أخبار اليوم - ثلاثون عاماً ظلّ فيها اسمه يهمس في دهاليز أجهزة المخابرات، ويهدر في ساحات المعارك. ثلاثون عاماً شكّل فيها محمد الضيف، القائد العام لكتائب القسام، أسطورة حيّة يلاحقها الاحتلال الصهيوني بلا كلل.
في الذكرى الأولى لاستشهاده، يظلّ الرجل الحاضر الغائب، رمزاً لمقاومة أرهقت العدو وهزّت أركانه، وألهمت أجيال الفلسطينيين والأمة العربية والإسلامية.
«مهما حاول الطغاة قلعنا ستنبت البذور، أنا هنا في أرضي الحبيبة الكثيرة العطاء، ومثلها عطاؤنا يواصل الطريق لا يُخفي المسير».. هكذا خطّ الضيف آخر كلماته، واضعاً اللمسات الأخيرة على أعظم معركة في تاريخ المقاومة الفلسطينية: «طوفان الأقصى».
مع ارتقائه شهيداً، طُوي بعض الستار عن ذلك الغموض الكثيف الذي غلّف مسيرته. شخصيته العسكرية الرفيعة، وحنكته الأمنية الفائقة، جعلتا منه المطلوب الأول للاحتلال الصهيوني، الذي أفنى سنوات يفتّش عن أثره، أو صورة جديدة له، أو خيط يقوده إلى مكانه.
صوت الطوفان
في صباح السابع من أكتوبر 2023، خرج الضيف بصوته الجهوري في تسجيل دوّى في الآفاق، معلناً انطلاق معركة «طوفان الأقصى». قال إن الضربة الأولى استهدفت مواقع ومطارات وتحصينات عسكرية صهيونية، وإن المقاومة أطلقت خلالها خمسة آلاف صاروخ وقذيفة في الدقائق العشرين الأولى وحدها.
أكد الضيف أن «طوفان الأقصى» جاء رداً على جرائم الاحتلال المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، والتنكر للقوانين الدولية، والدعم الغربي للعدو الصهيوني، مؤكداً: «لقد انتهى زمن عربدة الاحتلال دون محاسب».
رجل الظل
قلّ أن شهد التاريخ قائداً توارى عن الأعين كما توارى الضيف. قليلون رأوه وجهاً لوجه، وكثيرون سمعوا صوته يقضّ مضاجع العدو. حياته كانت ساحة دائمة للحيطة والحذر، محصّنة بإجراءات أمنية بالغة التعقيد، جعلت اغتياله أمنية عصيّة على الاحتلال لعقود طويلة.
وحتى استشهاده لم يعرف العالم عنه سوى ثلاث صور: إحداها التقطت له شاباً يافعاً، والثانية وهو ملثّم، والثالثة ظله فقط في تسجيلات مصوّرة، ليبقى الرجل لغزاً يتردد بين الظلال والصدى.
ويؤكد الناطق العسكري باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام أبو عبيدة، في تغريدة له في ذكرى استشهاد القائد الكبير محمد الضيف “أبو خالد” بأن إخوان الضيف وأبناؤه ومحبوه في كل بقاع العالم يواصلون طريقه، ويكبّدون الاحتلال كل يومٍ مزيداً من الخسائر الاستراتيجية، وسيبقى طيفه كابوساً يؤرق مجرمي الحرب واللصوص؛ الذين لن يهنؤوا بعيشٍ في أرض فلسطين بعد أن خطّ الضيف وإخوانه بدمهم الفصل الأخير في سِفْر تحرير فلسطين.
بصمة أفعال
لم يكن الضيف رجلاً كثير الكلام، بل كان رجلاً تصنع أفعاله المجد. بصمته ظاهرة في تطوير أداء كتائب القسام، وفي استراتيجياتها وأساليبها التي أربكت العدو الصهيوني، وأذلّت جيشها المدجج بالسلاح.
