أخبار اليوم- في وقت تتسارع فيه خطوات التحوّل الرقمي حول العالم، تمضي المملكة العربية السعودية بثبات نحو مرحلة جديدة من الابتكار في قطاع الخدمات اللوجستية. مرحلة لا تسير فيها الشاحنات على الطرق فقط، بل تحلّق فيها الطائرات المسيّرة في السماء لتعيد تعريف مفهوم «الميل الأخير» في التوصيل.
إطلاق أولى عمليات التوصيل عبر الطائرات المُسيّرة في مدينة جدة يمثل خطوة نوعية في رحلة المملكة نحو بناء منظومة نقل ذكية ومستدامة، تتوافق مع مستهدفات «رؤية السعودية 2030» لجعل المملكة مركزاً عالمياً للخدمات اللوجستية.
يقول عبد العزيز النويصر، المدير العام لشركة «أرامكس» في السعودية، خلال حديث خاص لـ«الشرق الأوسط»، إن «هذه الخطوة تجسّد التزامنا طويل الأمد بتطوير الخدمات اللوجستية الذكية وتعزيز الاستدامة، بما ينسجم مباشرةً مع أهداف (رؤية 2030) في مجالي التحوّل الرقمي ووسائل النقل الصديقة للبيئة».
جدة... منصة الانطلاق نحو المستقبل
لم يكن اختيار مدينة جدة عشوائياً، بل جاء لأنها تمثل مركزاً لوجستياً رئيسياً ومحوراً للتجارة والنقل البحري والجوي. كما تُعد بيئتها التنظيمية والبنية التحتية الملائمة أرضاً مثالية لتجربة تقنيات مبتكرة بأمان وكفاءة. ويوضح النويصر أن «الاختيار وقع على جدة لما تتمتع به من موقع استراتيجي وبيئة آمنة خاضعة للرقابة، ما أتاح لنا اختبار التكنولوجيا والتحقق من أعلى معايير السلامة التشغيلية».
في المرحلة التجريبية، تم تشغيل مسار محدد مسبقاً لنقل الطرود بين المنشآت اللوجستية عبر مسار جوي مرخص، بهدف قياس كفاءة الملاحة الجوية والتكامل بين الأنظمة الأرضية والجوية.
رحلة ذكية من الإقلاع حتى الهبوط
تبدأ عملية التوصيل من مركز تجهيز الشحنات، حيث تُغلف الطرود وتُحمّل على الطائرات المُسيّرة التي تُدار بالكامل عبر منصة ذكية مدعومة بالذكاء الاصطناعي لإدارة الرحلات. تتولى طائرة «DJI Matrice 350 RTK» تنفيذ الرحلة بشكل ذاتي، عبر مسار جوي مُعتمد مسبقاً، من الإقلاع حتى الهبوط، دون أي تدخّل بشري مباشر.
وتعتمد الطائرات على تقنية تحديد المواقع آنياً بالحركة (RTK) التي تتيح دقة تصل إلى مستوى السنتيمتر، مع أنظمة استشعار متقدّمة لتفادي العقبات، ونظام تحديد المواقع البصري (VPS)، وطبقات متعددة من أنظمة GPS لضمان ثبات الرحلة وسلامتها.
ويضيف النويصر أن طائرات «أرامكس» تعتمد على أنظمة دقيقة للغاية في الملاحة وتجنّب العوائق، ما يضمن أداءً موثوقاً حتى في البيئات الحضرية المعقدة. وعند الوصول، تنفّذ الطائرة عملية هبوط عمودية في منطقة محددة مسبقاً، حيث يتسلّم موظف مُدرّب الطرد مباشرة، ثم تعود الطائرة تلقائياً إلى قاعدتها.
التشغيل تحت إشراف الجهات التنظيمية
خلف هذه التجربة المتقدمة يقف تعاون موسّع مع عدد من الجهات السعودية. فقد جرى التنسيق بشكل مستمر مع الهيئة العامة للطيران المدني (GACA) لضمان الالتزام الكامل بمعايير السلامة الجوية، كما دعمت وزارة النقل والخدمات اللوجستية المشروع في مراحله كافة، إلى جانب الهيئة العامة للنقل (TGA) وبرنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية (NIDLP).
ويعد النويصر أن «التعاون مع الجهات التنظيمية كان أساسياً لضمان الامتثال لأنظمة الطيران، وفتح الطريق أمام التشغيل التجاري المستقبلي للطائرات المسيّرة». هذا التنسيق المتعدد الأطراف يؤسس لنموذج سعودي يمكن أن يُحتذى به في تنظيم قطاع الطائرات من دون طيار، ودمجها بأمان في المجال الجوي المدني.
