سَهْم محمد العبادي
اليوم… كان العزاء الأخير لجهاد أبو بيدر، اليوم الثالث الذي يغلق فيه العزاء، لكن الفقد لا يقاس بثلاثة أيام، ولا يُختزل في يد تصافحك وتقول لك 'البقية في حياتك'.
الصبر على الفراق يا صاحبي، يحتاج سنوات، ويحتاج أيّامًا طويلة، ولحظات نستنجد فيها بالله الذي به نستعين دائمًا. نسأل الله أن يعيننا على مصيبة هذا الرحيل، فهذا الفراق ليس لشخص كان محطة عابرة في حياتنا، بل لأخ، لإنسانٍ أحبّ الجميع، وبذل من نفسه لأجلهم، ولم ينتظر يومًا شكرًا من أحد.
عرفت جهاد منذ أكثر من ربع قرن، ومن النادر جدًا أن يمر يوم أو يومان دون أن نتحدث. وفي اليومين الماضيين، كنت أستعيد كثيرًا من الرسائل الصوتية التي تبادلناها عبر 'الواتساب' فقط لأسمع صوته. ولولا أن بيننا وبين أهله خصوصية واحترام، لنشرت ما كان يقوله في تلك الرسائل… فقد كان المعلم، والسند، و'أخو الشلن' كما عرفه الناس، وجهاد كما عرفته أنا.
عملت معه في محطات كثيرة في الصحافة الأسبوعية واليومية؛ قضينا معًا وقتًا طويلًا في المحور، وهناك تعلمت منه الكثير، وعلّمني الكثير. كان يقول لي: 'أن تقف في وجه ارتفاع علبة لبن خمسة قروش أهم من أن تقف إلى جانب مسؤول كبير مهما كان منصبه، لأن الثاني لديه المصفقون، أما الأول فليس له إلا نحن… نحن جنوده'. كان يرى أن الصحافة صفٌّ للمواطن، قبل أن تكون صفًّا لأي أحد آخر، وأن الحرف يجب أن يُطوّع ليكون المواطن بخير، وليكون الوطن بخير قبله.
وكان يردد دائمًا: 'خرجتُ من مخيم عزمي المفتي وسأعود إليه، وأنت خرجتَ من عيرا ويرقا وستعود إليها… أمثالنا يشعرون ببعضهم، لأننا خرجنا من جذور هذا الوطن، ومن تاريخه، ومن المعاناة التي عاشها آباؤنا وأجدادنا، لم نولد وفي أفواهنا ملاعق من ذهب'.
عملنا في الأنباط أطول فترة، وكنت وقتها مديرًا للدائرة الاقتصادية، نكتب ونصيغ تقارير صحفية كانت تُقلق كثيرًا من المسؤولين، لكنها كانت في صف المواطن والوطن. كتبتُ كثيرًا من التقارير التي وقفت مع الجندي والشرطي، مع الفلاح والمزارع، مع الكنترول وسائق التاكسي والباص، ومع الموظف. لم نكن من جماعة 'رعى وأفتتح' ولا من صانعي العناوين البراقة، بل كنا نصنع خبرًا يفيد الوطن وأهله ويخدم تقدمه.
جهاد كان هو من كتب عنوان 'السيد الرئيس… أنت غير مرحب بك' على الصفحة الأولى زمن زيارة جورج بوش، في صحيفة يومية، مع صور الرئيس الأميركي، في وقت كانت فيه مثل هذه العناوين مغامرة كبرى. أما أنا، فقد كتبت 'انتفاضة الرعيان' على الدوار الرابع في قضية الأعلاف، وفتحت ملفات فساد ثقيلة، وكان هو دائمًا يقول لي: 'أنا بظهرك'، ويقف فعليًا ليحمل عني مسؤولية الكلمة إذا اشتدت العاصفة.
كثيرًا ما ذهبنا إلى ما هو أكبر وأجرأ. كتبنا بأسماء وهمية في زوايا سرية: جهاد كان 'أخو الشلن' و'زيرو 7'، وزهير العزة كان 'خيال الزرقاء'، وأنا كنت 'أبو قنوة'. هذه الزوايا كانت ترعب المسؤولين، وكانوا يتساءلون فيما بينهم ويسألون الصحفيين: من هم أصحاب هذه الأسماء؟ من يقف خلفهم؟ أذكر أن أحد الوزراء سألني أنا وجهاد عنهما، وبعد أن خرجنا من مكتبه، كدنا ننفجر ضاحكين: كيف لو علم أننا نحن من كان يجيب عن سؤاله؟
هذه الزوايا لم تكن للترف الصحفي، بل كانت تمارس أعلى درجات النقد، وتوجه الملاحظات وتكشف القضايا. وعندما كنا نجلس بين المواطنين أو مع المسؤولين، كان الفضول يأكلهم لمعرفة من هو 'أخو الشلن' الذي يربكهم كل صباح، ومن هو 'أبو قنوة' الذي يؤلم رؤوس الفاسدين.