اعتمد «أسلوب الإعداد الصامت»، فكانت معاركه تأتي مباغتة، موجعة، حاملة مفاجآت تكسر حسابات العدو. تجلّى ذلك بأوضح صورة في «طوفان الأقصى»، التي كشفت للعالم كيف ارتقى العمل الاستخباري والعسكري للقسام إلى مستوى غير مسبوق، ودوّى وقعها في أروقة قيادة الجيش الصهيوني.
الجذور الأولى
وُلد محمد ذياب المصري «أبو خالد» في غزة عام 1965، لعائلة هجّرها الاحتلال من قرية كوكبا. نشأ في خان يونس جنوب القطاع، وتلقى تعليمه في مدارسه، قبل أن يتخرج في الجامعة الإسلامية بغزة حاملاً شهادة البكالوريوس في الأحياء.
تزوج عام 2001 من غدير صيام ولم يُرزق منها بأطفال، ثم تزوج عام 2007 من وداد عصفور ورُزق منها بأربعة أبناء. وقدّر الله أن تحمل زوجته الأولى لاحقاً بثلاثة توائم.
تربّى الضيف في مساجد خان يونس، وانخرط مبكراً في العمل الدعوي، ثم في صفوف الكتلة الإسلامية بالجامعة، قبل أن ينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، ومنها إلى حركة حماس مع اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987.
اعتقلته سلطات الاحتلال عام 1989 لنشاطه العسكري، وأُفرج عنه بعد ستة عشر شهراً في صفقة تبادل أسرى.
ميلاد القسام
بعد خروجه من السجن، ساهم الضيف في تأسيس كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحماس، وأشرف مع رفاقه على العمليات النوعية ضد الاحتلال ومستوطنيه.
تسلّم قيادة الكتائب بعد اغتيال القائد العام صلاح شحادة في يوليو 2002، لكنه اضطر للابتعاد جزئياً عن القيادة بين 2006 و2012 بسبب إصابات بالغة أُصيب بها في محاولات اغتيال، فتولى نائبه الشهيد أحمد الجعبري القيادة الفعلية للكتائب في تلك الفترة.
سبع محاولات
سعى الاحتلال لاغتياله سبع مرات بين 2001 و2014. آخرها كانت في أغسطس 2014، حين أغارت طائرات الاحتلال على منزل بحي الشيخ رضوان بغزة، فاستشهدت زوجته الثانية واثنان من أطفاله.
أصيب الضيف إصابتين بالغتين؛ الأولى عام 2002 في شارع الجلاء وسط غزة وفقد فيها عينه اليسرى، والثانية عام 2006 حين استُهدف منزله، فأصيب بحروق وكسور أثّرت على قدرته على المشي.
استُشهد شقيقه عبد الفتاح المصري، ونجله مدحت، وأحد أحفاده، وزوجة أحد أبنائه في غارة صهيونية على منزل العائلة في خان يونس في 11 أكتوبر 2023.
حضور الصوت
ظهر الضيف أول مرة في تسجيل مصوّر عام 1994، معلناً أسر الجندي الصهيوني ناحشون فاكسمان، كاشفاً هويته وسلاحه، ومطالباً بالإفراج عن الشيخ أحمد ياسين وصلاح شحادة وأسرى آخرين.
توالت تسجيلاته لاحقاً، فأعلن في معركة «حجارة السجيل» عام 2012 أن المقاومة جاهزة للرد بعد اغتيال أحمد الجعبري. وفي يوليو 2014، ظهر في معركة «العصف المأكول» قائلاً إن «موازين المعركة تغيّرت لصالح شعبنا».
وفي 2021، حذّر الاحتلال من استمرار الاعتداءات في حي الشيخ جراح، وأطلق معركة «سيف القدس» دفاعاً عن القدس والأقصى.
وكان ظهوره الأشد وقعاً في صبيحة السابع من أكتوبر 2023، حين أعلن انطلاق «طوفان الأقصى»، ثم عاد في تسجيل آخر يدعو الشعوب العربية والإسلامية للزحف نحو فلسطين.
