أخبار اليوم - في شوارع غزة، حيث ازدحمت الخيام وتداخلت أنفاس النازحين مع قلق السكان، صار الحصول على ربطة خبز معركة صامتة تخوضها العائلات كل صباح. السبب ليس في القمح ولا في الأفران، بل في غياب الوقود الذي يختنق على أبواب القطاع. فسلطات الاحتلال الإسرائيلي لا تسمح إلا بدخول عدد محدود جدا من الوقود يوميا لا يتجاوز 7 شاحنات، رقم لا يكفي لإشعال أفران مدينة أنهكها الحصار والحرب، ولا لإطعام آلاف العائلات التي تنتظر ما يسد رمق أطفالها.
وتأتي هذه الأزمة في وقت يعيش فيه القطاع واحدة من أسوأ المراحل الإنسانية والاقتصادية في تاريخه الحديث، بعد عامين من الحرب التي دمّرت البنية التحتية وأخرجت معظم المرافق الحيوية عن الخدمة. ومع انقطاع الكهرباء الكامل، بات الاعتماد الكلي على الوقود لتشغيل المولدات والآبار والمستشفيات والمخابز ووسائل النقل والمصانع.
"ماذا سنطعم أطفالنا!"
في حي النصر غرب مدينة غزة، تعيش أسرة محمد أبو ليث في غرفة صغيرة ضمتها داخل منزل متصدع لجأت إليه بعد موجات النزوح المتكررة. كانت العائلة تعتمد منذ أسابيع عديدة على ربطة الخبز التي توزعها لجنة الحي، وهي الكمية الوحيدة التي تضمن للأطفال وجبة تبقي الجوع بعيدا. كل صباح، كان أبو ليث يتوجه إلى مقر اللجنة، يعود بربطة دافئة، فتلتف زوجته حول الطاولة تقطع الخبز وتوزعه بحرص كأنها توزع حياة.
لكن منذ أيام، تغيّر المشهد. يقف أبو ليث أمام مقر اللجنة، ينظر إلى الباب الخشبي الخالي من أي حركة، ثم يعود بخطوات بطيئة. تقول له اللجنة إن المخابز المدعومة من برنامج الغذاء العالمي أوقفت العمل، بعد أن توقفت مولداتها بسبب نفاد السولار الذي لم يدخل إلى غزة بالكميات المتفق عليها. ومع كل يوم إضافي بلا وقود، يغلق مخبز آخر، وتزداد الطوابير بلا نهاية.
تقول الزوجة فاطمة أبو ليث، وهي تحاول إعداد وجبة مرتجلة لأطفالها لـ "فلسطين أون لاين": "كنا نعتمد على ربطة الخبز التي توفرها لجنة الحي. الآن لا نعرف ماذا سنطعم الأطفال". تحاول طحن ما تبقى من القمح على حجر صغير، لكنها تدرك أن ما ستخبزه على صفيحة معدنية قرب باب البيت لن يكفي حتى لوجبة واحدة.
الأطفال الذين اعتادوا انتظار صوت أبيهم وهو يفتح باب البيت وفي يده الربطة، يسألون اليوم: "ليش ما جبت خبز؟". يكتفي أبو ليث بالصمت، يداعب رؤوسهم ويخفي قلقه. لم يكن يتخيل أن الوقود الذي يُمنع من دخول غزة سيُطفئ أفران المخابز، ويُطفئ معه القدرة على توفير أبسط احتياجات أسرته.
رحلة البحث عن ربطة خبز
في شارع المشتل غرب مدينة غزة، يسكن محمد الحصري داخل خيمة صغيرة في أحد مراكز الإيواء التي ضاقت بعشرات العائلات النازحة. منذ أن فقد منزله قبل أشهر، أصبحت رحلة البحث عن ربطة خبز جزءً من يومه، ومهمة لا تكتمل إلا بعد ساعات من السير على الأقدام بين الشوارع المزدحمة والطرقات المنهكة بالحرب.
يقول الحصري لـ"فلسطين أون لاين" إن لجنة الحي أبلغته بأنها لم تتسلم أي كمية من المخابز المدعومة بسبب توقفها عن العمل، بعد أن نفد الوقود الذي تعتمد عليه في تشغيل الأفران.
يشرح بصوت متعب: "لجنة الحي كانت تعطينا ربطة خبز كل يومين، وهذا كان يحمينا من الجوع. أمس أخبرونا أنهم ما وصلهم خبز، وأن المخبز اللي يتعاملوا معه أغلق بسبب عدم توفر السولار". يقف لحظة ثم يضيف: "أنا ما عندي خيار. مشيت اليوم أكثر من ساعة لحد ما لقيت واحد بيبيع. اضطررت أشتري الربطة بسبعة شواقل، رغم إنها أساسًا مجانية. لكن شو بدي أعمل؟ أولادي لازم ياكلوا".
يحمل الحصري الربطة بين يديه كأنها شيء ثمين، ويقول إن الوضع أصبح لا يُحتمل، وإن الاحتلال "يستغل الظروف الإنسانية الصعبة في غزة للضغط على حماس لتقديم تنازلات سياسية". ويرى أن منع دخول الوقود بالشكل المتفق عليه أدى إلى توقف المخابز وخنق حياة الناس اليومية، من الخبز إلى الماء إلى المواصلات، "وكلها أشياء بيد الاحتلال يتحكم فيها زي ما بده".
ينهي الحصري حديثه وهو ينظر إلى خيمته المهترئة وإلى أطفاله الذين ينتظرونه كل يوم بعيون قلقة: "إحنا مش طالبين شيء كبير. بس نقدر نلاقي خبز. الخبز صار حلم".
خرق البروتوكول الانساني
من ناحيته، يؤكد الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر لـ"فلسطين أون لاين" أن الاحتلال الإسرائيلي يواصل خرق البروتوكول الإنساني المتعلق بإدخال الإمدادات الأساسية، ما أدى إلى شلل واسع في القطاعات الحيوية وتدهور حاد في مستوى المعيشة بعد عامين من الحرب المستمرة.
وأوضح أبو قمر أن الاحتلال يسمح بإدخال 5 إلى 6 شاحنات وقود وغاز يوميا فقط، في حين ينص البروتوكول الإنساني على إدخال 50 شاحنة يوميا، أي ما نسبته 10% فقط من حاجة القطاع الأساسية.
واعتبر أن هذا الخرق المباشر للاتفاقات الإنسانية يشكل السبب الأول لأزمة الوقود الحالية التي وصفها بأنها "الأعمق منذ فرض الحصار".
وأشار أبو قمر إلى أن احتياج قطاع غزة من غاز الطهي وحده يتراوح بين 350 طنا يوميا في الصيف و400 طن في الشتاء، بينما سمح الاحتلال بإدخال 400 طن فقط خلال شهر كامل منذ سريان اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر الماضي.
وأضاف أن القطاع يعيش أسوأ مراحله الاقتصادية والإنسانية في التاريخ الحديث، بعد عامين من الهجوم المتواصل الذي دمر شبكات الكهرباء والمياه والطرق والمرافق الأساسية، وأخرج الآلاف من المصانع وورش العمل ووسائل النقل عن الخدمة.
وأكد أبو قمر أن الاحتياج الفعلي للوقود بعد هذا الدمار أصبح أكبر من الاحتياج الطبيعي، ما يجعل إدخال 10% فقط من الكميات المتفق عليها "غير قادر حتى على سد الحد الأدنى من الاحتياجات".
المصدر / فلسطين أون لاين