عملت مع جهاد في الصحافة والإعلام والاستشارات، وكان همه همَّ وطن، لا همَّ شخص. كان يعشق عمر وورد ورواد وبيسان وحنان، كما يعشق كل الأردنيين. كان يتغنى بالأردن، بالشعار، بالبوريه، بالشمال والجندية.
جهاد دافع عن أجهزة الأمن العام، وتحدث عنها في وجه كثير من الضلالات التي تبناها البعض، وكان مع الحق، ودفع الثمن كثيرًا، وطُعن فيه مرارًا، ليس لأنهم أنظف منه، بل لأنهم كانوا أكثر منه مالًا ونفوذًا.
في النقابة، تحدثنا كثيرًا في السياسة، وعندما كنت أذهب إلى فلسطين، كان جهاد أكثر من يتواصل معي، من حسابات كان 'الفيسبوك' يحذفها لأنها لا 'تتبع المعايير'، بينما هي كانت تتبع الوطن والخط الوطني القومي النظيف.
كان معي حينما نزور ضريح الشهيد وصفي التل، وكان يقول: يجب أن نوثق تاريخ رجالات الأردن، لأن الأردنيين بحاجة إلى رموز يسيرون على خطاها، لا أن يُفرض عليهم قدوات من أصحاب الحسابات التجارية.
جهاد كان يعشق فلسطين كما يعشق الأردن، والمخيم بالنسبة له كان مرجعية وهوية. حتى في آخر دورة انتخابية، كنا نتحدث عن رئاسة لجنة الحريات في نقابة الصحفيين، فقال لي: 'كنت أنوي الترشح، لكن إن كنت أنت ستترشح، فالمقعد لك، ولك مني كل الدعم'، ووفّى بوعده.
زارني مرات عديدة في بيتي، وأذكر كنا نسترجع الماضي، فضحكنا وقتها على مفارقات المهنة والحياة.
لكن يا جهاد، الخاتمة عندي لم تبدأ في مجلس العزاء، بل بدأت يوم دخلتُ عليك المستشفى في أول يوم لدخولك.
وقفت أمامك، لا بجانبك، وأنت نائم على السرير، لكن يدك اليسرى، التي كنت تكتب بها على ديسك التحرير، كانت ممدودة وكأنها ما زالت تطرق على لوحة المفاتيح، تصوغ خبرًا عاجلًا، أو تحيك عنوانًا يربك مسؤولًا. كان المشهد مؤلمًا وعظيمًا في الوقت نفسه… وكأن الجسد يريد أن يقول: 'الصحافة تسكنني حتى وأنا صامت'.
تأملت ملامحك، ثم خرجت متجهًا نحو حنان، وكانت الدموع تسبقني. كان هناك مكرم الطراونة وعوني فريج، وكانت دموع نشأت الحلبي تنزل بصمت، وكان واضحًا أنه ليس بخير.
في تلك اللحظة أيقنت أن الأمر قادم لا محالة، وأنك بدأت تتهيأ لرحيلك الكبير.
لم تنفع الأدوية… وفي اليوم الأخير، خرجنا بك من المستشفى، وذهبنا إلى إربد. هناك، حملناك على أكتافنا، وكان النعش خفيفًا، لكن الثقل كان في قلوبنا. مشينا، والعيون تفيض، ونحن ما زلنا غير مصدقين أن جهاد أبو بيدر الذي كان قبل أيام يملأ الدنيا صوتًا وكلمة، صار الآن صامتًا بين أيدينا.
وربع قرن يا صديقي ويزيد… لك مني العهد أن أمضي فيما كنت تمضي فيه، وأن أكون لمخيم الشهيد عزمي المفتي ابنا مثلك، حتى أكتب لك وأنت في جنات النعيم بإذن الله، ضيف الرحمن الرحيم. سأكتب عنك في كل مرة، وسأرضيك في كل حرف، في كل سطر… وستكون عنواني دوماً.
