أخبار اليوم - في حضن أمها، تبرق عيناها بالدموع وتوزع أخواتها الثلاثة مع أمهن ابتسامات خجولة ومخنوقة بكبت المشاعر وبراكين الحزن في أيام ثقيلة لا يسمعن فيها صوت أبيهن "سليم خضر" وهو يقول لهن: إنهن أحب الناس إلى قلبه، وصديقاته اللاتي يعيش لأجلهن.
ريحانة ذات الأشهر الخمسة، حديثة الولادة، تلك الطفلة الغزية التي لم تدرك للدنيا معنى بعد، صبت عليها حرب الإبادة العذاب صبا، وأفقدتها في أول فصول المعاناة، أباها الذي لم تره لكن كأنها تشعر به، وتتحسس يده تربت على كتفها وتمسح دموعها.
تتوسط الأم لينا خضر (26 عاما) بناتها، في خيمة نزوح قسري بخانيونس تحت نار حرب الإبادة، والشمس اللاهبة، كما يتوسطن هن قلبها النازف، ويسيطرن على تفكيرها العاصف بهم كبير يثقل ظهرها، بعد استشهاد أبيهن أثناء سعيه لتدبير لقمة العيش، قبل أن يكحل عيناه برؤية طفلته الجديدة.
في 23 يوليو/تموز 2024، كان الحدث الذي غير مسار حياة لينا وبناتها. في ذلك اليوم، خاطر سليم بنفسه مجددا لئلا يترك بناته وأمهن فريسة للتجويع، متوجها إلى رفح حيث كان يقطن قبل بدء الاحتلال حرب الإبادة الجماعية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
تسلل الخوف إلى قلب لينا من الخطر المحدق بزوجها، وطمأنته بأنها وبناتها يرضين بـ"خبزة وملح" في سبيل نجاته، لكن سليم صد الخوف بقوة وأحبط وصوله إلى قلبه، مصمما على محاولته توفير ما يمكن من طعام وملابس لهن من بيته، وقال لها: "نيالي أنا شهيد بكرة انت بتصيري مرت شهيد نيالك انت عندي في الجنة بكرة".
في ذلك الوقت، كان الاحتلال يمضي قدما في عدوانه العسكري على رفح التي احتضنت في الأشهر الأولى من الحرب مئات الآلاف من النازحين قسرا.
"عندما نزحنا قسرا، لم نتمكن من اصطحاب أي شيء من مقتنياتنا... وصار سليم يروح ويجي لرفح فترة طويلة وكل مرة ربنا بيسلمه من الصواريخ وقذائف الدبابات والكواد كابتر... كتير تمت مطاردته"، ثمة موجة من الألم كانت تعترض كلمات لينا، في حديثها مع صحيفة "فلسطين".
في المرة الأخيرة، كان سليم برفقة أبناء أخيه، عاقدا العزم على جلب ثلاثة أكياس من الدقيق لبناته، كانوا في بيته قبل نزوحه منه.
أطلق الاحتلال صاروخا على سليم، أسفر عن استشهاده مع أحد أبناء أخيه. "إن شاء الله ربنا يتقبله ويصبرني على ترباية البنات"، تقول لينا بصوت دامع.
تحطمت في داخل لينا وبناتها كل الآمال والأحلام والأمنيات إثر هذه الفاجعة، وحاصرتهن مبكرا الهموم والآلام، ورسمت أمامهن واقعا مظلما، وطريقا من الوجع بلا نهاية.
يفرض عطاء سليم نفسه على ذاكرة لينا وبناتها، وحده كان يتحسس احتياجاتهن دون كلل، يضمهن بين ذراعيه، ويحميهن من انقضاض الحزن عليهن، في ظروف يدعو كل ما فيها إلى الإحباط.
وسط مجاعة ممتدة، نجح سليم في توفير المانجا النادرة وباهظة الثمن لتغذية زوجته الحامل، مع تغييب الاحتلال كل شيء وحتى الفيتامينات، حينها سألته بناته: "لمين هادي المانجا؟"، فأجابهن: "هادي للينا عشانها حامل بدي اللي ببطنها يجي بصحة وسلامة".
تقول: "كان معه مانجا الي وللبنات اخدوه مني الله يلعن الاحتلال".
قبل أن يتلمس خطى الرحيل في ذلك اليوم، قالت له زوجته: "يا سليم متطولش عليا كتير بخاف عليك"، فأجابها: "ماشي مش مطول بس ديري بالك على البنات".
