أخبار اليوم - مرّ عام على اغتيال حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، الحدث الذي عده الكاتب الأميركي روبن رايت بمثابة زلزال في مسيرة حزب الله. وعلى إثر هذا الحدث، جرت مياه كثيرة في المشهد اللبناني، إذ يتركز النقاش العام في بيروت اليوم حول موقع الحزب داخل المعادلة اللبنانية، ومستقبله السياسي والعسكري.
وعلى رأس تلك النقاشات، تبرز قضية سلاح الحزب كعنوان أبرز، وسط دعوات لبنانية وغير لبنانية ترى أن غياب نصر الله يمثل فرصة لنزع سلاح الحزب، في مقابل موقف أنصار الحزب الذين يعتبرون السلاح ضمانة وجودية في مواجهة إسرائيل ولحماية المكون الشيعي وللحفاظ على ما تبقى من تأثير في لبنان.
ووسط هذا المشهد المركب وما يبدو ظاهريا من تراجع للحزب، يحذر الكاتب الإسرائيلي جاك نيريا بمعهد القدس للإستراتيجية والأمن من 'خطر اندلاع حرب أُخرى بين إسرائيل وحزب الله في أي لحظة'.
تأثير نصر الله
يشير نيكولاس بلانفورد في كتابه 'مقاتلو الرب: صراع حزب الله المستمر منذ ثلاثين عامًا ضد إسرائيل' إلى أن حسن نصر الله منذ توليه القيادة عام 1992، عمل على نقل حزب الله من صورة مجموعات مسلحة ناشئة تعمل وفق نمط حروب العصابات إلى تنظيم عسكري محترف.
كما بنى شبكة متنوعة من المؤسسات تحت لافتة مشروع 'مجتمع المقاومة'، والتي شملت مؤسسات تعليمية وثقافية وصحية وخدمية ومالية، تقدم خدمات مجتمعية بشكل مواز لمؤسسات الدولة اللبنانية، فضلا عن تحويل الحزب إلى مكون سياسي رئيسي في تشكيل الحكومات اللبنانية المتعاقبة.
وإلى جانب هذه البنية التنظيمية، شكّل نصر الله عنصرًا محوريًا في تثبيت حضور الحزب في المشهد اللبناني، حيث جمع بين أدوار متعددة، وفي مقدمتها قيادته المباشرة لصراع الحزب ضد إسرائيل أثناء احتلالها الشريط الحدودي في الجنوب اللبناني، وتقديمه لخطاب سياسي محفز يربط جمهور الحزب بقيادته وفقا لأوغسطس نورتون في كتابه 'تاريخ موجز لحزب الله'، وصولا إلى المشاركة في مواجهات خارج لبنان مثل الحرب بسوريا والعراق ما أعطى الحزب موقعًا إقليميًا داخل شبكة الجماعات المقربة من طهران، وجعل تأثيره يمتد بعد اغتيال الولايات المتحدة لقائد فيلق القدس قاسم سليماني مطلع عام 2020، ليصبح نصر الله هو جوهرة المحور والقائد الاستراتيجي الأبرز بين مكوناته.
الصدمة والفراغ بعد الاغتيال
شكّل اغتيال حسن نصر الله صدمة للحزب وجمهوره في الداخل اللبناني وخارجه، فغيابه المفاجئ يشبه انهيار عمود مركزي داخل البنية السياسية والتنظيمية للحزب.
وتمثلت الصدمة الأولى في تزامن الاغتيال مع اختراق أمني واسع مكّن إسرائيل من استهداف شخصية محاطة بإجراءات استثنائية من السرية والحماية، وذلك بعد تفجيرات أجهزة البيجر واللاسلكي التي أسفرت عن مقتل العشرات وإصابة نحو 3000 آخرين من كوادر الحزب، واغتيال قيادة قوة الرضوان خلال حضورهم اجتماعا بقيادة إبراهيم عقيل رئيس هيئة عمليات الحزب، ثم اغتيال الأمين العام التالي للحزب هاشم صفي الدين رفقة معاونيه، ما فتح الباب أمام أسئلة حول مستوى الجهوزية الاستخبارية للحزب ومدى قدرته على معالجة الاختراقات التقنية والبشرية التي أودت بقدراته.
لم تتوقف الصدمة عند الجانب الأمني، فقد بدا أن الحزب يواجه أزمة أعمق على المستوى التعبوي والجماهيري. فالجمهور الذي اعتاد سماع خطابات نصر الله في لحظات الحرب والسلم وجد نفسه في فراغ لم يسده مَن خلفوه في القيادة. فخطابات الأمين العام الجديد نعيم قاسم اتسمت بلغة أكثر تنظيمية وأقل صخبا وحماسة، ولذا لم تحقق الأثر العاطفي نفسه الذي منحه نصر الله لأنصاره.
هذا الفارق في الحضور انعكس في المزاج الشعبي داخل البيئة الشيعية، حيث ظهرت حالة من الترقب والقلق بدلا من الحماسة والتأييد التي رافقت عادة أي تصعيد عسكري أو سياسي يُعلنه الحزب.
وقد شمل الفراغ أيضا القدرة على إدارة التوازن الدقيق بين الخطاب التعبوي وبين البراغماتية السياسية. فنصر الله امتلك تأثيرا لافتا سمح له بتمرير قرارات صعبة -مثل الدخول في الحرب بسوريا أو إبرام تفاهمات سياسية داخل لبنان مع التيار الوطني الحر – بزعامة الجنرال ميشال عون– دون أن يتعرض الحزب لاهتزازات داخلية كبرى.
وفي المقابل، يشير عدد من المحللين إلى أن القيادة الحالية للحزب تفتقر إلى الحضور المعنوي الطاغي والتأثير السياسي الذي يمنح أي قرار تتخذه غطاء كاملا لدى الحاضنة الشعبية.
ورغم أن حزب الله أظهر على المستوى التنظيمي قدرة على تجاوز صدمة فقدان أمينه العام وصفوفه القيادية بسرعة نسبية، حيث سمح النظام الداخلي المرتبط بالتكليف الشرعي وبولاية الفقيه بانتقال القيادة من دون نزاعات علنية، ما ميّزه عن تجارب تنظيمات أخرى عانت انقسامات بعد فقدان قادتها.
إلا أن هذا الانتقال السلس لم يُخفِ حقيقة أن الحزب بات يفتقد إلى 'القائد الجامع' الذي يوحّد بين مؤسساته وبين جمهوره، ويجسّد في الوقت نفسه صورة الحزب القوي أمام خصومه، ما دفع على سبيل المثال الزعيم الدرزي وليد جنبلاط للتصريح بأن 'على جميع القادة السياسيين والعسكريين في حزب الله أن يعترفوا بأن الزمن تغيّر، وأن عليهم الانتقال إلى العمل السياسي والتخلي عن العمل العسكري'.
وبعد مرور عام على غياب نصر الله، لا يزال الحزب يواجه تبعات هذه الصدمة. فالمؤسسات الحزبية تواصل عملها، والهيكل التنظيمي يعاد ترميمه، لكن الفراغ لم يُملأ بعد. ويكمن التحدي الأبرز في مدى نجاح الحزب بإعادة إنتاج صورة قيادية قادرة على استعادة ثقة الجمهور ومنحه الشعور بأن المشروع لم ينكسر. وفي غياب شخصية تملك كاريزما بحجم نصر الله، يظل هذا التحدي مفتوحا على احتمالات متعددة ستحدد ملامح المرحلة المقبلة.
انهيار قواعد الاشتباك
شهد العام الأول الذي تلا اغتيال حسن نصر الله تحولات دراماتيكية في طبيعة الاشتباك بين حزب الله وإسرائيل. فالمعادلة التي حكمت المواجهة لعقود -والمبنية على الردع المتبادل وتثبيت قواعد اشتباك واضحة- تعرضت لانهيار متدرج، إلى أن بدت معركة 'البيجر' في سبتمبر/أيلول 2024 نقطة فاصلة في مسار المواجهة بين الطرفين.
