رام الله- أخبار اليوم - في انتظار قدوم مزيد من الركاب المتجهين من رام الله إلى قرية المغير، لا يسمع في سيارة الأجرة حديث سوى عن ما فعلته قوات الاحتلال خلال عمليتها العسكرية التي استمرت في القرية منذ صباح الخميس الماضي، حتى يوم أمس الأحد.
وتصف سيدتان جالستان في السيارة مخاوفهما لدى اقتحام الجيش لبيوتهن، وكيف تعرضتا لتفتيش مهين من المجندات الإسرائيليات المرافقات للقوة المقتحمة، وما حملت تلك الاقتحامات من مخاوف وقلق، في وقت شارك السائق أحد زملائه من نفس القرية خوفه على طفلته التي كانت مصممة على اللعب بدراجتها خلال ساعات الاقتحام، دون أن تفهم سبب منع والدها لها من الخروج.
وتقع 'المغير' على بعد 27 كيلومترا (شمال شرق محافظة رام الله والبيرة) ورغم أن هذه المسافة في أي مكان آخر تبدو قصيرة، فإنها في فلسطين تحتاج من السائق الالتفاف عبر طرق فرعية عديدة للوصول إلى القرية خلال ما يقارب ساعة ونصف الساعة، وكان يمكن لأي مسافة مشابهة أن تقطع في 25 دقيقة فقط بأماكن أخرى.
رحلة قاسية
ويضطر أهالي 'المغير' لمكابدة هذه الرحلة اليومية القاسية -بشكل يومي- للانتقال بين القرية ومدينة رام الله لأغراض العمل أو العلاج أو الاحتياجات اليومية الأخرى.
أما الذين يعملون في منطقة الغور، فقد منعهم جيش الاحتلال -منذ بداية حرب الإبادة في قطاع غزة– من استخدام الطريق الرئيسي الواقع شرقي القرية، والذي يربطها مباشرة بمنطقة الغور، ليصبحوا مضطرين للعبور عبر سلسلة من القرى الشرقية لمحافظة رام الله والبيرة، مما أدى إلى تضاعف الكلفة المادية والزمنية، ضمن سياسة مقصودة لإفقار السكان.
وفي أقصى شرق قرية المغير، حيث يمتد السهل، يتدفق الأهالي لتفقد أراضيهم بعد انسحاب جيش الاحتلال صباح الأحد، حيث اقتلعت قواته والمستوطنون أكثر من 12 ألف شجرة مثمرة، مستخدمين آلياتهم لمحو أي أثر يدل على أن الأرض كانت مزروعة بأشجار يصل عمر بعضها إلى قرابة 100 عام.
وفي المغير، كغيرها من القرى الفلسطينية، يعرف الجميع بعضهم بعضا، والمصاب واحد كما يقول أهلها، والجميع يعرف تاريخ كل شجرة ويرصد عمرها منذ طفولته. وتقول سيدة تقارب الأربعين من عمرها -للجزيرة نت- وهي تقف بجانب شجرة صنوبر اقتلعتها جرافات الاحتلال 'من يوم صحيت على الدنيا وأنا بشوف هالشجرة'.
تحديد الأيام
يسجل الناس هنا أعمارهم بأعمار الأشجار التي اقتلعها الاحتلال، ويأخذون من الأحداث علامات فارقة لتحديد الأيام. إحدى الأمهات، على سبيل المثال، تؤرخ لخبر وصلها عن ابنها في السجن قبل 20 يوما، فتقول 'يوم استشهد حمدان أبو عليا، اتصل بي رفيق ابني بعد خروجه من السجن ليطمئن عليّ'.
ويحمل سكان منزل عبد اللطيف أبو عليا، الملاصق للسهل، ذات الطريقة في التأريخ، حيث كان استشهاد الشاب جهاد أبو عليا على سطح المنزل في نيسان/أبريل 2024 علامة فارقة في ذاكرة الجميع، أثناء دفاعه مع شباب القرية عن أراضيها خلال واحدة من أشرس هجمات المستوطنين منذ بداية الحرب.
