غزة - أخبار اليوم - قد يبدو مرور عامين زمنا كافيا لالتئام الجروح، غير أن الأمر بدا في غزة مختلفا، فجراح قلوب أهلها وأجسادهم لا تزال تنزف، دون أن تجد سبيلا للشفاء.
ومنذ سنين، تعيش آلاف النساء في انتظار لا ينتهي، تتأرجح حياتهن بين الأمل والفقد، سواء كن زوجات لمقاتلين أو لمفقودين ابتلعتهم الاجتياحات البرية، ولا يدرين إن كان أزواجهن أسرى في الأرض أم شهداء في السماء.
في مدينة غزة، تتناثر آلاف المقابر العشوائية في الأزقة والطرقات تضم شهداء مجهولي الهوية، وآخرين معروفين عجز ذووهم عن دفنهم في مقابر رسمية في ذروة القصف، فظلّت قبورهم مؤقتة حتى إشعار آخر.
وتكتظ المدينة بعشرات الآلاف من المصابين الذين يعلّقون آمالهم على ورقة تحويل طبي، ينتظرون إذنا من الجندي المتصلب على حدودها ليتمكنوا من إجراء عمليات جراحية نوعية أو ليتلقوا علاجا خارج أسوارها المحاصرة. إنها جراح خفية وبادية للعيان كان يمكن أن تلتئم، لكنها ظلت غضة وستبقى كذلك ما دام وطيس الحرب مشتعلا.
مرارة الفقد
بمناسبة مرور عامين على الإبادة، أجرت الجزيرة نت جولة على خيام النازحين في غزة، ترصد ما تبقى من مشاعرهم التي ذابت من فرط الألم والإنهاك. كانت أسئلتنا تنكأ جراحا يدارونها بصمت، فالفقد هنا سيّد المواقف، إذ لم يترك بيتا غزيا إلا اقتحمه، ولا قلبا إلا كسره.
يحكي كل من قابلناهم عن خسارته الخاصة، عن الجزء الذي سُلب منه ولن يعود، لكن عامين من الحرب أعادا سبك الناس من جديد، شكّلا معادنهم وتكوينهم الذهني حتى غيّرا ملامحهم فكسواها بؤسا وحيرة.
يجلس خليل الكحلوت النازح قسرا من شمال القطاع إلى وسطه في مدينة الزوايدة، أمام خيمته البالية، بينما تلهو حوله طفلته الصغيرة مع شقيقتها، وهما آخر من تبقى له من عائلة كانت تضم 6 أفراد، ابتلعت الحرب نصفهم. سألته الجزيرة نت عما فعلته به سنتان من الحرب؟ ليتحسس رأسه سريعا ويقول 'لقد غزا الشيب رأسي، كنت أزن 90 كيلوغراما والآن 57، أما قلبي فقد دفنته مع زوجتي وولديّ'.
نزح خليل أكثر من مرة حتى وجد نفسه في بقعة لا تشبهه، محاطا بناجين غرباء لا يشبهونه إلا في فقد مآويهم، ويضيف 'هذا ليس مكاني، ولا حارتي، ولا الناس هنا أعرفهم، كنت سأتقبل أي انتزاع من غزة لو كانت عائلتي مكتملة، لكنني اليوم وحيد مع طفلتيّ، عاجز عن تعويضهما ما فقدتاه'.
يمسك ابنته من يدها ويقول 'كان من المفترض أن تكون في الصف الرابع، لكنها لا تجيد الكتابة، قضت سنين عمرها حروبا وتصعيدات، وحرموها من أمها وأخويها ومن الحياة، ومن الطفولة ومن كل شيء'.
نكبات متتالية
على الناحية المقابلة من مخيم الزوايدة للنازحين، تتوسط سيدة عجوز مكبا للنفايات، تدل تجاعيد وجهها على نكبات متتالية تناسلت واحدة من رحم الأخرى. بدا الحديث مع الحاجة أم وضاح عن دخول الحرب عامها الثالث مباغتا، فهي لم تعد تقيس الزمن، تقول للجزيرة نت بصوت مرتجف 'توقفت عن عد الأيام مذ أضحى ولدي أسيرا، إنه ابني الوحيد، وكل يوم وهو بعيد يمر عليّ كألف سنة'.