الشهادة والإعلان
نال الضيف الشرف الذي أفنى عمره لأجله، إذ استُشهد خلال معركة «طوفان الأقصى» جراء غارات صهيونية في الثالث عشر من يوليو 2024. غير أن كتائب القسام آثرت إبقاء استشهاده طيّ الكتمان لأسباب أمنية وعسكرية، حتى أعلنت عنه رسمياً في الثلاثين من يناير 2025 عبر المتحدث العسكري باسمها، أبو عبيدة، الذي زفّ نبأ استشهاد قائد هيئة أركان الكتائب محمد الضيف وعدد من رفاقه.
رحل محمد الضيف، لكن ظله ما يزال مخيماً على سماء فلسطين. اسمه يتردّد في كل خلية للمقاومة، وفي كل حسابات العدو. سيظل قائد الظل رمزاً لعصر من الصمود والدهاء، حاضراً في الذاكرة، وفي ساحات المواجهة القادمة، شاهداً على أن للحرية رجالاً لا يُهزمون حتى وهم في رحيلهم، لتعبّد حماس بدماء قادتها العظام الطريق نحو حرية فلسطين كل فلسطين.
المصدر / فلسطين أون لاين
أخبار اليوم - ثلاثون عاماً ظلّ فيها اسمه يهمس في دهاليز أجهزة المخابرات، ويهدر في ساحات المعارك. ثلاثون عاماً شكّل فيها محمد الضيف، القائد العام لكتائب القسام، أسطورة حيّة يلاحقها الاحتلال الصهيوني بلا كلل.
في الذكرى الأولى لاستشهاده، يظلّ الرجل الحاضر الغائب، رمزاً لمقاومة أرهقت العدو وهزّت أركانه، وألهمت أجيال الفلسطينيين والأمة العربية والإسلامية.
«مهما حاول الطغاة قلعنا ستنبت البذور، أنا هنا في أرضي الحبيبة الكثيرة العطاء، ومثلها عطاؤنا يواصل الطريق لا يُخفي المسير».. هكذا خطّ الضيف آخر كلماته، واضعاً اللمسات الأخيرة على أعظم معركة في تاريخ المقاومة الفلسطينية: «طوفان الأقصى».
مع ارتقائه شهيداً، طُوي بعض الستار عن ذلك الغموض الكثيف الذي غلّف مسيرته. شخصيته العسكرية الرفيعة، وحنكته الأمنية الفائقة، جعلتا منه المطلوب الأول للاحتلال الصهيوني، الذي أفنى سنوات يفتّش عن أثره، أو صورة جديدة له، أو خيط يقوده إلى مكانه.
صوت الطوفان
في صباح السابع من أكتوبر 2023، خرج الضيف بصوته الجهوري في تسجيل دوّى في الآفاق، معلناً انطلاق معركة «طوفان الأقصى». قال إن الضربة الأولى استهدفت مواقع ومطارات وتحصينات عسكرية صهيونية، وإن المقاومة أطلقت خلالها خمسة آلاف صاروخ وقذيفة في الدقائق العشرين الأولى وحدها.
أكد الضيف أن «طوفان الأقصى» جاء رداً على جرائم الاحتلال المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، والتنكر للقوانين الدولية، والدعم الغربي للعدو الصهيوني، مؤكداً: «لقد انتهى زمن عربدة الاحتلال دون محاسب».
رجل الظل
قلّ أن شهد التاريخ قائداً توارى عن الأعين كما توارى الضيف. قليلون رأوه وجهاً لوجه، وكثيرون سمعوا صوته يقضّ مضاجع العدو. حياته كانت ساحة دائمة للحيطة والحذر، محصّنة بإجراءات أمنية بالغة التعقيد، جعلت اغتياله أمنية عصيّة على الاحتلال لعقود طويلة.