وصولا إلى تشديد رئيس أركان جيش الاحتلال، الجنرال إيال زامير، في عام 2025 أثناء جولة ميدانية له في المناطق التي تحتلها إسرائيل في الجنوب اللبناني، بأن 'وظيفتنا هي تشكيل أمننا القومي بالطريقة التي نراها مناسبة. لن نعود إلى الوراء. نعمل وفق مفهوم إستراتيجي جديد، ولن نسمح للتهديدات بالنمو'، وبالتالي أصبح الاحتلال يضرب وقتما أراد وفي المكان الذي يريد دون رد من حزب الله.
منذ حرب 2006، حافظ الطرفان على نمط من الردع تحت سقف الحرب الشاملة، حيث أُديرت المواجهات ضمن ضربات محدودة قابلة للاحتواء، مع تجنب الانزلاق إلى مواجهة شاملة.
ولعب نصر الله دورا محوريا في ترسيخ هذه المعادلة، مستخدِما خطابا متكررا حول 'قواعد اللعبة' التي تمنع إسرائيل من استباحة لبنان، وتتيح في الوقت نفسه للحزب تجنب حرب مدمرة، كما رسخ معادلة 'تل أبيب مقابل بيروت'، بل ووضع معادلة مفادها أن استهداف إسرائيل لعناصر الحزب في سوريا سيؤدي إلى رد من الحزب في لبنان، وهو ما نفذه الحزب عبر الهجوم على قافلة عسكرية إسرائيلية قرب مزارع شبعا ما أدى الى مقتل ضابط وجندي إسرائيليين وجرح آخرين في عام 2015 ردا على اغتيال جيش الاحتلال لجهاد عماد مغنية رفقة عدد من عناصر الحزب في سوريا.
لكن الضربات التي سبقت ورافقت تفجيرات أجهزة البيجر غيّرت هذه المعادلة جوهريا. فإسرائيل كثّفت من استخدام الضربات الاستباقية، واستهدفت شخصيات قيادية، مثل نائب رئيس حركة حماس صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت في يناير/كانون الثاني 2024، ثم اغتالت القائد العسكري لحزب الله فؤاد شكر ضمن عمل منهجي متدرج لكسر الخطوط الحمراء السابق فرضها، والخروج من معادلة الردع السابقة.
وفي المقابل حاول الحزب التمسك بإستراتيجية 'الحرب بالنقاط'، أي الرد على الضربات بعمليات محسوبة لا تؤدي إلى انفجار شامل بهدف تجنب جر لبنان إلى حرب مدمرة، وهو نهج رأت فيه إسرائيل فرصة لتوسيع هامش المناورة بما يكفي لتغيير قواعد اللعبة لمصلحتها، وصولا إلى تحديدها لحظة التصعيد الكبير بحلول سبتمبر/أيلول 2024، والذي وجهت خلاله ضربات متتالية مدمرة في وقت قصير لم يتجاوز بضعة أيام، وبالتالي لم يتمكن الحزب من إحباطها أو تجاوز تداعياتها.
لقد رد حزب الله قبل وقف إطلاق النار في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 على موجة الاغتيالات والضربات التي تلقاها عبر هجمات نوعية استهدفت مواقع حساسة في العمق الإسرائيلي، وهو ما ظهر في هجوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 2024 الذي استهدف قاعدة تابعة للواء غولاني قرب بنيامينا؛ حيث أصابت إحدى الطائرات المسيّرة مطعما داخل القاعدة ما تسبب بمقتل 4 جنود إسرائيليين وإصابة نحو 70 آخرين، وبعدها بأقل من أسبوع وصلت طائرة مسيّرة إلى مقر إقامة رئيس الوزراء الإسرائيلي وضربت غرفة نومه في قيساريا، في هجوم هو الأول من نوعه أثناء الحروب مع الاحتلال، الذي يستهدف رئيس الوزراء الإسرائيلي في عقر داره.
لقد كان البُعد النفسي والمعنوي لتلك العمليات مقصودا، حيث نُفذت بشكل يعيد للحاضنة الشعبية شعور القدرة، ويضغط على الخصم بإظهار أن عمقه بات مكشوفا، وأن منظومات الاعتراض الإسرائيلية لا توفر مستوى الحماية المطلوبة، وأن الحزب رغم ما مُني به من خسائر ما زالت لديه القدرة على إيلام الاحتلال، وأن لديه من المعلومات الاستخبارية والقدرات العسكرية ما يكفي لتوجيه ضربات نوعية ومؤلمة.
سلاح الحزب والداخل اللبناني
لقد ارتبط قبول الحزب بوقف إطلاق النار بحسابات تتعلق بكلفة الاستمرار في الحرب. فقد أظهر الميدان أن الحزب ما زال قادرا على إطلاق الصواريخ والمسيرات وتنفيذ عمليات نوعية ومنع جيش الاحتلال من تحقيق إنجاز بري حاسم، لكنه تكبّد خسائر بشرية ومادية ملموسة، فضلا عن تعرض أغلب قرى الشريط الحدودي للدمار، وتهجير سكانها.
ومع تصاعد تأثير الحرب على بنية الحزب التنظيمية وحاضنته المجتمعية بدت كلفة المواجهة المفتوحة أكبر من قدرته على التحمل، خصوصا في ظل غياب نصر الله وما مثَّله من قدرة على إدارة الصراع وتبرير تضحياته. فقد قضت إسرائيل على أغلب قادة الصفين الأول والثاني من الحزب، ودمرت الكثير من قواعد ومخازن عتاده، وقتلت نحو 5000 آلاف من عناصره وأصابت ضِعْفهم كما نقلت وكالة رويترز على لسان الأمين العام للحزب نعيم قاسم.
ولذا تشدد أورنا مزراحي بمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي على 'أن حزب الله يرغب في خلق هدوء ظاهري لكي يتمكن من التعافي وإعادة بناء قدراته'. ولكن وقف النار لم يفتح باب الاستقرار والهدوء. فإسرائيل واصلت انتهاكاتها اليومية عبر الخروقات الجوية والضربات داخل الأراضي اللبنانية وصولا إلى استهداف الضاحية الجنوبية والبقاع، لتُبقي الحزب في حالة ضغط دائم، ولعرقلة إعادة ترميم بنيته العسكرية وفق ما ذكرته مزراحي.
هذا الواقع جعل وقف إطلاق النار أشبه بهدنة مقيّدة أكثر من كونه نهاية لجولة الحرب، وأكد أن الحزب لم يعد يمتلك القدرة السابقة على فرض خطوط حمراء، وكشف عن خلل في ميزان الردع الذي طالما عُدَّ إنجازا رئيسيا في سجل قيادة نصر الله، وصار الحزب يواجه معادلة استنزاف مستمرة، ووجد نفسه أمام خيارين أحلاهما مُر: إما تقبُّل الضربات الإسرائيلية شبه اليومية، التي سجلت نحو 4500 خرق لاتفاق وقف إطلاق النار بحسب الأمين العام الحالي للحزب نعيم قاسم، وإما الانجرار إلى تصعيد كبير يهدد ما تبقَّى من مقدرات الحزب وكوادره.
كذلك عقب اغتيال حسن نصر الله عاد النقاش محليا حول سلاح حزب الله إلى الواجهة بقوة أكبر. فتراجع الهيبة الرمزية التي فرضها حضور الأمين العام السابق جعل المسألة أكثر انكشافا، وفتح الباب أمام قوى سياسية لبنانية لإعادة طرح مطلب نزع سلاح الحزب.
لكن النقاش هذه المرة جاء في ظل واقع جديد رسمته الحرب الأخيرة ونتائجها الميدانية والسياسية، ما دفع الحزب للاحتماء بمظلة حركة أمل وقائدها رئيس مجلس النواب نبيه بري، ما جعل موقف الحزب يأتي تحت مظلة موقف الثنائي الشيعي دون انفراد.
