التصنيع الرقمي… ثورة هادئة تعيد تشكيل الرعاية الصحية في الأردن

mainThumb
الأستاذ الدكتور أمجد الفاهوم

18-10-2025 05:26 PM

printIcon

الأستاذ الدكتور أمجد الفاهوم
في السنوات الأخيرة، بدأ الأردن يشهد تحوّلاً نوعياً في طريقة تصميم وإنتاج الحلول الطبية، مع دخول تقنيات التصنيع الرقمي إلى قلب قطاع الرعاية الصحية. حيث أن هذه الثورة التكنولوجية لا تحدث بضجيج، لكنها تغيّر المشهد بعمق، حيث تلتقي الطباعة ثلاثية الأبعاد، والهندسة الحيوية، والذكاء الاصطناعي في ورش المستشفيات والمختبرات لتخلق واقعاً جديداً للرعاية الإنسانية أكثر دقة وابتكاراً وإنصافاً.

يقول خبراء في جامعة اليرموك وجامعة العلوم والتكنولوجيا وجامعة الأميرة سمية للتكنولوجيا إن التصنيع الرقمي لم يعد ترفاً تكنولوجياً بل أصبح ضرورة في الطب الحديث، إذ يتيح إنتاج أطراف صناعية وأجهزة تعويضية مصممة خصيصاً لكل مريض، وفق بصمته الحيوية وشكله التشريحي، في زمن قياسي وبكلفة أقل بكثير من الطرق التقليدية. ويؤكد أطباء في مستشفى الملك عبدالله الجامعي أن الطباعة الحيوية ساعدت في تسريع جراحات العظام والفك، وأتاحت للأطباء محاكاة العملية مسبقاً على نموذج مطبوع قبل دخول غرفة العمليات، مما خفّض الأخطاء بنسبة ملموسة ورفع دقة التدخلات الطبية.

لم يتوقف التصنيع الرقمي عند الأطراف والعظام، بل تجاوزها إلى ابتكار أدوات تشخيصية ذكية وأجهزة مراقبة حيوية محلية الصنع، يعتمد الكثير منها على خوارزميات تعلم آلي لتحليل الإشارات الحيوية والتنبؤ المبكر بالأمراض المزمنة. وتعمل شركات ناشئة أردنية في حاضنات ريادة مثل “أمنية للابتكار” و”يُسر الطبية” على تطوير حلول محمولة قادرة على قياس المؤشرات الحيوية بدقة، وإرسالها فوريّاً إلى الطبيب عبر تطبيقات آمنة، في خطوة تقرب الطب الشخصي من كل بيت أردني.

لكن هذه الثورة تواجه تحديات متعددة، أبرزها ارتفاع تكلفة المعدات الرقمية، وضعف الوعي المؤسسي بأهميتها، ونقص الكوادر المدربة على استخدام أدوات التصميم والمحاكاة الرقمية. كما أن البيئة التشريعية ما تزال في طور التكيّف مع الواقع الجديد، خصوصاً في ما يتعلق بالترخيص والاعتماد والتصنيع الطبي الذكي. ومع ذلك، يرى المختصون أن هذه العقبات ليست عوائق دائمة بل فرصاً لتحفيز الاستثمار في التعليم الطبي الرقمي، وتعزيز التعاون بين الجامعات والقطاع الصناعي، وتأسيس منظومة وطنية للتكنولوجيا الطبية المتقدمة.

وهاهي التجارب الميدانية قد بدأت تؤتي ثمارها في الأردن، فهناك وحدات جامعية باتت تنتج نماذج طبية دقيقة لأعضاء بشرية باستخدام الطباعة الحيوية لخدمة التدريب والتعليم، ومراكز بحثية تعمل على تطوير رقاقات إلكترونية قابلة للزرع لمراقبة المؤشرات القلبية والعصبية. كما ساهم التصنيع الرقمي في تعزيز الاعتماد على الذات خلال الأزمات، إذ تم خلال جائحة كورونا تصنيع أجهزة تنفس ومعدات وقاية باستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد في الجامعات الأردنية خلال فترة وجيزة، ما أثبت قدرة الكفاءات المحلية على الابتكار في الأوقات الحرجة. إذ كان لكاتب هذا المقال نصيب من هذه الإنجازات الوطنية التي تحققت بفضل العناية والرعاية المؤسسية في الجامعات وصندوق دعم البحث العلمي.

وتشير النتائج الأولية بأن الفرص أمام الأردن في هذا المجال هائلة. فالتصنيع الرقمي يمكن أن يحوّل المملكة إلى مركز إقليمي لإنتاج الأجهزة الطبية المبتكرة، مستفيداً من بيئة تعليمية قوية وشباب مبدع وموقع جغرافي استراتيجي قريب من أسواق الشرق الأوسط وأفريقيا. كما يمكن أن يفتح الباب أمام تعاون دولي في البحوث الحيوية وتطوير الأدوية وأدوات التشخيص الدقيقة.

في نهاية المطاف، لا يتعلق الأمر بمجرد تقنيات جديدة، بل بثقافة تفكير مختلفة تعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا في خدمة الحياة. فبينما كانت الرعاية الصحية تُبنى في الماضي على المعايير العامة، فإنها اليوم تُصمم وفق احتياجات الفرد. وفي هذا التحول الهادئ، يمضي الأردن بخطوات واثقة نحو مستقبل طبي أكثر ذكاءً وعدلاً وإنسانية، حيث تصبح المطبعة الرقمية شريكاً للطبيب، والمختبر الذكي بوابة الشفاء، والمريض محور الابتكار الحقيقي.