وحتى استشهاده لم يعرف العالم عنه سوى ثلاث صور: إحداها التقطت له شاباً يافعاً، والثانية وهو ملثّم، والثالثة ظله فقط في تسجيلات مصوّرة، ليبقى الرجل لغزاً يتردد بين الظلال والصدى.
ويؤكد الناطق العسكري باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام أبو عبيدة، في تغريدة له في ذكرى استشهاد القائد الكبير محمد الضيف “أبو خالد” بأن إخوان الضيف وأبناؤه ومحبوه في كل بقاع العالم يواصلون طريقه، ويكبّدون الاحتلال كل يومٍ مزيداً من الخسائر الاستراتيجية، وسيبقى طيفه كابوساً يؤرق مجرمي الحرب واللصوص؛ الذين لن يهنؤوا بعيشٍ في أرض فلسطين بعد أن خطّ الضيف وإخوانه بدمهم الفصل الأخير في سِفْر تحرير فلسطين.
بصمة أفعال
لم يكن الضيف رجلاً كثير الكلام، بل كان رجلاً تصنع أفعاله المجد. بصمته ظاهرة في تطوير أداء كتائب القسام، وفي استراتيجياتها وأساليبها التي أربكت العدو الصهيوني، وأذلّت جيشها المدجج بالسلاح.
اعتمد «أسلوب الإعداد الصامت»، فكانت معاركه تأتي مباغتة، موجعة، حاملة مفاجآت تكسر حسابات العدو. تجلّى ذلك بأوضح صورة في «طوفان الأقصى»، التي كشفت للعالم كيف ارتقى العمل الاستخباري والعسكري للقسام إلى مستوى غير مسبوق، ودوّى وقعها في أروقة قيادة الجيش الصهيوني.
الجذور الأولى
وُلد محمد ذياب المصري «أبو خالد» في غزة عام 1965، لعائلة هجّرها الاحتلال من قرية كوكبا. نشأ في خان يونس جنوب القطاع، وتلقى تعليمه في مدارسه، قبل أن يتخرج في الجامعة الإسلامية بغزة حاملاً شهادة البكالوريوس في الأحياء.
تزوج عام 2001 من غدير صيام ولم يُرزق منها بأطفال، ثم تزوج عام 2007 من وداد عصفور ورُزق منها بأربعة أبناء. وقدّر الله أن تحمل زوجته الأولى لاحقاً بثلاثة توائم.
تربّى الضيف في مساجد خان يونس، وانخرط مبكراً في العمل الدعوي، ثم في صفوف الكتلة الإسلامية بالجامعة، قبل أن ينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، ومنها إلى حركة حماس مع اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987.
اعتقلته سلطات الاحتلال عام 1989 لنشاطه العسكري، وأُفرج عنه بعد ستة عشر شهراً في صفقة تبادل أسرى.
ميلاد القسام
بعد خروجه من السجن، ساهم الضيف في تأسيس كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحماس، وأشرف مع رفاقه على العمليات النوعية ضد الاحتلال ومستوطنيه.
تسلّم قيادة الكتائب بعد اغتيال القائد العام صلاح شحادة في يوليو 2002، لكنه اضطر للابتعاد جزئياً عن القيادة بين 2006 و2012 بسبب إصابات بالغة أُصيب بها في محاولات اغتيال، فتولى نائبه الشهيد أحمد الجعبري القيادة الفعلية للكتائب في تلك الفترة.
سبع محاولات
سعى الاحتلال لاغتياله سبع مرات بين 2001 و2014. آخرها كانت في أغسطس 2014، حين أغارت طائرات الاحتلال على منزل بحي الشيخ رضوان بغزة، فاستشهدت زوجته الثانية واثنان من أطفاله.
أصيب الضيف إصابتين بالغتين؛ الأولى عام 2002 في شارع الجلاء وسط غزة وفقد فيها عينه اليسرى، والثانية عام 2006 حين استُهدف منزله، فأصيب بحروق وكسور أثّرت على قدرته على المشي.