وفي موازاة ذلك، استثمرت الولايات المتحدة وبعض العواصم الأوروبية التهدئة لإعادة فتح ملف القرار 1559 والقرارات الأممية الأخرى، داعية إلى نزع سلاح الحزب. وقد ترددت هذه الدعوات داخل بيروت نفسها، مع انتشار خطاب يُحمِّل الحزب مسؤولية الدمار والخسائر، ما منح الضغوط الخارجية صدى داخليا إضافيا.
وهكذا فتح وقف إطلاق النار معركة من نوع آخر تتضمن فرض ضغوط أمنية متواصلة على الأرض، وضغوط سياسية ودبلوماسية تهدف إلى إعادة صياغة موقع الحزب داخل لبنان، وربط ضخ الاستثمارات الأجنبية والعربية وملف إعادة الإعمار بنزع سلاح حزب الله.
الأبعاد الإقليمية والمحلية
وفي مواجهة مطالب الحكومة اللبنانية والضغوط الأميركية بنزع سلاح الحزب، حاول الحزب التعامل مع الضغوط عبر مستويين: التمسك بخطابه التقليدي حول أهمية السلاح بوصفه ضمانة وطنية ضد إسرائيل مع التذرع بضرورة الاحتراز من التطورات الإقليمية بعد أحداث الساحل والسويداء في سوريا، وفي الوقت نفسه حاول إظهار انفتاح تجاه إجراء نقاش يربط نزع السلاح ببناء إستراتيجية دفاعية شاملة للبنان، مع التشديد على أن الجيش اللبناني لا يمتلك القدرات اللازمة لمواجهة إسرائيل منفردا، وبذلك سعى الحزب لتأجيل حسم ملف سلاحه.
وحين صرحت الحكومة بتبنّيها هدف نزع السلاح قبل نهاية العام الجاري، صعّد حزب الله خطابه، وصولا إلى تلويح أمينه العام نعيم قاسم باندلاع حرب أهلية في حال المُضي بهذا المسار، وهو ما دفع رئيس الجمهورية والجيش اللبناني إلى نزع فتيل الأزمة، ولو مؤقتا، عبر تبنّي خطة لنزع سلاح حزب الله عبر 5 مراحل دون مهل زمنية معلنة، مما دفع المبعوث الأميركي إلى لبنان توم براك للحديث علنا عن أن الحكومة اللبنانية لا تقدم سوى الكلام، وأنها تخاف من اندلاع حرب أهلية، مع تأكيده أن إسرائيل ستعالج ملف حزب الله بنفسها في حال عجْز بيروت عن ذلك.
لقد ترافق غياب حسن نصر الله مع تحولات عميقة في المحيط الإقليمي، إذ سقط نظام الأسد الذي وفّر للحزب عمقا إستراتيجيا ولوجستيا، وتعرّضت إيران نفسها لضربات إسرائيلية أميركية مباشرة وضغوط قلّصت من قدرتها على حماية حلفائها وتزويدهم بالدعم، وبالتالي فقد حزب الله جزءا كبيرا من الغطاء الإقليمي الذي وفّرته له طهران ودمشق.
وفي هذا السياق جاءت مبادرة نائب الأمين العام نعيم قاسم تجاه الرياض لفتح صفحة جديدة في علاقاتهما، وذلك في ظل حاجة الحزب إلى فتح قنوات سياسية تقاوم جهود عزله، وتستثمر الانزعاج الإقليمي من الغارات الإسرائيلية على الدوحة لتوجيه سهام النقد وبوصلة العداء تجاه إسرائيل باعتبارها تُمثِّل خطرا مشتركا يهدد الجميع بالمنطقة.
وفي المحصلة، بدا أن غياب حسن نصر الله قلَّل من قدرة قيادة الحزب على إقناع الداخل والخارج بشرعية حيازة السلاح، بينما تؤدي الضغوط الاقتصادية والسياسية إلى نتيجة مفادها أنه من الصعب إبقاء هذا الملف مجمّدا إلى ما لا نهاية، مما يفتح الباب نحو المجهول.
إن مرور عام على اغتيال نصر الله لم يُنهِ تجربة حزب الله، لكنه أنهى مرحلة بكاملها في تاريخ الحزب الذي يقف اليوم أمام مفترق طرق. فوقف إطلاق النار كشف أن قدرته على فرض معادلات الردع لم تعد كما كانت، فيما جعلت الضغوط الأميركية والإقليمية والمحلية ملف نزع السلاح مسألة أكثر إلحاحا.
وفي المقابل من خلال خيار الصمود، وترميم الخسائر، والانفتاح الحَذِر على بيئات جديدة، يسعى الحزب إلى إعادة التموضع بما يتيح له الاستمرار بوصفه لاعبا فاعلا في لبنان، ولو بثمن التراجع عن صورته السابقة بوصفه قوة عابرة للحدود يقودها زعيم ذو كاريزما استثنائية، لكن هذه المعادلة يبدو أن خصوم الحزب يدركونها جيدا، ويعملون على الإجهاز عليه لإنهاء تجربته نهائيا، في حين يعول الحزب على ما تبقّى ما لديه من قوة، وما لديه من زمن يستطيع خلاله ترميم ما خسر، ومراكمة قوة يلوّح بها للقريب قبل البعيد في حال تصاعدت وتيرة محاولات نزع السلاح من الحزب باتجاه صيغ أكثر عنفا، وبين هذه وتلك يبقى الترقب سيد المشهد.
الجزيرة + مواقع إلكترونية
أخبار اليوم - مرّ عام على اغتيال حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، الحدث الذي عده الكاتب الأميركي روبن رايت بمثابة زلزال في مسيرة حزب الله. وعلى إثر هذا الحدث، جرت مياه كثيرة في المشهد اللبناني، إذ يتركز النقاش العام في بيروت اليوم حول موقع الحزب داخل المعادلة اللبنانية، ومستقبله السياسي والعسكري.
وعلى رأس تلك النقاشات، تبرز قضية سلاح الحزب كعنوان أبرز، وسط دعوات لبنانية وغير لبنانية ترى أن غياب نصر الله يمثل فرصة لنزع سلاح الحزب، في مقابل موقف أنصار الحزب الذين يعتبرون السلاح ضمانة وجودية في مواجهة إسرائيل ولحماية المكون الشيعي وللحفاظ على ما تبقى من تأثير في لبنان.
ووسط هذا المشهد المركب وما يبدو ظاهريا من تراجع للحزب، يحذر الكاتب الإسرائيلي جاك نيريا بمعهد القدس للإستراتيجية والأمن من 'خطر اندلاع حرب أُخرى بين إسرائيل وحزب الله في أي لحظة'.
تأثير نصر الله
يشير نيكولاس بلانفورد في كتابه 'مقاتلو الرب: صراع حزب الله المستمر منذ ثلاثين عامًا ضد إسرائيل' إلى أن حسن نصر الله منذ توليه القيادة عام 1992، عمل على نقل حزب الله من صورة مجموعات مسلحة ناشئة تعمل وفق نمط حروب العصابات إلى تنظيم عسكري محترف.
كما بنى شبكة متنوعة من المؤسسات تحت لافتة مشروع 'مجتمع المقاومة'، والتي شملت مؤسسات تعليمية وثقافية وصحية وخدمية ومالية، تقدم خدمات مجتمعية بشكل مواز لمؤسسات الدولة اللبنانية، فضلا عن تحويل الحزب إلى مكون سياسي رئيسي في تشكيل الحكومات اللبنانية المتعاقبة.
وإلى جانب هذه البنية التنظيمية، شكّل نصر الله عنصرًا محوريًا في تثبيت حضور الحزب في المشهد اللبناني، حيث جمع بين أدوار متعددة، وفي مقدمتها قيادته المباشرة لصراع الحزب ضد إسرائيل أثناء احتلالها الشريط الحدودي في الجنوب اللبناني، وتقديمه لخطاب سياسي محفز يربط جمهور الحزب بقيادته وفقا لأوغسطس نورتون في كتابه 'تاريخ موجز لحزب الله'، وصولا إلى المشاركة في مواجهات خارج لبنان مثل الحرب بسوريا والعراق ما أعطى الحزب موقعًا إقليميًا داخل شبكة الجماعات المقربة من طهران، وجعل تأثيره يمتد بعد اغتيال الولايات المتحدة لقائد فيلق القدس قاسم سليماني مطلع عام 2020، ليصبح نصر الله هو جوهرة المحور والقائد الاستراتيجي الأبرز بين مكوناته.