وفي فناء المنزل، تتواصل زيارات نساء القرية لأهل البيت للاطمئنان عليهم بعد أيام مشحونة بالقلق والتأهب طوال ساعات العملية العسكرية. أما الرجال، فقد تجمهروا قرب المنزل، بين ما تبقى من أشجار الزيتون التي أمضوا سنوات طويلة في زراعتها والاعتناء بها، ليجدوا أرضهم أثرا بعد عين، في محاولة لاجتثاث وجودهم من القرية.
وبينما يقدم نجل أبو عليا القهوة للزوار من أهالي القرية، توقف مستوطن بسيارته على بعد عشرات الأمتار وحاول استفزاز الشبان بإشارات يدوية وتوعدهم بالقتل، مما دفعهم للتجمهر في نقطة واحدة لإشعاره بكثرتهم، قبل أن ينسحب من المكان.
وتزوج الشابان سامح وسناء أبو عليا قبل أقل من شهر، ورغم ذلك اضطرا لمكابدة هذه الأحداث في بداية حياتهما الزوجية، بدلا من أن تكون البداية أكثر هدوءا وسهولة.
لحظات مرعبة
تتذكر سناء أبو عليا اللحظات الأولى للعملية العسكرية حين استيقظت على اتصال يحذرها من محاصرة المستوطنين لمنزلها من كل الاتجاهات، وما هي إلا لحظات حتى اندفعت قوات الاحتلال رفقة المستوطنين لمهاجمة أراضي القرية واقتحام بيوتها، بدءا من بيتها الذي تسكن فيه مع عائلة زوجها.
واقتحم الجيش المنزل وفحص هويات المقيمين فيه، وعاث الجنود تخريبا، بينما كان الضابط يخاطب صاحب المنزل ساخرا ومحاولا استفزازه 'بيتك كبير وحلو' مع تهديدات صريحة من المستوطنين باستهداف البيت في هجمات لاحقة.
وبعد انسحاب الجيش لمواصلة تفتيش بقية منازل القرية، صعد أبو عليا مع والدي زوجة نجله إلى سطح المنزل لتفقد آثار الاقتحام، وما إن فعلوا ذلك حتى بدأ أحد المستوطنين بإطلاق النار باتجاههم فجأة، مما أدى إلى سقوط والدة الزوجة أرضا، وهي حامل في الشهر السابع، دون إمكانية استدعاء سيارة إسعاف للاطمئنان عليها وعلى جنينها.
وتقول سناء أبو عليا متأثرة 'عند أول دمعة نزلت ونحن نشاهد الجيش يقتلع الأشجار، قلنا إنا لله وإنا إليه راجعون، سنزرع بداله (غيره) لكن الواحد يعز عليه تعب السنين. وبالنسبة لي، يذهب كل مال الدنيا، ولا تنزل نقطة دم واحدة من الشباب'.
تعمد الترهيب
في بيت العائلة، يسكن شقيق عبد اللطيف أبو عليا، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة، وقد أصبح منذ معرفة الجيش بخصوصية حالته الهدف الأول في عمليات الاقتحام المتكررة للمنزل، حيث كان الجنود يتعمدون اقتحام غرفته دونا عن بقية المنزل، وممارسة التخويف بشتى الطرق.
وتقول سناء أبو عليا 'في إحدى ليالي العملية العسكرية، اقترب مستوطن بجرافته إلى مسافة قريبة جدا من المنزل، حتى شعرنا أنه على وشك هدم السور، وبدأ بتسليط الضوء على نوافذ المنزل وتصويرنا بشكل استفزازي'.
وتحدثت نساء القرية للجزيرة نت عن تعمد المستوطنين تصويرهن ونشر صورهن عبر قنوات التليغرام التابعة لهم، في استفزاز واضح لقيم مجتمع القرية، وإرهابا للرجال ودفعا بهم إلى أقصى حدود الاستفزاز، عدا ما تعرضت له النساء والأطفال من خوف وترهيب في ظل غياب الأزواج وصعوبة وصولهم إلى القرية في أولى ساعات الاقتحام، مما اضطر عددا كبيرا من الشباب للبقاء خارج القرية.