استُشهد شقيقه عبد الفتاح المصري، ونجله مدحت، وأحد أحفاده، وزوجة أحد أبنائه في غارة صهيونية على منزل العائلة في خان يونس في 11 أكتوبر 2023.
حضور الصوت
ظهر الضيف أول مرة في تسجيل مصوّر عام 1994، معلناً أسر الجندي الصهيوني ناحشون فاكسمان، كاشفاً هويته وسلاحه، ومطالباً بالإفراج عن الشيخ أحمد ياسين وصلاح شحادة وأسرى آخرين.
توالت تسجيلاته لاحقاً، فأعلن في معركة «حجارة السجيل» عام 2012 أن المقاومة جاهزة للرد بعد اغتيال أحمد الجعبري. وفي يوليو 2014، ظهر في معركة «العصف المأكول» قائلاً إن «موازين المعركة تغيّرت لصالح شعبنا».
وفي 2021، حذّر الاحتلال من استمرار الاعتداءات في حي الشيخ جراح، وأطلق معركة «سيف القدس» دفاعاً عن القدس والأقصى.
وكان ظهوره الأشد وقعاً في صبيحة السابع من أكتوبر 2023، حين أعلن انطلاق «طوفان الأقصى»، ثم عاد في تسجيل آخر يدعو الشعوب العربية والإسلامية للزحف نحو فلسطين.
الشهادة والإعلان
نال الضيف الشرف الذي أفنى عمره لأجله، إذ استُشهد خلال معركة «طوفان الأقصى» جراء غارات صهيونية في الثالث عشر من يوليو 2024. غير أن كتائب القسام آثرت إبقاء استشهاده طيّ الكتمان لأسباب أمنية وعسكرية، حتى أعلنت عنه رسمياً في الثلاثين من يناير 2025 عبر المتحدث العسكري باسمها، أبو عبيدة، الذي زفّ نبأ استشهاد قائد هيئة أركان الكتائب محمد الضيف وعدد من رفاقه.
رحل محمد الضيف، لكن ظله ما يزال مخيماً على سماء فلسطين. اسمه يتردّد في كل خلية للمقاومة، وفي كل حسابات العدو. سيظل قائد الظل رمزاً لعصر من الصمود والدهاء، حاضراً في الذاكرة، وفي ساحات المواجهة القادمة، شاهداً على أن للحرية رجالاً لا يُهزمون حتى وهم في رحيلهم، لتعبّد حماس بدماء قادتها العظام الطريق نحو حرية فلسطين كل فلسطين.
المصدر / فلسطين أون لاين
أخبار اليوم - ثلاثون عاماً ظلّ فيها اسمه يهمس في دهاليز أجهزة المخابرات، ويهدر في ساحات المعارك. ثلاثون عاماً شكّل فيها محمد الضيف، القائد العام لكتائب القسام، أسطورة حيّة يلاحقها الاحتلال الصهيوني بلا كلل.
في الذكرى الأولى لاستشهاده، يظلّ الرجل الحاضر الغائب، رمزاً لمقاومة أرهقت العدو وهزّت أركانه، وألهمت أجيال الفلسطينيين والأمة العربية والإسلامية.
«مهما حاول الطغاة قلعنا ستنبت البذور، أنا هنا في أرضي الحبيبة الكثيرة العطاء، ومثلها عطاؤنا يواصل الطريق لا يُخفي المسير».. هكذا خطّ الضيف آخر كلماته، واضعاً اللمسات الأخيرة على أعظم معركة في تاريخ المقاومة الفلسطينية: «طوفان الأقصى».
مع ارتقائه شهيداً، طُوي بعض الستار عن ذلك الغموض الكثيف الذي غلّف مسيرته. شخصيته العسكرية الرفيعة، وحنكته الأمنية الفائقة، جعلتا منه المطلوب الأول للاحتلال الصهيوني، الذي أفنى سنوات يفتّش عن أثره، أو صورة جديدة له، أو خيط يقوده إلى مكانه.