الصدمة والفراغ بعد الاغتيال
شكّل اغتيال حسن نصر الله صدمة للحزب وجمهوره في الداخل اللبناني وخارجه، فغيابه المفاجئ يشبه انهيار عمود مركزي داخل البنية السياسية والتنظيمية للحزب.
وتمثلت الصدمة الأولى في تزامن الاغتيال مع اختراق أمني واسع مكّن إسرائيل من استهداف شخصية محاطة بإجراءات استثنائية من السرية والحماية، وذلك بعد تفجيرات أجهزة البيجر واللاسلكي التي أسفرت عن مقتل العشرات وإصابة نحو 3000 آخرين من كوادر الحزب، واغتيال قيادة قوة الرضوان خلال حضورهم اجتماعا بقيادة إبراهيم عقيل رئيس هيئة عمليات الحزب، ثم اغتيال الأمين العام التالي للحزب هاشم صفي الدين رفقة معاونيه، ما فتح الباب أمام أسئلة حول مستوى الجهوزية الاستخبارية للحزب ومدى قدرته على معالجة الاختراقات التقنية والبشرية التي أودت بقدراته.
لم تتوقف الصدمة عند الجانب الأمني، فقد بدا أن الحزب يواجه أزمة أعمق على المستوى التعبوي والجماهيري. فالجمهور الذي اعتاد سماع خطابات نصر الله في لحظات الحرب والسلم وجد نفسه في فراغ لم يسده مَن خلفوه في القيادة. فخطابات الأمين العام الجديد نعيم قاسم اتسمت بلغة أكثر تنظيمية وأقل صخبا وحماسة، ولذا لم تحقق الأثر العاطفي نفسه الذي منحه نصر الله لأنصاره.
هذا الفارق في الحضور انعكس في المزاج الشعبي داخل البيئة الشيعية، حيث ظهرت حالة من الترقب والقلق بدلا من الحماسة والتأييد التي رافقت عادة أي تصعيد عسكري أو سياسي يُعلنه الحزب.
وقد شمل الفراغ أيضا القدرة على إدارة التوازن الدقيق بين الخطاب التعبوي وبين البراغماتية السياسية. فنصر الله امتلك تأثيرا لافتا سمح له بتمرير قرارات صعبة -مثل الدخول في الحرب بسوريا أو إبرام تفاهمات سياسية داخل لبنان مع التيار الوطني الحر – بزعامة الجنرال ميشال عون– دون أن يتعرض الحزب لاهتزازات داخلية كبرى.
وفي المقابل، يشير عدد من المحللين إلى أن القيادة الحالية للحزب تفتقر إلى الحضور المعنوي الطاغي والتأثير السياسي الذي يمنح أي قرار تتخذه غطاء كاملا لدى الحاضنة الشعبية.
ورغم أن حزب الله أظهر على المستوى التنظيمي قدرة على تجاوز صدمة فقدان أمينه العام وصفوفه القيادية بسرعة نسبية، حيث سمح النظام الداخلي المرتبط بالتكليف الشرعي وبولاية الفقيه بانتقال القيادة من دون نزاعات علنية، ما ميّزه عن تجارب تنظيمات أخرى عانت انقسامات بعد فقدان قادتها.
إلا أن هذا الانتقال السلس لم يُخفِ حقيقة أن الحزب بات يفتقد إلى 'القائد الجامع' الذي يوحّد بين مؤسساته وبين جمهوره، ويجسّد في الوقت نفسه صورة الحزب القوي أمام خصومه، ما دفع على سبيل المثال الزعيم الدرزي وليد جنبلاط للتصريح بأن 'على جميع القادة السياسيين والعسكريين في حزب الله أن يعترفوا بأن الزمن تغيّر، وأن عليهم الانتقال إلى العمل السياسي والتخلي عن العمل العسكري'.
وبعد مرور عام على غياب نصر الله، لا يزال الحزب يواجه تبعات هذه الصدمة. فالمؤسسات الحزبية تواصل عملها، والهيكل التنظيمي يعاد ترميمه، لكن الفراغ لم يُملأ بعد. ويكمن التحدي الأبرز في مدى نجاح الحزب بإعادة إنتاج صورة قيادية قادرة على استعادة ثقة الجمهور ومنحه الشعور بأن المشروع لم ينكسر. وفي غياب شخصية تملك كاريزما بحجم نصر الله، يظل هذا التحدي مفتوحا على احتمالات متعددة ستحدد ملامح المرحلة المقبلة.
انهيار قواعد الاشتباك
شهد العام الأول الذي تلا اغتيال حسن نصر الله تحولات دراماتيكية في طبيعة الاشتباك بين حزب الله وإسرائيل. فالمعادلة التي حكمت المواجهة لعقود -والمبنية على الردع المتبادل وتثبيت قواعد اشتباك واضحة- تعرضت لانهيار متدرج، إلى أن بدت معركة 'البيجر' في سبتمبر/أيلول 2024 نقطة فاصلة في مسار المواجهة بين الطرفين.
وصولا إلى تشديد رئيس أركان جيش الاحتلال، الجنرال إيال زامير، في عام 2025 أثناء جولة ميدانية له في المناطق التي تحتلها إسرائيل في الجنوب اللبناني، بأن 'وظيفتنا هي تشكيل أمننا القومي بالطريقة التي نراها مناسبة. لن نعود إلى الوراء. نعمل وفق مفهوم إستراتيجي جديد، ولن نسمح للتهديدات بالنمو'، وبالتالي أصبح الاحتلال يضرب وقتما أراد وفي المكان الذي يريد دون رد من حزب الله.
منذ حرب 2006، حافظ الطرفان على نمط من الردع تحت سقف الحرب الشاملة، حيث أُديرت المواجهات ضمن ضربات محدودة قابلة للاحتواء، مع تجنب الانزلاق إلى مواجهة شاملة.
ولعب نصر الله دورا محوريا في ترسيخ هذه المعادلة، مستخدِما خطابا متكررا حول 'قواعد اللعبة' التي تمنع إسرائيل من استباحة لبنان، وتتيح في الوقت نفسه للحزب تجنب حرب مدمرة، كما رسخ معادلة 'تل أبيب مقابل بيروت'، بل ووضع معادلة مفادها أن استهداف إسرائيل لعناصر الحزب في سوريا سيؤدي إلى رد من الحزب في لبنان، وهو ما نفذه الحزب عبر الهجوم على قافلة عسكرية إسرائيلية قرب مزارع شبعا ما أدى الى مقتل ضابط وجندي إسرائيليين وجرح آخرين في عام 2015 ردا على اغتيال جيش الاحتلال لجهاد عماد مغنية رفقة عدد من عناصر الحزب في سوريا.
لكن الضربات التي سبقت ورافقت تفجيرات أجهزة البيجر غيّرت هذه المعادلة جوهريا. فإسرائيل كثّفت من استخدام الضربات الاستباقية، واستهدفت شخصيات قيادية، مثل نائب رئيس حركة حماس صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت في يناير/كانون الثاني 2024، ثم اغتالت القائد العسكري لحزب الله فؤاد شكر ضمن عمل منهجي متدرج لكسر الخطوط الحمراء السابق فرضها، والخروج من معادلة الردع السابقة.
وفي المقابل حاول الحزب التمسك بإستراتيجية 'الحرب بالنقاط'، أي الرد على الضربات بعمليات محسوبة لا تؤدي إلى انفجار شامل بهدف تجنب جر لبنان إلى حرب مدمرة، وهو نهج رأت فيه إسرائيل فرصة لتوسيع هامش المناورة بما يكفي لتغيير قواعد اللعبة لمصلحتها، وصولا إلى تحديدها لحظة التصعيد الكبير بحلول سبتمبر/أيلول 2024، والذي وجهت خلاله ضربات متتالية مدمرة في وقت قصير لم يتجاوز بضعة أيام، وبالتالي لم يتمكن الحزب من إحباطها أو تجاوز تداعياتها.