تستذكر كيف كانت تعيش 'في عز' بمزرعتها في بيت لاهيا، الذي تتمركز فيها قوات الاحتلال شمالا، لكنها لا تحصي بفقدها إلا ولدها، وتضيف 'أخذوه، صار له سنة ونصف السنة بعيدا عني، لي 6 بنات وهو ولدي الوحيد وزوجي متوفى، والله، مضت علينا أيام لا نأكل فيها شيئا، فلا رجل بيننا ليعولنا'.
تنبش أم وضاح بأصابع يدها المتيبسة أكوام القمامة تستخرج بقايا خشب أو ورق أو بلاستيك تجمعه في صرر صغيرة لتغذية نار الفرن البدائي الذي تديره ابنتها بجوارها، وتخبز فيه للعامة مقابل مبلغ زهيد، هي مهنة وُلدت في الحرب اضطرت إليها النساء ضمن معركتهن التي يخضنها من أجل البقاء على قيد الحياة.
كما يمتد الفقد في غزة ليأخذ شكلا آخر، أكثر خفاءً وأشد وجعا، فلم يكن ياسين (23 عاما) يتخيل أن آخر خطوة يخطوها في حياته تلك التي قصد فيها خيمته في بيت لاهيا شمال القطاع، حين قرر أن يعود مع شقيقه لجلب ما تبقى من مؤونة بسيطة بعد نزوحهم منها إلى غرب المدينة.
ويقول للجزيرة نت 'استهدفنا جيش الاحتلال بينما كنا نحمل أكياسا من الطعام الذي جلبناه من الخيمة، استشهد شقيقي، في جين بقيتُ على الأرض أنزف لمدة ساعتين ونصف الساعة حتى تمكن أحد من انتشالي'. ومنذ ذلك اليوم، بدأ رحلة طويلة من العلاجات والعمليات الجراحية، لكن لا شيء كان كافيا لتشفى قدماه. فلا معدات طبية في المشافي ولا كوادر متخصصة، كما أنه على قائمة انتظار طويلة للخروج للعلاج رغم أن تحويلته الطبية جاهزة منذ شهور.
يروي للجزيرة نت أصعب ما مر به خلال عامين من الإبادة، ويتابع 'كان توقيعي على ورقة الموافقة على بتر كلتا قدميّ أصعب لحظة في حياتي'، ويقر بأن الحرب قد نجحت في تغييره، ويقول 'أنا أب ولي أبناء، لكني صرت أخاف من كل شيء، أستيقظ بالليل مفزوعا، يرتجف جسدي، كما أنني صرتُ يائسا، لقد أفقدتني الحرب مستقبلي'.
طفولة مسلوبة
شبح الفقد الذي يهاجم حاضر الغزيين ومستقبلهم، لا تشفع لديه طفولة صغارهم أيضا، تحت أشعة الشمس يجلس أحمد (12 عاما) أمام بسطة يبيع فيها بعض المعلبات، يقول للجزيرة نت إنه اضطر -وهو أكبر إخوته- لفتحها بعد أسر والدهم ليعتاشوا عليها.
يتحسر أحمد مستذكرا للجزيرة نت طفولته التي سلبتها الحرب منه، 'كنت أحب كرة القدم والسباحة، لكن منذ عامين لم أمارس أيا منهما فلا وقت للعب اليوم'، ويشتهي أكل الدجاج فهو لم يتذوقه منذ أكثر من عام ونصف العام، 'أعتقد أنني نسيت طعمه'، يقول وهو يتبسم بخجل ثم يستعيد اتزان وجهه الذي يعبّر عن رجولة أكبر من عمره، ويتابع 'نفسي أكبر وأصير عامل بناء، أشتغل وأبني غزة من أول وجديد'.
سألته الجزيرة نت 'ألا زلت متمسكا بغزة وتحبها رغم كل الدمار فيها؟'، فأجاب بحزم 'أنا مش هطلع منها إلا لما تتحرر فلسطين، ساعتها بس بدي أطلع منها على المسجد الأقصى'.
وبالرغم من فداحة ما نزعت الإبادة من أهل القطاع حيث تركتهم معلقين بين الفقد والأنين، فإنها أيقظت في قلوبهم ثورة عشق لا تنطفئ، عشق يجعل طفلا مثل أحمد يرى في دمارها جمالا، وفي رمادها وعدا بالعودة والبناء.
