بقلم الكاتب: أجمل الطويقات
تتوالى الأحداثُ في سورةِ يوسفَ لتنسجَ لوحةً من المعاني العميقةِ، حيث تتداخلُ الأحلامُ والطموحاتُ مع الابتلاءاتِ والمحنِ، في مشهدٍ بديعٍ يعلّمُنا حكمةَ الصبرِ وفهمَ النفسِ البشريّةِ. فالأحلامُ، حتى وإن كانت نورًا يضيءُ الروحَ، قد تُشعلُ نارَ الحسدِ في النفوسِ الغيورةِ، فتتحوّلُ المحبّةُ إلى مكائدَ، والصداقةُ إلى مؤامراتٍ. وهذه الحقيقةُ الإنسانيّةُ تذكّرُنا بأنّ النورَ الذي نحمله داخلَنا قد يصبحُ أحيانًا مصدرَ شدائدَ إذا أُسيءَ فهمُه أو أُسيءَ التعاملُ معه.
لا تُحدّثْ أحدًا بأحلامِك وآمالِك وما تصبو إليه، فإنّ ذلك قد يكونُ سببًا لإيقاظِ الشرِّ في النفوسِ. كما ورد: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾. هذه الحكمةُ تشيرُ إلى أنّ بعضَ الأسرارِ ينبغي أن تُحتفَظَ بها لنفسِك، فلا يكونُ كشفُها سبيلًا لإشعالِ حسدِ الآخرينَ أو تحريكِ مكائدِهم، وليستقرَّ قلبُك في دروبِ الحياةِ دون أثقالٍ من حولِك.
الاجتباءُ والاختيارُ لا يتحقّقان إلّا بعد وقوعِ الابتلاءِ والامتحانِ، إذ يُختبَرُ الإنسانُ بالشدائدِ قبل أن يُصطفى للتفوّقِ والتميّزِ. فالاختيارُ هنا ليس مجرّدَ لحظةِ تقديرٍ، بل اعترافٌ بأنّ الفضائلَ والصفاتَ الجليلةَ تتجلّى حين يواجهُ الإنسانُ امتحاناتِ الحياةِ بثباتٍ. فالابتلاءُ صقلٌ للرّوحِ، والاختيارُ الحقُّ ثمرةُ صبرٍ ومجاهدةٍ.
وربّما نعمةُ المحبّةِ التي نجدُها عند الناسِ تكونُ سببًا لإيقاظِ الحسدِ في النفوسِ المريضةِ. فالأصلُ في المحبّةِ تقريبُ القلوبِ، إلّا أنّ النفوسَ التي غُمِرت بالغيرةِ لا تعرفُ كُنهَ الحبِّ. وتبدو هذه الحقيقةُ جليّةً في موقفِ إخوةِ يوسفَ حين لاحظوا محبّةَ أبيهم له، فتولّد الحسدُ والعداوةُ: ﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾.
السّلطةُ والمصلحةُ الجماعيّةُ قد تُستغلّ لتبريرِ الظّلمِ. فالمجرمُ الحاسدُ يختبئُ وراءَ شعاراتِ الفضيلةِ ويُبرّرُ جريمتَه باسمِ تغليبِ المصلحةِ العامّةِ على الفرديّةِ، كما فعل إخوةُ يوسفَ: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ﴾. وهذه الظواهرُ تتكرّرُ في كلّ زمانٍ ومكانٍ، حيث يُستغلُ النّفوذُ والسلطةُ لإضعافِ الصادقينَ وإخفاءِ حقيقةِ النفوسِ المريضةِ وراءَ شعاراتٍ برّاقةٍ.
ولا تدلَّ خصومَك على مواطنِ قوّتِك وضعفِك، فإنّها قد تُستغلُّ ضدَّك، كما حرصَ يعقوبُ عليه السّلامُ على حمايةِ يوسفَ: ﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾. ومن يحصلْ على الأشياءِ دون عناءٍ يهونْ عليه التفريطُ بها، ومن لا يعرفْ قيمتَها يتنازلْ عنها بثمنٍ بخسٍ، كما بيعَ يوسفُ بدراهمَ معدودةٍ: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾. فالقيمةُ الحقيقيةُ للأشياءِ تظهرُ حين تُنالُ بعد جهدٍ وصبرٍ.
الصبرُ سبيلُ الناجحينَ والتمكينِ. فما كان ليوسفَ أن يحقّقَ ما حقّق إلّا بعلمِه وصبرِه واستشعارِ عنايةِ الله، وتوكّلِه عليه حقَّ التوكّلِ. والثباتُ على المبادئِ والفضائلِ طريقُ الخروجِ من الأزماتِ، وما كان ليوسفَ أن يستجيبَ لمكرِ نسوةِ مصر بعد أن تدربَ على الصبرِ، وعلّق قلبَه بربِّه منذ لحظةِ كيدِ إخوتِه له وغياهبِ الجُبِّ.