لقد رد حزب الله قبل وقف إطلاق النار في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 على موجة الاغتيالات والضربات التي تلقاها عبر هجمات نوعية استهدفت مواقع حساسة في العمق الإسرائيلي، وهو ما ظهر في هجوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 2024 الذي استهدف قاعدة تابعة للواء غولاني قرب بنيامينا؛ حيث أصابت إحدى الطائرات المسيّرة مطعما داخل القاعدة ما تسبب بمقتل 4 جنود إسرائيليين وإصابة نحو 70 آخرين، وبعدها بأقل من أسبوع وصلت طائرة مسيّرة إلى مقر إقامة رئيس الوزراء الإسرائيلي وضربت غرفة نومه في قيساريا، في هجوم هو الأول من نوعه أثناء الحروب مع الاحتلال، الذي يستهدف رئيس الوزراء الإسرائيلي في عقر داره.
لقد كان البُعد النفسي والمعنوي لتلك العمليات مقصودا، حيث نُفذت بشكل يعيد للحاضنة الشعبية شعور القدرة، ويضغط على الخصم بإظهار أن عمقه بات مكشوفا، وأن منظومات الاعتراض الإسرائيلية لا توفر مستوى الحماية المطلوبة، وأن الحزب رغم ما مُني به من خسائر ما زالت لديه القدرة على إيلام الاحتلال، وأن لديه من المعلومات الاستخبارية والقدرات العسكرية ما يكفي لتوجيه ضربات نوعية ومؤلمة.
سلاح الحزب والداخل اللبناني
لقد ارتبط قبول الحزب بوقف إطلاق النار بحسابات تتعلق بكلفة الاستمرار في الحرب. فقد أظهر الميدان أن الحزب ما زال قادرا على إطلاق الصواريخ والمسيرات وتنفيذ عمليات نوعية ومنع جيش الاحتلال من تحقيق إنجاز بري حاسم، لكنه تكبّد خسائر بشرية ومادية ملموسة، فضلا عن تعرض أغلب قرى الشريط الحدودي للدمار، وتهجير سكانها.
ومع تصاعد تأثير الحرب على بنية الحزب التنظيمية وحاضنته المجتمعية بدت كلفة المواجهة المفتوحة أكبر من قدرته على التحمل، خصوصا في ظل غياب نصر الله وما مثَّله من قدرة على إدارة الصراع وتبرير تضحياته. فقد قضت إسرائيل على أغلب قادة الصفين الأول والثاني من الحزب، ودمرت الكثير من قواعد ومخازن عتاده، وقتلت نحو 5000 آلاف من عناصره وأصابت ضِعْفهم كما نقلت وكالة رويترز على لسان الأمين العام للحزب نعيم قاسم.
ولذا تشدد أورنا مزراحي بمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي على 'أن حزب الله يرغب في خلق هدوء ظاهري لكي يتمكن من التعافي وإعادة بناء قدراته'. ولكن وقف النار لم يفتح باب الاستقرار والهدوء. فإسرائيل واصلت انتهاكاتها اليومية عبر الخروقات الجوية والضربات داخل الأراضي اللبنانية وصولا إلى استهداف الضاحية الجنوبية والبقاع، لتُبقي الحزب في حالة ضغط دائم، ولعرقلة إعادة ترميم بنيته العسكرية وفق ما ذكرته مزراحي.
هذا الواقع جعل وقف إطلاق النار أشبه بهدنة مقيّدة أكثر من كونه نهاية لجولة الحرب، وأكد أن الحزب لم يعد يمتلك القدرة السابقة على فرض خطوط حمراء، وكشف عن خلل في ميزان الردع الذي طالما عُدَّ إنجازا رئيسيا في سجل قيادة نصر الله، وصار الحزب يواجه معادلة استنزاف مستمرة، ووجد نفسه أمام خيارين أحلاهما مُر: إما تقبُّل الضربات الإسرائيلية شبه اليومية، التي سجلت نحو 4500 خرق لاتفاق وقف إطلاق النار بحسب الأمين العام الحالي للحزب نعيم قاسم، وإما الانجرار إلى تصعيد كبير يهدد ما تبقَّى من مقدرات الحزب وكوادره.
كذلك عقب اغتيال حسن نصر الله عاد النقاش محليا حول سلاح حزب الله إلى الواجهة بقوة أكبر. فتراجع الهيبة الرمزية التي فرضها حضور الأمين العام السابق جعل المسألة أكثر انكشافا، وفتح الباب أمام قوى سياسية لبنانية لإعادة طرح مطلب نزع سلاح الحزب.
لكن النقاش هذه المرة جاء في ظل واقع جديد رسمته الحرب الأخيرة ونتائجها الميدانية والسياسية، ما دفع الحزب للاحتماء بمظلة حركة أمل وقائدها رئيس مجلس النواب نبيه بري، ما جعل موقف الحزب يأتي تحت مظلة موقف الثنائي الشيعي دون انفراد.
وفي موازاة ذلك، استثمرت الولايات المتحدة وبعض العواصم الأوروبية التهدئة لإعادة فتح ملف القرار 1559 والقرارات الأممية الأخرى، داعية إلى نزع سلاح الحزب. وقد ترددت هذه الدعوات داخل بيروت نفسها، مع انتشار خطاب يُحمِّل الحزب مسؤولية الدمار والخسائر، ما منح الضغوط الخارجية صدى داخليا إضافيا.
وهكذا فتح وقف إطلاق النار معركة من نوع آخر تتضمن فرض ضغوط أمنية متواصلة على الأرض، وضغوط سياسية ودبلوماسية تهدف إلى إعادة صياغة موقع الحزب داخل لبنان، وربط ضخ الاستثمارات الأجنبية والعربية وملف إعادة الإعمار بنزع سلاح حزب الله.
الأبعاد الإقليمية والمحلية
وفي مواجهة مطالب الحكومة اللبنانية والضغوط الأميركية بنزع سلاح الحزب، حاول الحزب التعامل مع الضغوط عبر مستويين: التمسك بخطابه التقليدي حول أهمية السلاح بوصفه ضمانة وطنية ضد إسرائيل مع التذرع بضرورة الاحتراز من التطورات الإقليمية بعد أحداث الساحل والسويداء في سوريا، وفي الوقت نفسه حاول إظهار انفتاح تجاه إجراء نقاش يربط نزع السلاح ببناء إستراتيجية دفاعية شاملة للبنان، مع التشديد على أن الجيش اللبناني لا يمتلك القدرات اللازمة لمواجهة إسرائيل منفردا، وبذلك سعى الحزب لتأجيل حسم ملف سلاحه.
وحين صرحت الحكومة بتبنّيها هدف نزع السلاح قبل نهاية العام الجاري، صعّد حزب الله خطابه، وصولا إلى تلويح أمينه العام نعيم قاسم باندلاع حرب أهلية في حال المُضي بهذا المسار، وهو ما دفع رئيس الجمهورية والجيش اللبناني إلى نزع فتيل الأزمة، ولو مؤقتا، عبر تبنّي خطة لنزع سلاح حزب الله عبر 5 مراحل دون مهل زمنية معلنة، مما دفع المبعوث الأميركي إلى لبنان توم براك للحديث علنا عن أن الحكومة اللبنانية لا تقدم سوى الكلام، وأنها تخاف من اندلاع حرب أهلية، مع تأكيده أن إسرائيل ستعالج ملف حزب الله بنفسها في حال عجْز بيروت عن ذلك.