ولا حول ولا قوة إلا بالله…
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
سلام يا صاحبي
سَهْم محمد العبادي
اليوم… كان العزاء الأخير لجهاد أبو بيدر، اليوم الثالث الذي يغلق فيه العزاء، لكن الفقد لا يقاس بثلاثة أيام، ولا يُختزل في يد تصافحك وتقول لك 'البقية في حياتك'.
الصبر على الفراق يا صاحبي، يحتاج سنوات، ويحتاج أيّامًا طويلة، ولحظات نستنجد فيها بالله الذي به نستعين دائمًا. نسأل الله أن يعيننا على مصيبة هذا الرحيل، فهذا الفراق ليس لشخص كان محطة عابرة في حياتنا، بل لأخ، لإنسانٍ أحبّ الجميع، وبذل من نفسه لأجلهم، ولم ينتظر يومًا شكرًا من أحد.
عرفت جهاد منذ أكثر من ربع قرن، ومن النادر جدًا أن يمر يوم أو يومان دون أن نتحدث. وفي اليومين الماضيين، كنت أستعيد كثيرًا من الرسائل الصوتية التي تبادلناها عبر 'الواتساب' فقط لأسمع صوته. ولولا أن بيننا وبين أهله خصوصية واحترام، لنشرت ما كان يقوله في تلك الرسائل… فقد كان المعلم، والسند، و'أخو الشلن' كما عرفه الناس، وجهاد كما عرفته أنا.
عملت معه في محطات كثيرة في الصحافة الأسبوعية واليومية؛ قضينا معًا وقتًا طويلًا في المحور، وهناك تعلمت منه الكثير، وعلّمني الكثير. كان يقول لي: 'أن تقف في وجه ارتفاع علبة لبن خمسة قروش أهم من أن تقف إلى جانب مسؤول كبير مهما كان منصبه، لأن الثاني لديه المصفقون، أما الأول فليس له إلا نحن… نحن جنوده'. كان يرى أن الصحافة صفٌّ للمواطن، قبل أن تكون صفًّا لأي أحد آخر، وأن الحرف يجب أن يُطوّع ليكون المواطن بخير، وليكون الوطن بخير قبله.
وكان يردد دائمًا: 'خرجتُ من مخيم عزمي المفتي وسأعود إليه، وأنت خرجتَ من عيرا ويرقا وستعود إليها… أمثالنا يشعرون ببعضهم، لأننا خرجنا من جذور هذا الوطن، ومن تاريخه، ومن المعاناة التي عاشها آباؤنا وأجدادنا، لم نولد وفي أفواهنا ملاعق من ذهب'.
عملنا في الأنباط أطول فترة، وكنت وقتها مديرًا للدائرة الاقتصادية، نكتب ونصيغ تقارير صحفية كانت تُقلق كثيرًا من المسؤولين، لكنها كانت في صف المواطن والوطن. كتبتُ كثيرًا من التقارير التي وقفت مع الجندي والشرطي، مع الفلاح والمزارع، مع الكنترول وسائق التاكسي والباص، ومع الموظف. لم نكن من جماعة 'رعى وأفتتح' ولا من صانعي العناوين البراقة، بل كنا نصنع خبرًا يفيد الوطن وأهله ويخدم تقدمه.
جهاد كان هو من كتب عنوان 'السيد الرئيس… أنت غير مرحب بك' على الصفحة الأولى زمن زيارة جورج بوش، في صحيفة يومية، مع صور الرئيس الأميركي، في وقت كانت فيه مثل هذه العناوين مغامرة كبرى. أما أنا، فقد كتبت 'انتفاضة الرعيان' على الدوار الرابع في قضية الأعلاف، وفتحت ملفات فساد ثقيلة، وكان هو دائمًا يقول لي: 'أنا بظهرك'، ويقف فعليًا ليحمل عني مسؤولية الكلمة إذا اشتدت العاصفة.
كثيرًا ما ذهبنا إلى ما هو أكبر وأجرأ. كتبنا بأسماء وهمية في زوايا سرية: جهاد كان 'أخو الشلن' و'زيرو 7'، وزهير العزة كان 'خيال الزرقاء'، وأنا كنت 'أبو قنوة'. هذه الزوايا كانت ترعب المسؤولين، وكانوا يتساءلون فيما بينهم ويسألون الصحفيين: من هم أصحاب هذه الأسماء؟ من يقف خلفهم؟ أذكر أن أحد الوزراء سألني أنا وجهاد عنهما، وبعد أن خرجنا من مكتبه، كدنا ننفجر ضاحكين: كيف لو علم أننا نحن من كان يجيب عن سؤاله؟
هذه الزوايا لم تكن للترف الصحفي، بل كانت تمارس أعلى درجات النقد، وتوجه الملاحظات وتكشف القضايا. وعندما كنا نجلس بين المواطنين أو مع المسؤولين، كان الفضول يأكلهم لمعرفة من هو 'أخو الشلن' الذي يربكهم كل صباح، ومن هو 'أبو قنوة' الذي يؤلم رؤوس الفاسدين.