صوت الطوفان
في صباح السابع من أكتوبر 2023، خرج الضيف بصوته الجهوري في تسجيل دوّى في الآفاق، معلناً انطلاق معركة «طوفان الأقصى». قال إن الضربة الأولى استهدفت مواقع ومطارات وتحصينات عسكرية صهيونية، وإن المقاومة أطلقت خلالها خمسة آلاف صاروخ وقذيفة في الدقائق العشرين الأولى وحدها.
أكد الضيف أن «طوفان الأقصى» جاء رداً على جرائم الاحتلال المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، والتنكر للقوانين الدولية، والدعم الغربي للعدو الصهيوني، مؤكداً: «لقد انتهى زمن عربدة الاحتلال دون محاسب».
رجل الظل
قلّ أن شهد التاريخ قائداً توارى عن الأعين كما توارى الضيف. قليلون رأوه وجهاً لوجه، وكثيرون سمعوا صوته يقضّ مضاجع العدو. حياته كانت ساحة دائمة للحيطة والحذر، محصّنة بإجراءات أمنية بالغة التعقيد، جعلت اغتياله أمنية عصيّة على الاحتلال لعقود طويلة.
وحتى استشهاده لم يعرف العالم عنه سوى ثلاث صور: إحداها التقطت له شاباً يافعاً، والثانية وهو ملثّم، والثالثة ظله فقط في تسجيلات مصوّرة، ليبقى الرجل لغزاً يتردد بين الظلال والصدى.
ويؤكد الناطق العسكري باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام أبو عبيدة، في تغريدة له في ذكرى استشهاد القائد الكبير محمد الضيف “أبو خالد” بأن إخوان الضيف وأبناؤه ومحبوه في كل بقاع العالم يواصلون طريقه، ويكبّدون الاحتلال كل يومٍ مزيداً من الخسائر الاستراتيجية، وسيبقى طيفه كابوساً يؤرق مجرمي الحرب واللصوص؛ الذين لن يهنؤوا بعيشٍ في أرض فلسطين بعد أن خطّ الضيف وإخوانه بدمهم الفصل الأخير في سِفْر تحرير فلسطين.
بصمة أفعال
لم يكن الضيف رجلاً كثير الكلام، بل كان رجلاً تصنع أفعاله المجد. بصمته ظاهرة في تطوير أداء كتائب القسام، وفي استراتيجياتها وأساليبها التي أربكت العدو الصهيوني، وأذلّت جيشها المدجج بالسلاح.
اعتمد «أسلوب الإعداد الصامت»، فكانت معاركه تأتي مباغتة، موجعة، حاملة مفاجآت تكسر حسابات العدو. تجلّى ذلك بأوضح صورة في «طوفان الأقصى»، التي كشفت للعالم كيف ارتقى العمل الاستخباري والعسكري للقسام إلى مستوى غير مسبوق، ودوّى وقعها في أروقة قيادة الجيش الصهيوني.
الجذور الأولى
وُلد محمد ذياب المصري «أبو خالد» في غزة عام 1965، لعائلة هجّرها الاحتلال من قرية كوكبا. نشأ في خان يونس جنوب القطاع، وتلقى تعليمه في مدارسه، قبل أن يتخرج في الجامعة الإسلامية بغزة حاملاً شهادة البكالوريوس في الأحياء.
تزوج عام 2001 من غدير صيام ولم يُرزق منها بأطفال، ثم تزوج عام 2007 من وداد عصفور ورُزق منها بأربعة أبناء. وقدّر الله أن تحمل زوجته الأولى لاحقاً بثلاثة توائم.
تربّى الضيف في مساجد خان يونس، وانخرط مبكراً في العمل الدعوي، ثم في صفوف الكتلة الإسلامية بالجامعة، قبل أن ينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، ومنها إلى حركة حماس مع اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987.