لقد ترافق غياب حسن نصر الله مع تحولات عميقة في المحيط الإقليمي، إذ سقط نظام الأسد الذي وفّر للحزب عمقا إستراتيجيا ولوجستيا، وتعرّضت إيران نفسها لضربات إسرائيلية أميركية مباشرة وضغوط قلّصت من قدرتها على حماية حلفائها وتزويدهم بالدعم، وبالتالي فقد حزب الله جزءا كبيرا من الغطاء الإقليمي الذي وفّرته له طهران ودمشق.
وفي هذا السياق جاءت مبادرة نائب الأمين العام نعيم قاسم تجاه الرياض لفتح صفحة جديدة في علاقاتهما، وذلك في ظل حاجة الحزب إلى فتح قنوات سياسية تقاوم جهود عزله، وتستثمر الانزعاج الإقليمي من الغارات الإسرائيلية على الدوحة لتوجيه سهام النقد وبوصلة العداء تجاه إسرائيل باعتبارها تُمثِّل خطرا مشتركا يهدد الجميع بالمنطقة.
وفي المحصلة، بدا أن غياب حسن نصر الله قلَّل من قدرة قيادة الحزب على إقناع الداخل والخارج بشرعية حيازة السلاح، بينما تؤدي الضغوط الاقتصادية والسياسية إلى نتيجة مفادها أنه من الصعب إبقاء هذا الملف مجمّدا إلى ما لا نهاية، مما يفتح الباب نحو المجهول.
إن مرور عام على اغتيال نصر الله لم يُنهِ تجربة حزب الله، لكنه أنهى مرحلة بكاملها في تاريخ الحزب الذي يقف اليوم أمام مفترق طرق. فوقف إطلاق النار كشف أن قدرته على فرض معادلات الردع لم تعد كما كانت، فيما جعلت الضغوط الأميركية والإقليمية والمحلية ملف نزع السلاح مسألة أكثر إلحاحا.
وفي المقابل من خلال خيار الصمود، وترميم الخسائر، والانفتاح الحَذِر على بيئات جديدة، يسعى الحزب إلى إعادة التموضع بما يتيح له الاستمرار بوصفه لاعبا فاعلا في لبنان، ولو بثمن التراجع عن صورته السابقة بوصفه قوة عابرة للحدود يقودها زعيم ذو كاريزما استثنائية، لكن هذه المعادلة يبدو أن خصوم الحزب يدركونها جيدا، ويعملون على الإجهاز عليه لإنهاء تجربته نهائيا، في حين يعول الحزب على ما تبقّى ما لديه من قوة، وما لديه من زمن يستطيع خلاله ترميم ما خسر، ومراكمة قوة يلوّح بها للقريب قبل البعيد في حال تصاعدت وتيرة محاولات نزع السلاح من الحزب باتجاه صيغ أكثر عنفا، وبين هذه وتلك يبقى الترقب سيد المشهد.
الجزيرة + مواقع إلكترونية
أخبار اليوم - مرّ عام على اغتيال حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، الحدث الذي عده الكاتب الأميركي روبن رايت بمثابة زلزال في مسيرة حزب الله. وعلى إثر هذا الحدث، جرت مياه كثيرة في المشهد اللبناني، إذ يتركز النقاش العام في بيروت اليوم حول موقع الحزب داخل المعادلة اللبنانية، ومستقبله السياسي والعسكري.
وعلى رأس تلك النقاشات، تبرز قضية سلاح الحزب كعنوان أبرز، وسط دعوات لبنانية وغير لبنانية ترى أن غياب نصر الله يمثل فرصة لنزع سلاح الحزب، في مقابل موقف أنصار الحزب الذين يعتبرون السلاح ضمانة وجودية في مواجهة إسرائيل ولحماية المكون الشيعي وللحفاظ على ما تبقى من تأثير في لبنان.
ووسط هذا المشهد المركب وما يبدو ظاهريا من تراجع للحزب، يحذر الكاتب الإسرائيلي جاك نيريا بمعهد القدس للإستراتيجية والأمن من 'خطر اندلاع حرب أُخرى بين إسرائيل وحزب الله في أي لحظة'.
تأثير نصر الله
يشير نيكولاس بلانفورد في كتابه 'مقاتلو الرب: صراع حزب الله المستمر منذ ثلاثين عامًا ضد إسرائيل' إلى أن حسن نصر الله منذ توليه القيادة عام 1992، عمل على نقل حزب الله من صورة مجموعات مسلحة ناشئة تعمل وفق نمط حروب العصابات إلى تنظيم عسكري محترف.
كما بنى شبكة متنوعة من المؤسسات تحت لافتة مشروع 'مجتمع المقاومة'، والتي شملت مؤسسات تعليمية وثقافية وصحية وخدمية ومالية، تقدم خدمات مجتمعية بشكل مواز لمؤسسات الدولة اللبنانية، فضلا عن تحويل الحزب إلى مكون سياسي رئيسي في تشكيل الحكومات اللبنانية المتعاقبة.
وإلى جانب هذه البنية التنظيمية، شكّل نصر الله عنصرًا محوريًا في تثبيت حضور الحزب في المشهد اللبناني، حيث جمع بين أدوار متعددة، وفي مقدمتها قيادته المباشرة لصراع الحزب ضد إسرائيل أثناء احتلالها الشريط الحدودي في الجنوب اللبناني، وتقديمه لخطاب سياسي محفز يربط جمهور الحزب بقيادته وفقا لأوغسطس نورتون في كتابه 'تاريخ موجز لحزب الله'، وصولا إلى المشاركة في مواجهات خارج لبنان مثل الحرب بسوريا والعراق ما أعطى الحزب موقعًا إقليميًا داخل شبكة الجماعات المقربة من طهران، وجعل تأثيره يمتد بعد اغتيال الولايات المتحدة لقائد فيلق القدس قاسم سليماني مطلع عام 2020، ليصبح نصر الله هو جوهرة المحور والقائد الاستراتيجي الأبرز بين مكوناته.
الصدمة والفراغ بعد الاغتيال
شكّل اغتيال حسن نصر الله صدمة للحزب وجمهوره في الداخل اللبناني وخارجه، فغيابه المفاجئ يشبه انهيار عمود مركزي داخل البنية السياسية والتنظيمية للحزب.
وتمثلت الصدمة الأولى في تزامن الاغتيال مع اختراق أمني واسع مكّن إسرائيل من استهداف شخصية محاطة بإجراءات استثنائية من السرية والحماية، وذلك بعد تفجيرات أجهزة البيجر واللاسلكي التي أسفرت عن مقتل العشرات وإصابة نحو 3000 آخرين من كوادر الحزب، واغتيال قيادة قوة الرضوان خلال حضورهم اجتماعا بقيادة إبراهيم عقيل رئيس هيئة عمليات الحزب، ثم اغتيال الأمين العام التالي للحزب هاشم صفي الدين رفقة معاونيه، ما فتح الباب أمام أسئلة حول مستوى الجهوزية الاستخبارية للحزب ومدى قدرته على معالجة الاختراقات التقنية والبشرية التي أودت بقدراته.
لم تتوقف الصدمة عند الجانب الأمني، فقد بدا أن الحزب يواجه أزمة أعمق على المستوى التعبوي والجماهيري. فالجمهور الذي اعتاد سماع خطابات نصر الله في لحظات الحرب والسلم وجد نفسه في فراغ لم يسده مَن خلفوه في القيادة. فخطابات الأمين العام الجديد نعيم قاسم اتسمت بلغة أكثر تنظيمية وأقل صخبا وحماسة، ولذا لم تحقق الأثر العاطفي نفسه الذي منحه نصر الله لأنصاره.
هذا الفارق في الحضور انعكس في المزاج الشعبي داخل البيئة الشيعية، حيث ظهرت حالة من الترقب والقلق بدلا من الحماسة والتأييد التي رافقت عادة أي تصعيد عسكري أو سياسي يُعلنه الحزب.
وقد شمل الفراغ أيضا القدرة على إدارة التوازن الدقيق بين الخطاب التعبوي وبين البراغماتية السياسية. فنصر الله امتلك تأثيرا لافتا سمح له بتمرير قرارات صعبة -مثل الدخول في الحرب بسوريا أو إبرام تفاهمات سياسية داخل لبنان مع التيار الوطني الحر – بزعامة الجنرال ميشال عون– دون أن يتعرض الحزب لاهتزازات داخلية كبرى.