وقد خاطر آخرون بحياتهم للعودة سيرا على الأقدام عبر سلسلة الجبال المحيطة، لتلاحقهم قوات الجيش والمستوطنون، ويهرب البعض منهم بأعجوبة من الموت أثناء ركضه أعزل في الجبال.
وما بين المشاهد القادمة من غزة لأهوال الإبادة، وما بين تغول المستوطنين مدعومين بالجيش في الضفة الغربية، يجد الفلسطيني نفسه ممزقا بين آلام الاحتلال المتنوعة، لكن اللافت لدى أهالي المغير حساسيتهم المفرطة تجاه أي محاولة اعتداء، دون أن تنسيهم ما يجري في غزة.
وفي اللحظات الأخيرة قبل مغادرة القرية، ينتبه الجميع إلى هواتفهم، حيث يصلهم نداء مسجل من أحد الشباب يستدعي أهالي القرية للتجمع دفاعا عنها بعد رصد تجمع مستوطنين بمنطقة الخلايل، في ما يبدو استعدادا لهجوم محتمل.
الجزيرة
رام الله- أخبار اليوم - في انتظار قدوم مزيد من الركاب المتجهين من رام الله إلى قرية المغير، لا يسمع في سيارة الأجرة حديث سوى عن ما فعلته قوات الاحتلال خلال عمليتها العسكرية التي استمرت في القرية منذ صباح الخميس الماضي، حتى يوم أمس الأحد.
وتصف سيدتان جالستان في السيارة مخاوفهما لدى اقتحام الجيش لبيوتهن، وكيف تعرضتا لتفتيش مهين من المجندات الإسرائيليات المرافقات للقوة المقتحمة، وما حملت تلك الاقتحامات من مخاوف وقلق، في وقت شارك السائق أحد زملائه من نفس القرية خوفه على طفلته التي كانت مصممة على اللعب بدراجتها خلال ساعات الاقتحام، دون أن تفهم سبب منع والدها لها من الخروج.
وتقع 'المغير' على بعد 27 كيلومترا (شمال شرق محافظة رام الله والبيرة) ورغم أن هذه المسافة في أي مكان آخر تبدو قصيرة، فإنها في فلسطين تحتاج من السائق الالتفاف عبر طرق فرعية عديدة للوصول إلى القرية خلال ما يقارب ساعة ونصف الساعة، وكان يمكن لأي مسافة مشابهة أن تقطع في 25 دقيقة فقط بأماكن أخرى.
رحلة قاسية
ويضطر أهالي 'المغير' لمكابدة هذه الرحلة اليومية القاسية -بشكل يومي- للانتقال بين القرية ومدينة رام الله لأغراض العمل أو العلاج أو الاحتياجات اليومية الأخرى.
أما الذين يعملون في منطقة الغور، فقد منعهم جيش الاحتلال -منذ بداية حرب الإبادة في قطاع غزة– من استخدام الطريق الرئيسي الواقع شرقي القرية، والذي يربطها مباشرة بمنطقة الغور، ليصبحوا مضطرين للعبور عبر سلسلة من القرى الشرقية لمحافظة رام الله والبيرة، مما أدى إلى تضاعف الكلفة المادية والزمنية، ضمن سياسة مقصودة لإفقار السكان.
وفي أقصى شرق قرية المغير، حيث يمتد السهل، يتدفق الأهالي لتفقد أراضيهم بعد انسحاب جيش الاحتلال صباح الأحد، حيث اقتلعت قواته والمستوطنون أكثر من 12 ألف شجرة مثمرة، مستخدمين آلياتهم لمحو أي أثر يدل على أن الأرض كانت مزروعة بأشجار يصل عمر بعضها إلى قرابة 100 عام.