عملت مع جهاد في الصحافة والإعلام والاستشارات، وكان همه همَّ وطن، لا همَّ شخص. كان يعشق عمر وورد ورواد وبيسان وحنان، كما يعشق كل الأردنيين. كان يتغنى بالأردن، بالشعار، بالبوريه، بالشمال والجندية.
جهاد دافع عن أجهزة الأمن العام، وتحدث عنها في وجه كثير من الضلالات التي تبناها البعض، وكان مع الحق، ودفع الثمن كثيرًا، وطُعن فيه مرارًا، ليس لأنهم أنظف منه، بل لأنهم كانوا أكثر منه مالًا ونفوذًا.
في النقابة، تحدثنا كثيرًا في السياسة، وعندما كنت أذهب إلى فلسطين، كان جهاد أكثر من يتواصل معي، من حسابات كان 'الفيسبوك' يحذفها لأنها لا 'تتبع المعايير'، بينما هي كانت تتبع الوطن والخط الوطني القومي النظيف.
كان معي حينما نزور ضريح الشهيد وصفي التل، وكان يقول: يجب أن نوثق تاريخ رجالات الأردن، لأن الأردنيين بحاجة إلى رموز يسيرون على خطاها، لا أن يُفرض عليهم قدوات من أصحاب الحسابات التجارية.
جهاد كان يعشق فلسطين كما يعشق الأردن، والمخيم بالنسبة له كان مرجعية وهوية. حتى في آخر دورة انتخابية، كنا نتحدث عن رئاسة لجنة الحريات في نقابة الصحفيين، فقال لي: 'كنت أنوي الترشح، لكن إن كنت أنت ستترشح، فالمقعد لك، ولك مني كل الدعم'، ووفّى بوعده.
زارني مرات عديدة في بيتي، وأذكر كنا نسترجع الماضي، فضحكنا وقتها على مفارقات المهنة والحياة.
لكن يا جهاد، الخاتمة عندي لم تبدأ في مجلس العزاء، بل بدأت يوم دخلتُ عليك المستشفى في أول يوم لدخولك.
وقفت أمامك، لا بجانبك، وأنت نائم على السرير، لكن يدك اليسرى، التي كنت تكتب بها على ديسك التحرير، كانت ممدودة وكأنها ما زالت تطرق على لوحة المفاتيح، تصوغ خبرًا عاجلًا، أو تحيك عنوانًا يربك مسؤولًا. كان المشهد مؤلمًا وعظيمًا في الوقت نفسه… وكأن الجسد يريد أن يقول: 'الصحافة تسكنني حتى وأنا صامت'.
تأملت ملامحك، ثم خرجت متجهًا نحو حنان، وكانت الدموع تسبقني. كان هناك مكرم الطراونة وعوني فريج، وكانت دموع نشأت الحلبي تنزل بصمت، وكان واضحًا أنه ليس بخير.
في تلك اللحظة أيقنت أن الأمر قادم لا محالة، وأنك بدأت تتهيأ لرحيلك الكبير.
لم تنفع الأدوية… وفي اليوم الأخير، خرجنا بك من المستشفى، وذهبنا إلى إربد. هناك، حملناك على أكتافنا، وكان النعش خفيفًا، لكن الثقل كان في قلوبنا. مشينا، والعيون تفيض، ونحن ما زلنا غير مصدقين أن جهاد أبو بيدر الذي كان قبل أيام يملأ الدنيا صوتًا وكلمة، صار الآن صامتًا بين أيدينا.
وربع قرن يا صديقي ويزيد… لك مني العهد أن أمضي فيما كنت تمضي فيه، وأن أكون لمخيم الشهيد عزمي المفتي ابنا مثلك، حتى أكتب لك وأنت في جنات النعيم بإذن الله، ضيف الرحمن الرحيم. سأكتب عنك في كل مرة، وسأرضيك في كل حرف، في كل سطر… وستكون عنواني دوماً.