وفي المقابل، يشير عدد من المحللين إلى أن القيادة الحالية للحزب تفتقر إلى الحضور المعنوي الطاغي والتأثير السياسي الذي يمنح أي قرار تتخذه غطاء كاملا لدى الحاضنة الشعبية.
ورغم أن حزب الله أظهر على المستوى التنظيمي قدرة على تجاوز صدمة فقدان أمينه العام وصفوفه القيادية بسرعة نسبية، حيث سمح النظام الداخلي المرتبط بالتكليف الشرعي وبولاية الفقيه بانتقال القيادة من دون نزاعات علنية، ما ميّزه عن تجارب تنظيمات أخرى عانت انقسامات بعد فقدان قادتها.
إلا أن هذا الانتقال السلس لم يُخفِ حقيقة أن الحزب بات يفتقد إلى 'القائد الجامع' الذي يوحّد بين مؤسساته وبين جمهوره، ويجسّد في الوقت نفسه صورة الحزب القوي أمام خصومه، ما دفع على سبيل المثال الزعيم الدرزي وليد جنبلاط للتصريح بأن 'على جميع القادة السياسيين والعسكريين في حزب الله أن يعترفوا بأن الزمن تغيّر، وأن عليهم الانتقال إلى العمل السياسي والتخلي عن العمل العسكري'.
وبعد مرور عام على غياب نصر الله، لا يزال الحزب يواجه تبعات هذه الصدمة. فالمؤسسات الحزبية تواصل عملها، والهيكل التنظيمي يعاد ترميمه، لكن الفراغ لم يُملأ بعد. ويكمن التحدي الأبرز في مدى نجاح الحزب بإعادة إنتاج صورة قيادية قادرة على استعادة ثقة الجمهور ومنحه الشعور بأن المشروع لم ينكسر. وفي غياب شخصية تملك كاريزما بحجم نصر الله، يظل هذا التحدي مفتوحا على احتمالات متعددة ستحدد ملامح المرحلة المقبلة.
انهيار قواعد الاشتباك
شهد العام الأول الذي تلا اغتيال حسن نصر الله تحولات دراماتيكية في طبيعة الاشتباك بين حزب الله وإسرائيل. فالمعادلة التي حكمت المواجهة لعقود -والمبنية على الردع المتبادل وتثبيت قواعد اشتباك واضحة- تعرضت لانهيار متدرج، إلى أن بدت معركة 'البيجر' في سبتمبر/أيلول 2024 نقطة فاصلة في مسار المواجهة بين الطرفين.
وصولا إلى تشديد رئيس أركان جيش الاحتلال، الجنرال إيال زامير، في عام 2025 أثناء جولة ميدانية له في المناطق التي تحتلها إسرائيل في الجنوب اللبناني، بأن 'وظيفتنا هي تشكيل أمننا القومي بالطريقة التي نراها مناسبة. لن نعود إلى الوراء. نعمل وفق مفهوم إستراتيجي جديد، ولن نسمح للتهديدات بالنمو'، وبالتالي أصبح الاحتلال يضرب وقتما أراد وفي المكان الذي يريد دون رد من حزب الله.
منذ حرب 2006، حافظ الطرفان على نمط من الردع تحت سقف الحرب الشاملة، حيث أُديرت المواجهات ضمن ضربات محدودة قابلة للاحتواء، مع تجنب الانزلاق إلى مواجهة شاملة.
ولعب نصر الله دورا محوريا في ترسيخ هذه المعادلة، مستخدِما خطابا متكررا حول 'قواعد اللعبة' التي تمنع إسرائيل من استباحة لبنان، وتتيح في الوقت نفسه للحزب تجنب حرب مدمرة، كما رسخ معادلة 'تل أبيب مقابل بيروت'، بل ووضع معادلة مفادها أن استهداف إسرائيل لعناصر الحزب في سوريا سيؤدي إلى رد من الحزب في لبنان، وهو ما نفذه الحزب عبر الهجوم على قافلة عسكرية إسرائيلية قرب مزارع شبعا ما أدى الى مقتل ضابط وجندي إسرائيليين وجرح آخرين في عام 2015 ردا على اغتيال جيش الاحتلال لجهاد عماد مغنية رفقة عدد من عناصر الحزب في سوريا.
لكن الضربات التي سبقت ورافقت تفجيرات أجهزة البيجر غيّرت هذه المعادلة جوهريا. فإسرائيل كثّفت من استخدام الضربات الاستباقية، واستهدفت شخصيات قيادية، مثل نائب رئيس حركة حماس صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت في يناير/كانون الثاني 2024، ثم اغتالت القائد العسكري لحزب الله فؤاد شكر ضمن عمل منهجي متدرج لكسر الخطوط الحمراء السابق فرضها، والخروج من معادلة الردع السابقة.
وفي المقابل حاول الحزب التمسك بإستراتيجية 'الحرب بالنقاط'، أي الرد على الضربات بعمليات محسوبة لا تؤدي إلى انفجار شامل بهدف تجنب جر لبنان إلى حرب مدمرة، وهو نهج رأت فيه إسرائيل فرصة لتوسيع هامش المناورة بما يكفي لتغيير قواعد اللعبة لمصلحتها، وصولا إلى تحديدها لحظة التصعيد الكبير بحلول سبتمبر/أيلول 2024، والذي وجهت خلاله ضربات متتالية مدمرة في وقت قصير لم يتجاوز بضعة أيام، وبالتالي لم يتمكن الحزب من إحباطها أو تجاوز تداعياتها.
لقد رد حزب الله قبل وقف إطلاق النار في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 على موجة الاغتيالات والضربات التي تلقاها عبر هجمات نوعية استهدفت مواقع حساسة في العمق الإسرائيلي، وهو ما ظهر في هجوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 2024 الذي استهدف قاعدة تابعة للواء غولاني قرب بنيامينا؛ حيث أصابت إحدى الطائرات المسيّرة مطعما داخل القاعدة ما تسبب بمقتل 4 جنود إسرائيليين وإصابة نحو 70 آخرين، وبعدها بأقل من أسبوع وصلت طائرة مسيّرة إلى مقر إقامة رئيس الوزراء الإسرائيلي وضربت غرفة نومه في قيساريا، في هجوم هو الأول من نوعه أثناء الحروب مع الاحتلال، الذي يستهدف رئيس الوزراء الإسرائيلي في عقر داره.
لقد كان البُعد النفسي والمعنوي لتلك العمليات مقصودا، حيث نُفذت بشكل يعيد للحاضنة الشعبية شعور القدرة، ويضغط على الخصم بإظهار أن عمقه بات مكشوفا، وأن منظومات الاعتراض الإسرائيلية لا توفر مستوى الحماية المطلوبة، وأن الحزب رغم ما مُني به من خسائر ما زالت لديه القدرة على إيلام الاحتلال، وأن لديه من المعلومات الاستخبارية والقدرات العسكرية ما يكفي لتوجيه ضربات نوعية ومؤلمة.
سلاح الحزب والداخل اللبناني
لقد ارتبط قبول الحزب بوقف إطلاق النار بحسابات تتعلق بكلفة الاستمرار في الحرب. فقد أظهر الميدان أن الحزب ما زال قادرا على إطلاق الصواريخ والمسيرات وتنفيذ عمليات نوعية ومنع جيش الاحتلال من تحقيق إنجاز بري حاسم، لكنه تكبّد خسائر بشرية ومادية ملموسة، فضلا عن تعرض أغلب قرى الشريط الحدودي للدمار، وتهجير سكانها.