وفي المغير، كغيرها من القرى الفلسطينية، يعرف الجميع بعضهم بعضا، والمصاب واحد كما يقول أهلها، والجميع يعرف تاريخ كل شجرة ويرصد عمرها منذ طفولته. وتقول سيدة تقارب الأربعين من عمرها -للجزيرة نت- وهي تقف بجانب شجرة صنوبر اقتلعتها جرافات الاحتلال 'من يوم صحيت على الدنيا وأنا بشوف هالشجرة'.
تحديد الأيام
يسجل الناس هنا أعمارهم بأعمار الأشجار التي اقتلعها الاحتلال، ويأخذون من الأحداث علامات فارقة لتحديد الأيام. إحدى الأمهات، على سبيل المثال، تؤرخ لخبر وصلها عن ابنها في السجن قبل 20 يوما، فتقول 'يوم استشهد حمدان أبو عليا، اتصل بي رفيق ابني بعد خروجه من السجن ليطمئن عليّ'.
ويحمل سكان منزل عبد اللطيف أبو عليا، الملاصق للسهل، ذات الطريقة في التأريخ، حيث كان استشهاد الشاب جهاد أبو عليا على سطح المنزل في نيسان/أبريل 2024 علامة فارقة في ذاكرة الجميع، أثناء دفاعه مع شباب القرية عن أراضيها خلال واحدة من أشرس هجمات المستوطنين منذ بداية الحرب.
وفي فناء المنزل، تتواصل زيارات نساء القرية لأهل البيت للاطمئنان عليهم بعد أيام مشحونة بالقلق والتأهب طوال ساعات العملية العسكرية. أما الرجال، فقد تجمهروا قرب المنزل، بين ما تبقى من أشجار الزيتون التي أمضوا سنوات طويلة في زراعتها والاعتناء بها، ليجدوا أرضهم أثرا بعد عين، في محاولة لاجتثاث وجودهم من القرية.
وبينما يقدم نجل أبو عليا القهوة للزوار من أهالي القرية، توقف مستوطن بسيارته على بعد عشرات الأمتار وحاول استفزاز الشبان بإشارات يدوية وتوعدهم بالقتل، مما دفعهم للتجمهر في نقطة واحدة لإشعاره بكثرتهم، قبل أن ينسحب من المكان.
وتزوج الشابان سامح وسناء أبو عليا قبل أقل من شهر، ورغم ذلك اضطرا لمكابدة هذه الأحداث في بداية حياتهما الزوجية، بدلا من أن تكون البداية أكثر هدوءا وسهولة.
لحظات مرعبة
تتذكر سناء أبو عليا اللحظات الأولى للعملية العسكرية حين استيقظت على اتصال يحذرها من محاصرة المستوطنين لمنزلها من كل الاتجاهات، وما هي إلا لحظات حتى اندفعت قوات الاحتلال رفقة المستوطنين لمهاجمة أراضي القرية واقتحام بيوتها، بدءا من بيتها الذي تسكن فيه مع عائلة زوجها.
واقتحم الجيش المنزل وفحص هويات المقيمين فيه، وعاث الجنود تخريبا، بينما كان الضابط يخاطب صاحب المنزل ساخرا ومحاولا استفزازه 'بيتك كبير وحلو' مع تهديدات صريحة من المستوطنين باستهداف البيت في هجمات لاحقة.
وبعد انسحاب الجيش لمواصلة تفتيش بقية منازل القرية، صعد أبو عليا مع والدي زوجة نجله إلى سطح المنزل لتفقد آثار الاقتحام، وما إن فعلوا ذلك حتى بدأ أحد المستوطنين بإطلاق النار باتجاههم فجأة، مما أدى إلى سقوط والدة الزوجة أرضا، وهي حامل في الشهر السابع، دون إمكانية استدعاء سيارة إسعاف للاطمئنان عليها وعلى جنينها.