أثار ذلك الرد استغرابها. سليم لم يوصها يوما ببناته بمثل هذه العبارة، وكأنه يخفف عن قلبها نبأ استشهاده من حيث لا يعلم.
غاب سليم، وجرف الاحتلال بيته الذي كان ملاذا له تحت النار، يلجأ إليه مجبرا لئلا يفتك ببناته وزوجته الجوع.
"يابا أنا اشتقتلك.."
قبل خمسة أشهر، أبصرت المولودة الجديدة ريحانة نور الحياة، لكن وسط حرب الإبادة، لتنضم إلى أخواتها زينة (10 أعوام)، ودعاء (6 أعوام) ولين (أربعة أعوام)، في العيش تحت وطأة مصائب الحرب والفقد التي تتكالب عليهن.
لم يكن سليم يعلم نوع الجنين الذي تحمله زوجته قبل استشهاده، لكنه كان يحمل له الكثير من الحب، وحملت لينا في داخلها مشاعر الفرح في انتظار لحظة الولادة.
ناقشته لينا يوما بالاسم الذي سيطلقانه على المولود الجديد: "سليم، إن شاء الله ربنا هيعطيني ولد انت ايش بدك تسميه؟"، فأبلغها برغبته تسميته "صابر" على اسم أعز أصدقائه، لكنها اعترضت، وطلبت استبداله بـ"إلياس أو سليم"، ثم ابتسمت وقالت: "خلاص بدنا نسميه سليم.. وبصير أنا أم سليم وأنت أبو سليم شوف ما أحلى الاسم".
وبعد أن أنجبت طفلة، شكرت الله على قضائه، وسط ألم يقض مضجعها لفقد زوجها، الذي ستفتقده ريحانة وأخواتها أيضا.
تئن البنات الأربع وأمهن بعد استشهاده، تحت وطأة ضنك العيش في وضع تصفه لينا بأنه "صعب جدا".
كان سليم يسخر كل جهده لتوفير ما يستطيع من الغذاء لبناته، ولم يحوجهن يوما حتى للتكيات الخيرية، والآن يعشن أوضاعا مالية قاسية، دفعت لينا لمصارحتهن: "يا ماما يا حبيباتي الحين أبوكن مش موجود وانتن شايفات أنه أنا معيش مصاري"، وطمأنتهن بأنها ستوفر لهن احتياجاتهن كلما توفر معها المال، وإلا فسيلجأن للتكيات.
لكن حتى التكيات أوصدت أبوابها في وجوه المجوعين بغزة، مع استمرار الاحتلال الإسرائيلي بمنع إدخال المساعدات الإنسانية للأهالي منذ الثاني من مارس/آذار.
وتمتد المعاناة أيضا لتوفير الملابس. أحضر الأب قبل استشهاده سرة ملابس من رفح، لا تزال الطفلات يلبسنها إلى الآن مع عدم قدرة الأم على توفير بدائل، بينما ترتدي ريحانة ما بات صغيرا على شقيقاتها، أو ما شابه.
ترك رحيل الأب جرحا غائرا في طفلاته، ومنهن دعاء التي "تعاتبه" كلما زارت قبره: "يابا، أنا اشتقت الك، انت ليش رحت؟ الله يسامحك".
كانت البنات يتعاملن مع أبيهن كصديق أو أخ ويمازحنه، وفي زيارة لقبره "حدثته" لين: "هيك خليتني عند لينا (أمها)؟ انت وينك سامعني يا سليم سامعني؟".
في تلك اللحظة، كأنما تنغرس "سكاكين" في قلب لينا، لتتساءل: "هدول بناتي شو ذنبهن؟ ابوهن شو عمل؟ راح يجيب طحين وملابس لبناته طب ليش هيك شو ذنبهن يتيمن أنا شو ذنبي؟".
باتت الأم وحدها في طريق منهك، لا تقوى على تخيل تفاصيله دون زوجها: "شو ذنبهن أكبرهن من غير أبوهن ويدخلن جامعات وأجوزهن في المستقبل من غيره؟".
تعيش فريسة للاكتئاب، أمام فقد رفيق روحها وأبي بناتها، وللحظة واحدة لا تستطيع أن تتخطى أو تنسى، وفي كل تفاصيلها اليومية تجده "حاضرا".
فارق النوم عيني لينا منذ استشهاده، وإن أغمضتهما يظل بالها مشغولا به وبذكرياته وببناتها، وبتلك الطفلة الجديدة "ريحانة" التي ذبلت بفقد أبيها، قبل أن تكبر.
فلسطين أون لاين