ولا حول ولا قوة إلا بالله…
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
سلام يا صاحبي
سَهْم محمد العبادي
اليوم… كان العزاء الأخير لجهاد أبو بيدر، اليوم الثالث الذي يغلق فيه العزاء، لكن الفقد لا يقاس بثلاثة أيام، ولا يُختزل في يد تصافحك وتقول لك 'البقية في حياتك'.
الصبر على الفراق يا صاحبي، يحتاج سنوات، ويحتاج أيّامًا طويلة، ولحظات نستنجد فيها بالله الذي به نستعين دائمًا. نسأل الله أن يعيننا على مصيبة هذا الرحيل، فهذا الفراق ليس لشخص كان محطة عابرة في حياتنا، بل لأخ، لإنسانٍ أحبّ الجميع، وبذل من نفسه لأجلهم، ولم ينتظر يومًا شكرًا من أحد.
عرفت جهاد منذ أكثر من ربع قرن، ومن النادر جدًا أن يمر يوم أو يومان دون أن نتحدث. وفي اليومين الماضيين، كنت أستعيد كثيرًا من الرسائل الصوتية التي تبادلناها عبر 'الواتساب' فقط لأسمع صوته. ولولا أن بيننا وبين أهله خصوصية واحترام، لنشرت ما كان يقوله في تلك الرسائل… فقد كان المعلم، والسند، و'أخو الشلن' كما عرفه الناس، وجهاد كما عرفته أنا.
عملت معه في محطات كثيرة في الصحافة الأسبوعية واليومية؛ قضينا معًا وقتًا طويلًا في المحور، وهناك تعلمت منه الكثير، وعلّمني الكثير. كان يقول لي: 'أن تقف في وجه ارتفاع علبة لبن خمسة قروش أهم من أن تقف إلى جانب مسؤول كبير مهما كان منصبه، لأن الثاني لديه المصفقون، أما الأول فليس له إلا نحن… نحن جنوده'. كان يرى أن الصحافة صفٌّ للمواطن، قبل أن تكون صفًّا لأي أحد آخر، وأن الحرف يجب أن يُطوّع ليكون المواطن بخير، وليكون الوطن بخير قبله.
وكان يردد دائمًا: 'خرجتُ من مخيم عزمي المفتي وسأعود إليه، وأنت خرجتَ من عيرا ويرقا وستعود إليها… أمثالنا يشعرون ببعضهم، لأننا خرجنا من جذور هذا الوطن، ومن تاريخه، ومن المعاناة التي عاشها آباؤنا وأجدادنا، لم نولد وفي أفواهنا ملاعق من ذهب'.
عملنا في الأنباط أطول فترة، وكنت وقتها مديرًا للدائرة الاقتصادية، نكتب ونصيغ تقارير صحفية كانت تُقلق كثيرًا من المسؤولين، لكنها كانت في صف المواطن والوطن. كتبتُ كثيرًا من التقارير التي وقفت مع الجندي والشرطي، مع الفلاح والمزارع، مع الكنترول وسائق التاكسي والباص، ومع الموظف. لم نكن من جماعة 'رعى وأفتتح' ولا من صانعي العناوين البراقة، بل كنا نصنع خبرًا يفيد الوطن وأهله ويخدم تقدمه.
جهاد كان هو من كتب عنوان 'السيد الرئيس… أنت غير مرحب بك' على الصفحة الأولى زمن زيارة جورج بوش، في صحيفة يومية، مع صور الرئيس الأميركي، في وقت كانت فيه مثل هذه العناوين مغامرة كبرى. أما أنا، فقد كتبت 'انتفاضة الرعيان' على الدوار الرابع في قضية الأعلاف، وفتحت ملفات فساد ثقيلة، وكان هو دائمًا يقول لي: 'أنا بظهرك'، ويقف فعليًا ليحمل عني مسؤولية الكلمة إذا اشتدت العاصفة.
كثيرًا ما ذهبنا إلى ما هو أكبر وأجرأ. كتبنا بأسماء وهمية في زوايا سرية: جهاد كان 'أخو الشلن' و'زيرو 7'، وزهير العزة كان 'خيال الزرقاء'، وأنا كنت 'أبو قنوة'. هذه الزوايا كانت ترعب المسؤولين، وكانوا يتساءلون فيما بينهم ويسألون الصحفيين: من هم أصحاب هذه الأسماء؟ من يقف خلفهم؟ أذكر أن أحد الوزراء سألني أنا وجهاد عنهما، وبعد أن خرجنا من مكتبه، كدنا ننفجر ضاحكين: كيف لو علم أننا نحن من كان يجيب عن سؤاله؟
هذه الزوايا لم تكن للترف الصحفي، بل كانت تمارس أعلى درجات النقد، وتوجه الملاحظات وتكشف القضايا. وعندما كنا نجلس بين المواطنين أو مع المسؤولين، كان الفضول يأكلهم لمعرفة من هو 'أخو الشلن' الذي يربكهم كل صباح، ومن هو 'أبو قنوة' الذي يؤلم رؤوس الفاسدين.