وتقول سناء أبو عليا متأثرة 'عند أول دمعة نزلت ونحن نشاهد الجيش يقتلع الأشجار، قلنا إنا لله وإنا إليه راجعون، سنزرع بداله (غيره) لكن الواحد يعز عليه تعب السنين. وبالنسبة لي، يذهب كل مال الدنيا، ولا تنزل نقطة دم واحدة من الشباب'.
تعمد الترهيب
في بيت العائلة، يسكن شقيق عبد اللطيف أبو عليا، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة، وقد أصبح منذ معرفة الجيش بخصوصية حالته الهدف الأول في عمليات الاقتحام المتكررة للمنزل، حيث كان الجنود يتعمدون اقتحام غرفته دونا عن بقية المنزل، وممارسة التخويف بشتى الطرق.
وتقول سناء أبو عليا 'في إحدى ليالي العملية العسكرية، اقترب مستوطن بجرافته إلى مسافة قريبة جدا من المنزل، حتى شعرنا أنه على وشك هدم السور، وبدأ بتسليط الضوء على نوافذ المنزل وتصويرنا بشكل استفزازي'.
وتحدثت نساء القرية للجزيرة نت عن تعمد المستوطنين تصويرهن ونشر صورهن عبر قنوات التليغرام التابعة لهم، في استفزاز واضح لقيم مجتمع القرية، وإرهابا للرجال ودفعا بهم إلى أقصى حدود الاستفزاز، عدا ما تعرضت له النساء والأطفال من خوف وترهيب في ظل غياب الأزواج وصعوبة وصولهم إلى القرية في أولى ساعات الاقتحام، مما اضطر عددا كبيرا من الشباب للبقاء خارج القرية.
وقد خاطر آخرون بحياتهم للعودة سيرا على الأقدام عبر سلسلة الجبال المحيطة، لتلاحقهم قوات الجيش والمستوطنون، ويهرب البعض منهم بأعجوبة من الموت أثناء ركضه أعزل في الجبال.
وما بين المشاهد القادمة من غزة لأهوال الإبادة، وما بين تغول المستوطنين مدعومين بالجيش في الضفة الغربية، يجد الفلسطيني نفسه ممزقا بين آلام الاحتلال المتنوعة، لكن اللافت لدى أهالي المغير حساسيتهم المفرطة تجاه أي محاولة اعتداء، دون أن تنسيهم ما يجري في غزة.
وفي اللحظات الأخيرة قبل مغادرة القرية، ينتبه الجميع إلى هواتفهم، حيث يصلهم نداء مسجل من أحد الشباب يستدعي أهالي القرية للتجمع دفاعا عنها بعد رصد تجمع مستوطنين بمنطقة الخلايل، في ما يبدو استعدادا لهجوم محتمل.
الجزيرة
رام الله- أخبار اليوم - في انتظار قدوم مزيد من الركاب المتجهين من رام الله إلى قرية المغير، لا يسمع في سيارة الأجرة حديث سوى عن ما فعلته قوات الاحتلال خلال عمليتها العسكرية التي استمرت في القرية منذ صباح الخميس الماضي، حتى يوم أمس الأحد.
وتصف سيدتان جالستان في السيارة مخاوفهما لدى اقتحام الجيش لبيوتهن، وكيف تعرضتا لتفتيش مهين من المجندات الإسرائيليات المرافقات للقوة المقتحمة، وما حملت تلك الاقتحامات من مخاوف وقلق، في وقت شارك السائق أحد زملائه من نفس القرية خوفه على طفلته التي كانت مصممة على اللعب بدراجتها خلال ساعات الاقتحام، دون أن تفهم سبب منع والدها لها من الخروج.
وتقع 'المغير' على بعد 27 كيلومترا (شمال شرق محافظة رام الله والبيرة) ورغم أن هذه المسافة في أي مكان آخر تبدو قصيرة، فإنها في فلسطين تحتاج من السائق الالتفاف عبر طرق فرعية عديدة للوصول إلى القرية خلال ما يقارب ساعة ونصف الساعة، وكان يمكن لأي مسافة مشابهة أن تقطع في 25 دقيقة فقط بأماكن أخرى.