السلامة أولاً
في المدن المزدحمة، تشكل السلامة التحدي الأكبر أمام أي تقنية طيران ذاتي. ولذلك، بُني النظام على طبقات متعددة من إجراءات الأمان تشمل المراقبة اللحظية، والتسييج الجغرافي (Geo-Fencing)، وبروتوكولات العودة التلقائية إلى نقطة الانطلاق، إضافة إلى أنظمة الطوارئ الذكية (Fail-Safes). تُتابع كل رحلة من مركز تحكم أرضي يضمّ فريقاً مدرّباً على مراقبة المسارات الجوية المصرّح بها والتعامل مع أي طارئ في الوقت الفعلي. ويشرح النويصر أن «لدى (أرامكس) أنظمة أمان متكررة تتيح التعامل مع أي ظرف غير متوقّع، مع تخصيص مناطق هبوط طارئة لضمان مرونة التشغيل في جميع الحالات».
الاستدامة في قلب الابتكار
لا تقف أهمية هذه التجربة عند حدود السرعة، بل تمتد إلى هدفٍ بيئي أوسع. فكل رحلة طائرة مُسيّرة تعني استبدال رحلة مركبة تعمل بالديزل، ما يُقلّل الانبعاثات ويحدّ من استهلاك الوقود.
ويُعدّ هذا التحوّل جزءاً من التوجّه العالمي نحو الخدمات اللوجستية منخفضة الكربون التي تتبنّاها المملكة ضمن استراتيجيتها للاستدامة. ويضيف النويصر خلال حديثه مع «الشرق الأوسط» أن «التوصيل عبر الطائرات المسيّرة يمثل بديلاً نظيفاً وأكثر كفاءة للرحلات القصيرة، ويُسهم مباشرة في خفض البصمة الكربونية وتعزيز كفاءة التوصيل في الميل الأخير».
من التجربة إلى التوسّع
بعد نجاح المرحلة التجريبية في جدة، يجري العمل على توسيع نطاق الخدمة لتشمل مدناً رئيسية أخرى مثل الرياض والظهران. كما يجري تقييم فرص استخدامها في قطاعات جديدة تشمل الخدمات الطبية، والتجارة الإلكترونية، والمناطق النائية التي يصعب الوصول إليها بالوسائل التقليدية.
وينوه النويصر إلى «الفرص الواعدة في استخدام هذه التقنية ضمن الخدمات الصحية والتجارية، خصوصاً لتلبية احتياجات المناطق البعيدة بشكل أسرع وأكثر استدامة». هذا التوسّع يعكس توجهاً أوسع في السوق السعودية نحو التحوّل إلى بنية تحتية لوجستية ذكية تدمج التقنيات الجوية مع التحليلات الرقمية والذكاء الاصطناعي.
الذكاء الاصطناعي يرسم الطريق
تعتمد المنظومة التشغيلية للطائرات على أنظمة ذكاء اصطناعي متقدّمة مدعومة بتقنية «ليدار» (LiDAR) أي (رصد الضوء وتحديد المدى)، ما يتيح للطائرة رسم خرائط دقيقة لمسارها، وتفادي العقبات في الزمن الحقيقي، وتعديل اتجاهها تلقائياً دون تدخل بشري. تتكامل هذه القدرات مع منصة رقمية سحابية تربط بين الطائرات ومركز التحكم الأرضي ونظام التتبع اللوجستي، عبر اتصال مُشفّر وآمن يضمن تدفق البيانات في الوقت الفعلي.
ويشير النويصر إلى أن «كل طائرة متصلة بمنصتنا الرقمية عبر شبكة سحابية مؤمنة بالكامل، ما يسمح بالمزامنة اللحظية وتتبع الأداء لحظة بلحظة».
العنصر البشري في منظومة التشغيل الذكي
رغم أن الطائرات تعمل بشكل ذاتي، فإن العنصر البشري لا يزال في قلب العملية. فالمهندسون والمراقبون ومحللو البيانات يديرون الرحلات، ويحلّلون البيانات، ويشرفون على التوافق مع الأنظمة. ويمثل هذا الدمج بين الإنسان والآلة خطوة نحو تطوير مهارات لوجستية رقمية جديدة تتماشى مع مستقبل سوق العمل في المملكة. ويشدد النويصر على أن «المستقبل يتجه نحو منظومة تجمع بين الأتمتة والمهارات البشرية المتخصصة، حيث يتحوّل دور الإنسان من التنفيذ إلى التحليل والإشراف الذكي».
نحو أفق لوجستي جديد
تجربة الطائرات المسيّرة في السعودية لا تمثل مجرد مشروع تقني، بل تمثل تحوّلاً هيكلياً في طريقة إدارة سلاسل الإمداد والنقل داخل المملكة. فهي تجمع بين الكفاءة التشغيلية، والاستدامة البيئية، والابتكار التقني، لتشكّل ملامح جيلٍ جديد من الخدمات اللوجستية الذكية.
ويختتم النويصر بالقول: «نحن نشهد بداية ثورة لوجستية جديدة، ستُعيد تعريف طريقة نقل البضائع في المملكة بسرعة أعلى، وأمان أكبر، وبأثر بيئي أقل».
ومع كل رحلة ناجحة في سماء جدة، يبدو أن المملكة تكتب فصلاً جديداً من التحوّل اللوجستي فصلاً تحلّق فيه الطائرات لا لنقل الطرود فحسب، بل لنقل رؤية وطنٍ يطمح لأن يكون مركزاً عالمياً للذكاء والتقنية والاستدامة.