عملت مع جهاد في الصحافة والإعلام والاستشارات، وكان همه همَّ وطن، لا همَّ شخص. كان يعشق عمر وورد ورواد وبيسان وحنان، كما يعشق كل الأردنيين. كان يتغنى بالأردن، بالشعار، بالبوريه، بالشمال والجندية.
جهاد دافع عن أجهزة الأمن العام، وتحدث عنها في وجه كثير من الضلالات التي تبناها البعض، وكان مع الحق، ودفع الثمن كثيرًا، وطُعن فيه مرارًا، ليس لأنهم أنظف منه، بل لأنهم كانوا أكثر منه مالًا ونفوذًا.
في النقابة، تحدثنا كثيرًا في السياسة، وعندما كنت أذهب إلى فلسطين، كان جهاد أكثر من يتواصل معي، من حسابات كان 'الفيسبوك' يحذفها لأنها لا 'تتبع المعايير'، بينما هي كانت تتبع الوطن والخط الوطني القومي النظيف.
كان معي حينما نزور ضريح الشهيد وصفي التل، وكان يقول: يجب أن نوثق تاريخ رجالات الأردن، لأن الأردنيين بحاجة إلى رموز يسيرون على خطاها، لا أن يُفرض عليهم قدوات من أصحاب الحسابات التجارية.
جهاد كان يعشق فلسطين كما يعشق الأردن، والمخيم بالنسبة له كان مرجعية وهوية. حتى في آخر دورة انتخابية، كنا نتحدث عن رئاسة لجنة الحريات في نقابة الصحفيين، فقال لي: 'كنت أنوي الترشح، لكن إن كنت أنت ستترشح، فالمقعد لك، ولك مني كل الدعم'، ووفّى بوعده.
زارني مرات عديدة في بيتي، وأذكر كنا نسترجع الماضي، فضحكنا وقتها على مفارقات المهنة والحياة.
لكن يا جهاد، الخاتمة عندي لم تبدأ في مجلس العزاء، بل بدأت يوم دخلتُ عليك المستشفى في أول يوم لدخولك.
وقفت أمامك، لا بجانبك، وأنت نائم على السرير، لكن يدك اليسرى، التي كنت تكتب بها على ديسك التحرير، كانت ممدودة وكأنها ما زالت تطرق على لوحة المفاتيح، تصوغ خبرًا عاجلًا، أو تحيك عنوانًا يربك مسؤولًا. كان المشهد مؤلمًا وعظيمًا في الوقت نفسه… وكأن الجسد يريد أن يقول: 'الصحافة تسكنني حتى وأنا صامت'.
تأملت ملامحك، ثم خرجت متجهًا نحو حنان، وكانت الدموع تسبقني. كان هناك مكرم الطراونة وعوني فريج، وكانت دموع نشأت الحلبي تنزل بصمت، وكان واضحًا أنه ليس بخير.
في تلك اللحظة أيقنت أن الأمر قادم لا محالة، وأنك بدأت تتهيأ لرحيلك الكبير.
لم تنفع الأدوية… وفي اليوم الأخير، خرجنا بك من المستشفى، وذهبنا إلى إربد. هناك، حملناك على أكتافنا، وكان النعش خفيفًا، لكن الثقل كان في قلوبنا. مشينا، والعيون تفيض، ونحن ما زلنا غير مصدقين أن جهاد أبو بيدر الذي كان قبل أيام يملأ الدنيا صوتًا وكلمة، صار الآن صامتًا بين أيدينا.
وربع قرن يا صديقي ويزيد… لك مني العهد أن أمضي فيما كنت تمضي فيه، وأن أكون لمخيم الشهيد عزمي المفتي ابنا مثلك، حتى أكتب لك وأنت في جنات النعيم بإذن الله، ضيف الرحمن الرحيم. سأكتب عنك في كل مرة، وسأرضيك في كل حرف، في كل سطر… وستكون عنواني دوماً.
ولا حول ولا قوة إلا بالله…
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
سلام يا صاحبي
التعليقات