ومع تصاعد تأثير الحرب على بنية الحزب التنظيمية وحاضنته المجتمعية بدت كلفة المواجهة المفتوحة أكبر من قدرته على التحمل، خصوصا في ظل غياب نصر الله وما مثَّله من قدرة على إدارة الصراع وتبرير تضحياته. فقد قضت إسرائيل على أغلب قادة الصفين الأول والثاني من الحزب، ودمرت الكثير من قواعد ومخازن عتاده، وقتلت نحو 5000 آلاف من عناصره وأصابت ضِعْفهم كما نقلت وكالة رويترز على لسان الأمين العام للحزب نعيم قاسم.
ولذا تشدد أورنا مزراحي بمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي على 'أن حزب الله يرغب في خلق هدوء ظاهري لكي يتمكن من التعافي وإعادة بناء قدراته'. ولكن وقف النار لم يفتح باب الاستقرار والهدوء. فإسرائيل واصلت انتهاكاتها اليومية عبر الخروقات الجوية والضربات داخل الأراضي اللبنانية وصولا إلى استهداف الضاحية الجنوبية والبقاع، لتُبقي الحزب في حالة ضغط دائم، ولعرقلة إعادة ترميم بنيته العسكرية وفق ما ذكرته مزراحي.
هذا الواقع جعل وقف إطلاق النار أشبه بهدنة مقيّدة أكثر من كونه نهاية لجولة الحرب، وأكد أن الحزب لم يعد يمتلك القدرة السابقة على فرض خطوط حمراء، وكشف عن خلل في ميزان الردع الذي طالما عُدَّ إنجازا رئيسيا في سجل قيادة نصر الله، وصار الحزب يواجه معادلة استنزاف مستمرة، ووجد نفسه أمام خيارين أحلاهما مُر: إما تقبُّل الضربات الإسرائيلية شبه اليومية، التي سجلت نحو 4500 خرق لاتفاق وقف إطلاق النار بحسب الأمين العام الحالي للحزب نعيم قاسم، وإما الانجرار إلى تصعيد كبير يهدد ما تبقَّى من مقدرات الحزب وكوادره.
كذلك عقب اغتيال حسن نصر الله عاد النقاش محليا حول سلاح حزب الله إلى الواجهة بقوة أكبر. فتراجع الهيبة الرمزية التي فرضها حضور الأمين العام السابق جعل المسألة أكثر انكشافا، وفتح الباب أمام قوى سياسية لبنانية لإعادة طرح مطلب نزع سلاح الحزب.
لكن النقاش هذه المرة جاء في ظل واقع جديد رسمته الحرب الأخيرة ونتائجها الميدانية والسياسية، ما دفع الحزب للاحتماء بمظلة حركة أمل وقائدها رئيس مجلس النواب نبيه بري، ما جعل موقف الحزب يأتي تحت مظلة موقف الثنائي الشيعي دون انفراد.
وفي موازاة ذلك، استثمرت الولايات المتحدة وبعض العواصم الأوروبية التهدئة لإعادة فتح ملف القرار 1559 والقرارات الأممية الأخرى، داعية إلى نزع سلاح الحزب. وقد ترددت هذه الدعوات داخل بيروت نفسها، مع انتشار خطاب يُحمِّل الحزب مسؤولية الدمار والخسائر، ما منح الضغوط الخارجية صدى داخليا إضافيا.
وهكذا فتح وقف إطلاق النار معركة من نوع آخر تتضمن فرض ضغوط أمنية متواصلة على الأرض، وضغوط سياسية ودبلوماسية تهدف إلى إعادة صياغة موقع الحزب داخل لبنان، وربط ضخ الاستثمارات الأجنبية والعربية وملف إعادة الإعمار بنزع سلاح حزب الله.
الأبعاد الإقليمية والمحلية
وفي مواجهة مطالب الحكومة اللبنانية والضغوط الأميركية بنزع سلاح الحزب، حاول الحزب التعامل مع الضغوط عبر مستويين: التمسك بخطابه التقليدي حول أهمية السلاح بوصفه ضمانة وطنية ضد إسرائيل مع التذرع بضرورة الاحتراز من التطورات الإقليمية بعد أحداث الساحل والسويداء في سوريا، وفي الوقت نفسه حاول إظهار انفتاح تجاه إجراء نقاش يربط نزع السلاح ببناء إستراتيجية دفاعية شاملة للبنان، مع التشديد على أن الجيش اللبناني لا يمتلك القدرات اللازمة لمواجهة إسرائيل منفردا، وبذلك سعى الحزب لتأجيل حسم ملف سلاحه.
وحين صرحت الحكومة بتبنّيها هدف نزع السلاح قبل نهاية العام الجاري، صعّد حزب الله خطابه، وصولا إلى تلويح أمينه العام نعيم قاسم باندلاع حرب أهلية في حال المُضي بهذا المسار، وهو ما دفع رئيس الجمهورية والجيش اللبناني إلى نزع فتيل الأزمة، ولو مؤقتا، عبر تبنّي خطة لنزع سلاح حزب الله عبر 5 مراحل دون مهل زمنية معلنة، مما دفع المبعوث الأميركي إلى لبنان توم براك للحديث علنا عن أن الحكومة اللبنانية لا تقدم سوى الكلام، وأنها تخاف من اندلاع حرب أهلية، مع تأكيده أن إسرائيل ستعالج ملف حزب الله بنفسها في حال عجْز بيروت عن ذلك.
لقد ترافق غياب حسن نصر الله مع تحولات عميقة في المحيط الإقليمي، إذ سقط نظام الأسد الذي وفّر للحزب عمقا إستراتيجيا ولوجستيا، وتعرّضت إيران نفسها لضربات إسرائيلية أميركية مباشرة وضغوط قلّصت من قدرتها على حماية حلفائها وتزويدهم بالدعم، وبالتالي فقد حزب الله جزءا كبيرا من الغطاء الإقليمي الذي وفّرته له طهران ودمشق.
وفي هذا السياق جاءت مبادرة نائب الأمين العام نعيم قاسم تجاه الرياض لفتح صفحة جديدة في علاقاتهما، وذلك في ظل حاجة الحزب إلى فتح قنوات سياسية تقاوم جهود عزله، وتستثمر الانزعاج الإقليمي من الغارات الإسرائيلية على الدوحة لتوجيه سهام النقد وبوصلة العداء تجاه إسرائيل باعتبارها تُمثِّل خطرا مشتركا يهدد الجميع بالمنطقة.
وفي المحصلة، بدا أن غياب حسن نصر الله قلَّل من قدرة قيادة الحزب على إقناع الداخل والخارج بشرعية حيازة السلاح، بينما تؤدي الضغوط الاقتصادية والسياسية إلى نتيجة مفادها أنه من الصعب إبقاء هذا الملف مجمّدا إلى ما لا نهاية، مما يفتح الباب نحو المجهول.
إن مرور عام على اغتيال نصر الله لم يُنهِ تجربة حزب الله، لكنه أنهى مرحلة بكاملها في تاريخ الحزب الذي يقف اليوم أمام مفترق طرق. فوقف إطلاق النار كشف أن قدرته على فرض معادلات الردع لم تعد كما كانت، فيما جعلت الضغوط الأميركية والإقليمية والمحلية ملف نزع السلاح مسألة أكثر إلحاحا.
وفي المقابل من خلال خيار الصمود، وترميم الخسائر، والانفتاح الحَذِر على بيئات جديدة، يسعى الحزب إلى إعادة التموضع بما يتيح له الاستمرار بوصفه لاعبا فاعلا في لبنان، ولو بثمن التراجع عن صورته السابقة بوصفه قوة عابرة للحدود يقودها زعيم ذو كاريزما استثنائية، لكن هذه المعادلة يبدو أن خصوم الحزب يدركونها جيدا، ويعملون على الإجهاز عليه لإنهاء تجربته نهائيا، في حين يعول الحزب على ما تبقّى ما لديه من قوة، وما لديه من زمن يستطيع خلاله ترميم ما خسر، ومراكمة قوة يلوّح بها للقريب قبل البعيد في حال تصاعدت وتيرة محاولات نزع السلاح من الحزب باتجاه صيغ أكثر عنفا، وبين هذه وتلك يبقى الترقب سيد المشهد.
الجزيرة + مواقع إلكترونية
التعليقات