنة 2006، وتُرجم عدد من أعماله الأدبية إلى اللغات الفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية والهولندية والإنجليزية. وهو عضو في رابطة الكتّاب الأردنيين.
توفي أمجد ناصر عام 2019 بعد صراع مع المرض.