الجزيرة
غزة - أخبار اليوم - قد يبدو مرور عامين زمنا كافيا لالتئام الجروح، غير أن الأمر بدا في غزة مختلفا، فجراح قلوب أهلها وأجسادهم لا تزال تنزف، دون أن تجد سبيلا للشفاء.
ومنذ سنين، تعيش آلاف النساء في انتظار لا ينتهي، تتأرجح حياتهن بين الأمل والفقد، سواء كن زوجات لمقاتلين أو لمفقودين ابتلعتهم الاجتياحات البرية، ولا يدرين إن كان أزواجهن أسرى في الأرض أم شهداء في السماء.
في مدينة غزة، تتناثر آلاف المقابر العشوائية في الأزقة والطرقات تضم شهداء مجهولي الهوية، وآخرين معروفين عجز ذووهم عن دفنهم في مقابر رسمية في ذروة القصف، فظلّت قبورهم مؤقتة حتى إشعار آخر.
وتكتظ المدينة بعشرات الآلاف من المصابين الذين يعلّقون آمالهم على ورقة تحويل طبي، ينتظرون إذنا من الجندي المتصلب على حدودها ليتمكنوا من إجراء عمليات جراحية نوعية أو ليتلقوا علاجا خارج أسوارها المحاصرة. إنها جراح خفية وبادية للعيان كان يمكن أن تلتئم، لكنها ظلت غضة وستبقى كذلك ما دام وطيس الحرب مشتعلا.
مرارة الفقد
بمناسبة مرور عامين على الإبادة، أجرت الجزيرة نت جولة على خيام النازحين في غزة، ترصد ما تبقى من مشاعرهم التي ذابت من فرط الألم والإنهاك. كانت أسئلتنا تنكأ جراحا يدارونها بصمت، فالفقد هنا سيّد المواقف، إذ لم يترك بيتا غزيا إلا اقتحمه، ولا قلبا إلا كسره.
يحكي كل من قابلناهم عن خسارته الخاصة، عن الجزء الذي سُلب منه ولن يعود، لكن عامين من الحرب أعادا سبك الناس من جديد، شكّلا معادنهم وتكوينهم الذهني حتى غيّرا ملامحهم فكسواها بؤسا وحيرة.
يجلس خليل الكحلوت النازح قسرا من شمال القطاع إلى وسطه في مدينة الزوايدة، أمام خيمته البالية، بينما تلهو حوله طفلته الصغيرة مع شقيقتها، وهما آخر من تبقى له من عائلة كانت تضم 6 أفراد، ابتلعت الحرب نصفهم. سألته الجزيرة نت عما فعلته به سنتان من الحرب؟ ليتحسس رأسه سريعا ويقول 'لقد غزا الشيب رأسي، كنت أزن 90 كيلوغراما والآن 57، أما قلبي فقد دفنته مع زوجتي وولديّ'.
نزح خليل أكثر من مرة حتى وجد نفسه في بقعة لا تشبهه، محاطا بناجين غرباء لا يشبهونه إلا في فقد مآويهم، ويضيف 'هذا ليس مكاني، ولا حارتي، ولا الناس هنا أعرفهم، كنت سأتقبل أي انتزاع من غزة لو كانت عائلتي مكتملة، لكنني اليوم وحيد مع طفلتيّ، عاجز عن تعويضهما ما فقدتاه'.
يمسك ابنته من يدها ويقول 'كان من المفترض أن تكون في الصف الرابع، لكنها لا تجيد الكتابة، قضت سنين عمرها حروبا وتصعيدات، وحرموها من أمها وأخويها ومن الحياة، ومن الطفولة ومن كل شيء'.
نكبات متتالية
على الناحية المقابلة من مخيم الزوايدة للنازحين، تتوسط سيدة عجوز مكبا للنفايات، تدل تجاعيد وجهها على نكبات متتالية تناسلت واحدة من رحم الأخرى. بدا الحديث مع الحاجة أم وضاح عن دخول الحرب عامها الثالث مباغتا، فهي لم تعد تقيس الزمن، تقول للجزيرة نت بصوت مرتجف 'توقفت عن عد الأيام مذ أضحى ولدي أسيرا، إنه ابني الوحيد، وكل يوم وهو بعيد يمر عليّ كألف سنة'.