البراءةُ والنصرُ في الخواتيمِ
أهلُ الحقِّ والمبادئِ يدفعونَ ثمنَ مواقفِهم، لكنّ العبرةَ في الخواتيمِ. النصرُ لا يُغادرُ عتباتِ الصادقينَ، وتظهرُ براءتُهم ولو بعد حينٍ. فالعملُ الصالحُ لا يفقدُ قيمتَه عند الله، مهما غفلَ البشرُ عنه: ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴾.
اجتمعَ الإخوةُ على الكيدِ، فقالوا: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا﴾، ثم دبّروا الحيلةَ وأتَوا أباهم بقميصٍ ملوّثٍ بدمٍ كذبٍ. غيرَ أنّ القميصَ الذي أرادوهُ دليلًا على الموتِ تحوّلَ شاهدًا على البراءةِ، فانكشفَ زيفُ الحيلةِ قبل أن تجفَّ دماؤهُ المصطنعةُ.
ومن مكيدةٍ إلى أخرى، ألقَوا يوسف عليه السلام في غياهبِ الجبِّ، حيث الظلامُ الدامس ووحشةُ الصغيرِ الذي لم يألفْ غير دفءِ أبيه. ومع ذلك لم يكنِ البئرُ قبرًا له كما أرادوا، بل صار معبرًا إلى الحياةِ، إذ مرّت قافلةٌ فأخرجتهُ، فخرجَ من جوفِ الظلمةِ كأنما يُبعثُ من جديدٍ.
ولم يقفِ الأمرُ عند هذا الحدِّ، بل بيعَ في سوقِ الرّقِّ بثمنٍ بخسٍ دراهمَ معدودةٍ. رآهُ الناسُ سلعةً زهيدةً، بينما كان عند الله نفيسًا عزيزًا. وهكذا يتبدّى الفرقُ بين ما تُنزلهُ أعينُ البشرِ من منازلَ، وما يرفعهُ الله إلى مقاماتٍ لا تدركُها الأبصارُ.
ثم تبدّلَ المشهدُ في قصرِ العزيزِ، فإذا بعبدٍ مملوكٍ يغدو فتىً تفتنُ بجمالِه سيداتُ القصورِ، وتتشابكُ الخيوطُ من كيدِ الإخوةِ إلى كيدِ النساءِ. غير أنّ يوسفَ ظلّ ثابتًا، يختارُ السجنَ على أن ينحنيَ للفتنةِ، فكان السجنُ بابًا إلى التمكينِ، لا منفىً إلى الهلاكِ.
وهكذا تتابعت حلقاتُ الرحلةِ، من دمٍ كاذبٍ إلى بئرٍ مظلمٍ، ومن بيعٍ مُهينٍ إلى قصرٍ فاتنٍ، ثم إلى سجنٍ يزدحمُ بالجراحِ والرّجاء. رحلةٌ بدت في ظاهرِها سلسلةً من المكائدِ، لكنّها في جوهرِها سُلّمٌ إلى العزّةِ، وصنعةٌ إلهيّةٌ تُخرجُ من رحمِ البلاء مجدًا خالدًا.
وإذا تأمّل القارئُ هذه الفصولَ أدرك أنّ في كلِّ ابتلاءٍ يُصادفه ظلًّا من حكايةِ يوسفَ، وأنّ في كلِّ مكيدةٍ تُحاكُ ضدّه بذرةَ نجاةٍ لا يراها إلّا الصابرونَ. فما يراه الناسُ نقمةً قد يكونُ نعمةً مضمرةً، وما يحسبونَه انكسارًا قد يكونُ بدايةَ رفعةٍ، والذينَ ظنّوا أنّهم أوقفوا مستقبلَ يوسف عليه السلام، كانوا أدواتٍ لتحقيقِه. فكلُّ تجربةٍ ومحنةٍ جزءٌ من مسيرةٍ أوسعَ نحوَ النضجِ والتمكينِ.
تلك هي الحكمةُ التي تسري في أنفاسِ السورةِ، لتعلّمَ القلبَ أنّ رحمةَ الله أوسعُ من الكيدِ، وأنّ نورَه أبقى من ظلماتِ البئرِ، وأنّ مَن يُحسنُ التوكّلَ لا بد أن يبلغَ لحظةَ التمكينِ مهما طالَ الطريقُ.
كان يوسفُ عليه السّلامُ عالمًا حاذقًا، يُحسنُ قراءةَ الأمورِ ويستشعرُ حكمتَها. هذه الحكمةُ مكّنتهُ من تحويلِ المحنِ إلى انتصاراتٍ، والابتلاءاتِ إلى مساراتٍ للنموِّ.
ومن الجبِّ إلى القصرِ، يتجلّى درسٌ خالدٌ: أنّ القوّةَ الحقيقيةَ ليست في الغلبةِ الجسديّةِ أو السّلطةِ أو المالِ، بل في حكمةِ الروحِ، وصبرِ القلبِ، واستشعارِ العنايةِ الإلهيّةِ، واليقينِ التامِّ بنصرِ الله لأصحابِ الحقِّ دائمًا.