حين يفقد الكفيف عصاه .. قصة ألم في خيمة نزوح

mainThumb
حين يفقد الكفيف عصاه.. قصة ألم في خيمة نزوح

25-09-2025 10:13 AM

printIcon

أخبار اليوم - في مخيم مخصص لذوي الإعاقة بمدينة دير البلح، يجلس محمد شنينو (38 عامًا) القادم من بلدة خزاعة جنوب قطاع غزة، عيناه الغائمتان تفتقدان القدرة على الرؤية، وإصابته بنسبة 85% من فقدان البصر جعلت العصا البيضاء بمنزلة البوصلة الوحيدة التي توجه خطواته.

غير أن تلك العصا، التي رافقته سنوات طويلة، اختفت خلال رحلة نزوح تحت القصف، تاركة إياه في عزلة أكبر من العمى ذاته.

يقول محمد لـ "فلسطين أون لاين" وهو يتحسس جدار الخيمة الضيقة التي يأوي إليها:"حين فقدت العصا، شعرت أنني فقدت نفسي… لم أعد أملك حرية الحركة، حتى الخطوة الواحدة أصبحت مستحيلة."

حياة كاملة في قطعة خشب

لطالما مثلت العصا البيضاء لمحمد امتدادًا لوعيه بالعالم، وسيلة تمنحه الأمان والكرامة، يروي تفاصيل فقدانها وكأنها حدث بالأمس:"في يوم النزوح من خزاعة، كنا نركض وسط الدخان والأصوات المدوية.

كان المكان مزدحمًا بالناس، وبينما أحاول أن أتمسك بالعصا، انزلقت من يدي واختفت تحت الأقدام، توقعت أن أجد بديلًا لاحقًا، لكن الحرب لم تترك لنا شيئًا."

منذ ذلك اليوم صار محمد يعتمد على شقيقه الأصغر في أبسط تفاصيل حياته: الذهاب إلى دورة المياه، الوصول إلى نقطة توزيع المساعدات، أو حتى التحرك بين الخيام، العصا التي كانت تمنحه حرية الحركة تحولت إلى فقدان كامل للاستقلالية.

ولم يكن فقدان العصا مجرد خسارة لأداة مساعدة، بل كان بداية لعزلة قاسية، لم يعد محمد يجرؤ على مغادرة خيمته وحده، ولم يعد يلتقي بأصدقائه أو أقاربه كما كان في السابق. "كنت أعيش رغم إعاقتي بكرامة… أتحرك وحدي، أشعر أنني إنسان طبيعي، أما الآن فأنا طفل كبير يحتاج دائمًا يدًا تمسكه"، يقول بصوت يغلبه الحزن.

انعكس هذا الواقع على نفسيته بشكل واضح، فأصبح أكثر عصبية وأقل حديثًا مع من حوله، يعترف: "الحرب سلبت مني ما تبقى من أمل… كنت أحلم أن أعمل وأبني مستقبلي، لكنني اليوم سجين الخيمة والظلام."

أحلام مؤجلة

محمد لم يعد طالبًا جامعيًا كما كان قبل سنوات، فقد أجبرته ظروف الحرب والنزوح على التوقف عن الدراسة، لكن حلمه بأن يصبح معلمًا للأطفال ذوي الإعاقة لا يزال عالقًا في ذهنه.

"كنت أتمنى أن أكون قدوة للأطفال، أن أقول لهم إن الإعاقة ليست نهاية الطريق، لكن كل شيء توقف فجأة، ولم يعد متاحًا لي سوى الانتظار."

ورغم ذلك، يتمسك بخيط أمل رفيع: "إذا دخلت المساعدات وتمكنا من الحصول على أدوات بسيطة مثل العصا البيضاء، سأعود للحياة من جديد… لن أستسلم."

والحياة في المخيم تضاعف معاناة محمد، مجرد الوصول إلى دورة المياه مسافة قصيرة، لكنه يحتاج دائمًا إلى مرافق، الانتظار في طوابير المساعدات مشقة إضافية، إذ لا يستطيع القيام بها بمفرده.

يقول:"أشعر أنني عبء على أسرتي… مجرد عصا بيضاء كانت كفيلة بأن تحميني من هذا الشعور."

حتى الأنشطة البسيطة مثل الجلوس مع الجيران أو المشاركة في أحاديث المساء صارت نادرة، فقدان العصا لم يسلبه الحركة فحسب، بل سرق منه التفاعل مع الآخرين، وحوله إلى شخص محاصر في صمت داخلي.

حرمان جماعي

محمد ليس حالة فردية، آلاف المكفوفين في قطاع غزة يواجهون المصير نفسه، تقارير محلية ودولية تؤكد أن الاحتلال يمنع إدخال العصا البيضاء والأجهزة الناطقة والنظارات الطبية منذ أكثر من عام ونصف.

هذا الحظر جعل المكفوفين يعيشون عزلة مضاعفة: عزلة بفقدان البصر، وأخرى بغياب الأدوات التي تساعدهم على الاندماج في المجتمع.

في نهاية حديثه، يختصر محمد معاناته بكلمات مؤثرة:"العصا البيضاء ليست خشبة… إنها حياتي كلها، حين فقدتها، فقدت استقلالي وكرامتي، وبقيت أسير ظلام أكبر من العمى نفسه."

قصته ليست مجرد حكاية شخصية، بل شهادة على واقع مأساوي يعيشه المكفوفون في غزة، حيث الحرب تحاصرهم بالقصف والخوف، والحصار يحرمهم من أبسط الأدوات التي تضمن لهم حقًا طبيعيًا في العيش بكرامة وإنسانية.

المصدر / فلسطين أون لاين