رحلة قاسية
ويضطر أهالي 'المغير' لمكابدة هذه الرحلة اليومية القاسية -بشكل يومي- للانتقال بين القرية ومدينة رام الله لأغراض العمل أو العلاج أو الاحتياجات اليومية الأخرى.
أما الذين يعملون في منطقة الغور، فقد منعهم جيش الاحتلال -منذ بداية حرب الإبادة في قطاع غزة– من استخدام الطريق الرئيسي الواقع شرقي القرية، والذي يربطها مباشرة بمنطقة الغور، ليصبحوا مضطرين للعبور عبر سلسلة من القرى الشرقية لمحافظة رام الله والبيرة، مما أدى إلى تضاعف الكلفة المادية والزمنية، ضمن سياسة مقصودة لإفقار السكان.
وفي أقصى شرق قرية المغير، حيث يمتد السهل، يتدفق الأهالي لتفقد أراضيهم بعد انسحاب جيش الاحتلال صباح الأحد، حيث اقتلعت قواته والمستوطنون أكثر من 12 ألف شجرة مثمرة، مستخدمين آلياتهم لمحو أي أثر يدل على أن الأرض كانت مزروعة بأشجار يصل عمر بعضها إلى قرابة 100 عام.
وفي المغير، كغيرها من القرى الفلسطينية، يعرف الجميع بعضهم بعضا، والمصاب واحد كما يقول أهلها، والجميع يعرف تاريخ كل شجرة ويرصد عمرها منذ طفولته. وتقول سيدة تقارب الأربعين من عمرها -للجزيرة نت- وهي تقف بجانب شجرة صنوبر اقتلعتها جرافات الاحتلال 'من يوم صحيت على الدنيا وأنا بشوف هالشجرة'.
تحديد الأيام
يسجل الناس هنا أعمارهم بأعمار الأشجار التي اقتلعها الاحتلال، ويأخذون من الأحداث علامات فارقة لتحديد الأيام. إحدى الأمهات، على سبيل المثال، تؤرخ لخبر وصلها عن ابنها في السجن قبل 20 يوما، فتقول 'يوم استشهد حمدان أبو عليا، اتصل بي رفيق ابني بعد خروجه من السجن ليطمئن عليّ'.
ويحمل سكان منزل عبد اللطيف أبو عليا، الملاصق للسهل، ذات الطريقة في التأريخ، حيث كان استشهاد الشاب جهاد أبو عليا على سطح المنزل في نيسان/أبريل 2024 علامة فارقة في ذاكرة الجميع، أثناء دفاعه مع شباب القرية عن أراضيها خلال واحدة من أشرس هجمات المستوطنين منذ بداية الحرب.
وفي فناء المنزل، تتواصل زيارات نساء القرية لأهل البيت للاطمئنان عليهم بعد أيام مشحونة بالقلق والتأهب طوال ساعات العملية العسكرية. أما الرجال، فقد تجمهروا قرب المنزل، بين ما تبقى من أشجار الزيتون التي أمضوا سنوات طويلة في زراعتها والاعتناء بها، ليجدوا أرضهم أثرا بعد عين، في محاولة لاجتثاث وجودهم من القرية.
وبينما يقدم نجل أبو عليا القهوة للزوار من أهالي القرية، توقف مستوطن بسيارته على بعد عشرات الأمتار وحاول استفزاز الشبان بإشارات يدوية وتوعدهم بالقتل، مما دفعهم للتجمهر في نقطة واحدة لإشعاره بكثرتهم، قبل أن ينسحب من المكان.
وتزوج الشابان سامح وسناء أبو عليا قبل أقل من شهر، ورغم ذلك اضطرا لمكابدة هذه الأحداث في بداية حياتهما الزوجية، بدلا من أن تكون البداية أكثر هدوءا وسهولة.