اعتقلته سلطات الاحتلال عام 1989 لنشاطه العسكري، وأُفرج عنه بعد ستة عشر شهراً في صفقة تبادل أسرى.
ميلاد القسام
بعد خروجه من السجن، ساهم الضيف في تأسيس كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحماس، وأشرف مع رفاقه على العمليات النوعية ضد الاحتلال ومستوطنيه.
تسلّم قيادة الكتائب بعد اغتيال القائد العام صلاح شحادة في يوليو 2002، لكنه اضطر للابتعاد جزئياً عن القيادة بين 2006 و2012 بسبب إصابات بالغة أُصيب بها في محاولات اغتيال، فتولى نائبه الشهيد أحمد الجعبري القيادة الفعلية للكتائب في تلك الفترة.
سبع محاولات
سعى الاحتلال لاغتياله سبع مرات بين 2001 و2014. آخرها كانت في أغسطس 2014، حين أغارت طائرات الاحتلال على منزل بحي الشيخ رضوان بغزة، فاستشهدت زوجته الثانية واثنان من أطفاله.
أصيب الضيف إصابتين بالغتين؛ الأولى عام 2002 في شارع الجلاء وسط غزة وفقد فيها عينه اليسرى، والثانية عام 2006 حين استُهدف منزله، فأصيب بحروق وكسور أثّرت على قدرته على المشي.
استُشهد شقيقه عبد الفتاح المصري، ونجله مدحت، وأحد أحفاده، وزوجة أحد أبنائه في غارة صهيونية على منزل العائلة في خان يونس في 11 أكتوبر 2023.
حضور الصوت
ظهر الضيف أول مرة في تسجيل مصوّر عام 1994، معلناً أسر الجندي الصهيوني ناحشون فاكسمان، كاشفاً هويته وسلاحه، ومطالباً بالإفراج عن الشيخ أحمد ياسين وصلاح شحادة وأسرى آخرين.
توالت تسجيلاته لاحقاً، فأعلن في معركة «حجارة السجيل» عام 2012 أن المقاومة جاهزة للرد بعد اغتيال أحمد الجعبري. وفي يوليو 2014، ظهر في معركة «العصف المأكول» قائلاً إن «موازين المعركة تغيّرت لصالح شعبنا».
وفي 2021، حذّر الاحتلال من استمرار الاعتداءات في حي الشيخ جراح، وأطلق معركة «سيف القدس» دفاعاً عن القدس والأقصى.
وكان ظهوره الأشد وقعاً في صبيحة السابع من أكتوبر 2023، حين أعلن انطلاق «طوفان الأقصى»، ثم عاد في تسجيل آخر يدعو الشعوب العربية والإسلامية للزحف نحو فلسطين.
الشهادة والإعلان
نال الضيف الشرف الذي أفنى عمره لأجله، إذ استُشهد خلال معركة «طوفان الأقصى» جراء غارات صهيونية في الثالث عشر من يوليو 2024. غير أن كتائب القسام آثرت إبقاء استشهاده طيّ الكتمان لأسباب أمنية وعسكرية، حتى أعلنت عنه رسمياً في الثلاثين من يناير 2025 عبر المتحدث العسكري باسمها، أبو عبيدة، الذي زفّ نبأ استشهاد قائد هيئة أركان الكتائب محمد الضيف وعدد من رفاقه.
رحل محمد الضيف، لكن ظله ما يزال مخيماً على سماء فلسطين. اسمه يتردّد في كل خلية للمقاومة، وفي كل حسابات العدو. سيظل قائد الظل رمزاً لعصر من الصمود والدهاء، حاضراً في الذاكرة، وفي ساحات المواجهة القادمة، شاهداً على أن للحرية رجالاً لا يُهزمون حتى وهم في رحيلهم، لتعبّد حماس بدماء قادتها العظام الطريق نحو حرية فلسطين كل فلسطين.
المصدر / فلسطين أون لاين
التعليقات