أفران الطين في غزة .. مهنة تصارع البقاء تحت رماد الحصار والحرب

mainThumb
أفران الطين في غزة.. مهنة تصارع البقاء تحت رماد الحصار والحرب

19-06-2025 03:31 PM

printIcon

أخبار اليوم - في غزة، حيث الرماد يعلو الخبز قبل أن يصل إلى أيدي الأطفال، يعود فرن الطين ليكون أحد شرايين الحياة القليلة التي تنبض في جسد محاصر أنهكته الحرب والجوع.

لم تكن هذه المهنة سوى ذكرى في أرشيف الزمن، اندثرت مع تطور المخابز الحديثة وانتشار الغاز ووقود الطهي، لكنها عادت بقوة لا بفعل الحنين، بل لأن الحاجة باتت أمّ الابتكار وأباه.

فمنذ أشهر، يعيش أكثر من مليوني إنسان في القطاع على وقع جريمة الحصار وحرب الإبادة، التي قطعت عنهم كل ما يمكن أن يضمن لهم الحدّ الأدنى من البقاء: الطحين شحّ، الوقود نفد، الغاز ندر، وحتى شحنات المساعدات يقصفها الاحتلال أحيانًا قبل أن تصل.

ومع توقف المخابز وانعدام بدائل الطهي، لجأ الكثيرون من أهالي غزة، لا سيما النازحين قسرا منهم، إلى إعادة بناء أفران الطين، يصنعونها من الحجارة والطين، ويغذونها بأخشاب اقتطعوها من أنقاض منازلهم، ليخبزوا بها رغيفًا واحدًا يقف بين الحياة والموت.

لكن هذا الخبز المكافح، لا يأتي بسهولة.

أحمد المعصوابي (32 عامًا)، كان يعمل سابقًا في محطة وقود شمال غزة، قبل أن تغدو تلك المحطة ذكرى بعدما توقفت بالكامل بفعل الحصار.

يقول لـ "فلسطين أون لاين": "حين توقفت المحطة، بحثت عن أي طريقة لإعالة عائلتي، فبنيت فرن طين بجانب خيمتي، وبدأت أخبز للناس. لم يكن الأمر سهلاً، فقد توقف الفرن لأسابيع طويلة بعد انقطاع الطحين تمامًا".

لكنه يستدرك: "في الأسبوع الماضي دخلت كمية شحيحة من الطحين مع المساعدات، فعادت الحياة لفرني جزئيًا، لكني اضطررت لرفع سعر الرغيف لأن سعر الحطب ارتفع بشكل جنوني، وأحيانًا أقطع أعمدة أثاث قديم لأستمر".

ورغم هذا التحدي، لا يرى أحمد في ما يقوم به أكثر من محاولة يائسة لدرء الجوع، إذ يضيف: "في بعض الأيام لا أستطيع تشغيل الفرن بسبب غياب الطحين أو الخشب، وأبقى طوال الليل أفكر كيف أوفّر الخبز لصغاري".

ومنذ الثاني من مارس/آذار يغلق الاحتلال الإسرائيلي المعابر المؤدية إلى غزة ويمنع دخول المساعدات الإنسانية. لكنه تحت ضغوط دولية سمح في الأيام الأخيرة بدخول كميات شحيحة من الدقيق.

جوع مضاعف

ليس أحمد وحده من قرر العودة إلى فرن الطين. صقر الثلاثيني، (28 عامًا)، وجد نفسه في الدوامة ذاتها. يروي وهو يلمس أطراف فرن طيني صغير أمام مأوى من البلاستيك: "حين سمعنا أن الطحين دخل بكميات محدودة، فرحت كثيرًا، وقلت لعائلتي إننا سنأكل خبزًا ساخنًا دون ذلّ الانتظار على أبواب المطابخ الخيرية. لكن صدمتي كانت كبيرة".

يتابع: "ما أكسبه من عملي يومًا كاملاً لا يوفّر لي سوى كيلو واحد من الطحين، بالكاد يكفي رغيفًا في اليوم لعائلتي، أُخبز للناس، وأنا لا أستطيع أن أؤمنه لعائلتي. إنه جوع مضاعف".

أما إبراهيم أبو عودة (45 عامًا)، فينظر إلى فرنه الطيني كما ينظر المحارب إلى بندقيته القديمة. يقول: "الطحين هو أساس كل شيء، ومع منعه الكامل على مدار الأشهر الماضية، صار العمل على فرن الطين بلا طائل. كنت آمل أن تتحقق أخبار وقف إطلاق النار، وأن تدخل مساعدات كافية، لكن للأسف، الواقع أقسى من الأمل. سعر الخشب ارتفع جدًا، وصرت أحدث نفسي بإغلاق الفرن. إنه لا يجدي".

هذه القصص الفردية تتقاطع مع ما أكدته تقارير الأمم المتحدة مؤخرًا. ففي تقرير صدر يوم 16 يونيو 2025، حذّرت لجنة الأغذية والزراعة وبرنامج الغذاء العالمي من أن غزة باتت واحدة من أكثر مناطق العالم تهديدًا بالمجاعة.

وفق التقرير، فإن نحو 2.1 مليون إنسان في القطاع يواجهون "انعدامًا حادًا للأمن الغذائي"، بينهم أكثر من 470 ألفًا باتوا فعليًا على حافة المجاعة الكارثية. وقالت الأمم المتحدة إن "غزة أصبحت المنطقة الأكثر جوعًا على وجه الأرض"، في ظل الحصار الخانق واستهداف شحنات الإغاثة بشكل متكرر.

كما أفادت منظمة الصحة العالمية بأن أكثر من 71 ألف طفل و17 ألف أم يعانون من سوء تغذية حادّ، وأن بعضهم بدأ يستشهد بالفعل بسبب الجوع ونقص العلاج. هذه الأرقام المفزعة، ليست مجرّد إحصاءات، بل تُترجم في كل يوم على شكل أفران طينية مشتعلة، وأجساد نحيلة تنتظر دورها في الطابور على حفنة دقيق أو كسرة خبز.

ورغم أن عودة فرن الطين بدت في ظاهرها صورة من صور الصمود، إلا أن تكلفته الإنسانية هائلة. فالحطب لم يعد متوفراً إلا بأسعار تفوق قدرة أي عامل، وصوت الانفجارات غالبًا ما يسبق رائحة الخبز، وأصحابه يتقلبون بين أمل غائم وألم دائم.

فرن الطين في غزة ليس مظهرًا تراثيًا، ولا حنينًا إلى ماضٍ جميل، بل خيارًا قسريًا يعكس ضيق الخيارات وسط طوق حصار يطحن الحجر والبشر معًا. وما لم يتحرك العالم بشكل عاجل وفاعل لإدخال كميات كافية من الطحين والوقود والمواد الغذائية، فإن الخبز في غزة سيظل يُخبز على الرماد، ويُؤكل بالدموع، في انتظار أن تُرفع الغمّة عن هذه الأرض المحروقة بفعل الحرب.

الفرن الطيني لم يصنع من رفاهية، بل من رماد انعدام الخيارات، لكنه يظل جمرة الأمل الوحيدة في قلب العتمة.

 فلسطين أون لاين