لحظات مرعبة
تتذكر سناء أبو عليا اللحظات الأولى للعملية العسكرية حين استيقظت على اتصال يحذرها من محاصرة المستوطنين لمنزلها من كل الاتجاهات، وما هي إلا لحظات حتى اندفعت قوات الاحتلال رفقة المستوطنين لمهاجمة أراضي القرية واقتحام بيوتها، بدءا من بيتها الذي تسكن فيه مع عائلة زوجها.
واقتحم الجيش المنزل وفحص هويات المقيمين فيه، وعاث الجنود تخريبا، بينما كان الضابط يخاطب صاحب المنزل ساخرا ومحاولا استفزازه 'بيتك كبير وحلو' مع تهديدات صريحة من المستوطنين باستهداف البيت في هجمات لاحقة.
وبعد انسحاب الجيش لمواصلة تفتيش بقية منازل القرية، صعد أبو عليا مع والدي زوجة نجله إلى سطح المنزل لتفقد آثار الاقتحام، وما إن فعلوا ذلك حتى بدأ أحد المستوطنين بإطلاق النار باتجاههم فجأة، مما أدى إلى سقوط والدة الزوجة أرضا، وهي حامل في الشهر السابع، دون إمكانية استدعاء سيارة إسعاف للاطمئنان عليها وعلى جنينها.
وتقول سناء أبو عليا متأثرة 'عند أول دمعة نزلت ونحن نشاهد الجيش يقتلع الأشجار، قلنا إنا لله وإنا إليه راجعون، سنزرع بداله (غيره) لكن الواحد يعز عليه تعب السنين. وبالنسبة لي، يذهب كل مال الدنيا، ولا تنزل نقطة دم واحدة من الشباب'.
تعمد الترهيب
في بيت العائلة، يسكن شقيق عبد اللطيف أبو عليا، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة، وقد أصبح منذ معرفة الجيش بخصوصية حالته الهدف الأول في عمليات الاقتحام المتكررة للمنزل، حيث كان الجنود يتعمدون اقتحام غرفته دونا عن بقية المنزل، وممارسة التخويف بشتى الطرق.
وتقول سناء أبو عليا 'في إحدى ليالي العملية العسكرية، اقترب مستوطن بجرافته إلى مسافة قريبة جدا من المنزل، حتى شعرنا أنه على وشك هدم السور، وبدأ بتسليط الضوء على نوافذ المنزل وتصويرنا بشكل استفزازي'.
وتحدثت نساء القرية للجزيرة نت عن تعمد المستوطنين تصويرهن ونشر صورهن عبر قنوات التليغرام التابعة لهم، في استفزاز واضح لقيم مجتمع القرية، وإرهابا للرجال ودفعا بهم إلى أقصى حدود الاستفزاز، عدا ما تعرضت له النساء والأطفال من خوف وترهيب في ظل غياب الأزواج وصعوبة وصولهم إلى القرية في أولى ساعات الاقتحام، مما اضطر عددا كبيرا من الشباب للبقاء خارج القرية.
وقد خاطر آخرون بحياتهم للعودة سيرا على الأقدام عبر سلسلة الجبال المحيطة، لتلاحقهم قوات الجيش والمستوطنون، ويهرب البعض منهم بأعجوبة من الموت أثناء ركضه أعزل في الجبال.
وما بين المشاهد القادمة من غزة لأهوال الإبادة، وما بين تغول المستوطنين مدعومين بالجيش في الضفة الغربية، يجد الفلسطيني نفسه ممزقا بين آلام الاحتلال المتنوعة، لكن اللافت لدى أهالي المغير حساسيتهم المفرطة تجاه أي محاولة اعتداء، دون أن تنسيهم ما يجري في غزة.
وفي اللحظات الأخيرة قبل مغادرة القرية، ينتبه الجميع إلى هواتفهم، حيث يصلهم نداء مسجل من أحد الشباب يستدعي أهالي القرية للتجمع دفاعا عنها بعد رصد تجمع مستوطنين بمنطقة الخلايل، في ما يبدو استعدادا لهجوم محتمل.
الجزيرة
التعليقات