تستذكر كيف كانت تعيش 'في عز' بمزرعتها في بيت لاهيا، الذي تتمركز فيها قوات الاحتلال شمالا، لكنها لا تحصي بفقدها إلا ولدها، وتضيف 'أخذوه، صار له سنة ونصف السنة بعيدا عني، لي 6 بنات وهو ولدي الوحيد وزوجي متوفى، والله، مضت علينا أيام لا نأكل فيها شيئا، فلا رجل بيننا ليعولنا'.
تنبش أم وضاح بأصابع يدها المتيبسة أكوام القمامة تستخرج بقايا خشب أو ورق أو بلاستيك تجمعه في صرر صغيرة لتغذية نار الفرن البدائي الذي تديره ابنتها بجوارها، وتخبز فيه للعامة مقابل مبلغ زهيد، هي مهنة وُلدت في الحرب اضطرت إليها النساء ضمن معركتهن التي يخضنها من أجل البقاء على قيد الحياة.
كما يمتد الفقد في غزة ليأخذ شكلا آخر، أكثر خفاءً وأشد وجعا، فلم يكن ياسين (23 عاما) يتخيل أن آخر خطوة يخطوها في حياته تلك التي قصد فيها خيمته في بيت لاهيا شمال القطاع، حين قرر أن يعود مع شقيقه لجلب ما تبقى من مؤونة بسيطة بعد نزوحهم منها إلى غرب المدينة.
ويقول للجزيرة نت 'استهدفنا جيش الاحتلال بينما كنا نحمل أكياسا من الطعام الذي جلبناه من الخيمة، استشهد شقيقي، في جين بقيتُ على الأرض أنزف لمدة ساعتين ونصف الساعة حتى تمكن أحد من انتشالي'. ومنذ ذلك اليوم، بدأ رحلة طويلة من العلاجات والعمليات الجراحية، لكن لا شيء كان كافيا لتشفى قدماه. فلا معدات طبية في المشافي ولا كوادر متخصصة، كما أنه على قائمة انتظار طويلة للخروج للعلاج رغم أن تحويلته الطبية جاهزة منذ شهور.
يروي للجزيرة نت أصعب ما مر به خلال عامين من الإبادة، ويتابع 'كان توقيعي على ورقة الموافقة على بتر كلتا قدميّ أصعب لحظة في حياتي'، ويقر بأن الحرب قد نجحت في تغييره، ويقول 'أنا أب ولي أبناء، لكني صرت أخاف من كل شيء، أستيقظ بالليل مفزوعا، يرتجف جسدي، كما أنني صرتُ يائسا، لقد أفقدتني الحرب مستقبلي'.
طفولة مسلوبة
شبح الفقد الذي يهاجم حاضر الغزيين ومستقبلهم، لا تشفع لديه طفولة صغارهم أيضا، تحت أشعة الشمس يجلس أحمد (12 عاما) أمام بسطة يبيع فيها بعض المعلبات، يقول للجزيرة نت إنه اضطر -وهو أكبر إخوته- لفتحها بعد أسر والدهم ليعتاشوا عليها.
يتحسر أحمد مستذكرا للجزيرة نت طفولته التي سلبتها الحرب منه، 'كنت أحب كرة القدم والسباحة، لكن منذ عامين لم أمارس أيا منهما فلا وقت للعب اليوم'، ويشتهي أكل الدجاج فهو لم يتذوقه منذ أكثر من عام ونصف العام، 'أعتقد أنني نسيت طعمه'، يقول وهو يتبسم بخجل ثم يستعيد اتزان وجهه الذي يعبّر عن رجولة أكبر من عمره، ويتابع 'نفسي أكبر وأصير عامل بناء، أشتغل وأبني غزة من أول وجديد'.
سألته الجزيرة نت 'ألا زلت متمسكا بغزة وتحبها رغم كل الدمار فيها؟'، فأجاب بحزم 'أنا مش هطلع منها إلا لما تتحرر فلسطين، ساعتها بس بدي أطلع منها على المسجد الأقصى'.
وبالرغم من فداحة ما نزعت الإبادة من أهل القطاع حيث تركتهم معلقين بين الفقد والأنين، فإنها أيقظت في قلوبهم ثورة عشق لا تنطفئ، عشق يجعل طفلا مثل أحمد يرى في دمارها جمالا، وفي رمادها وعدا بالعودة والبناء.
الجزيرة
غزة - أخبار اليوم - قد يبدو مرور عامين زمنا كافيا لالتئام الجروح، غير أن الأمر بدا في غزة مختلفا، فجراح قلوب أهلها وأجسادهم لا تزال تنزف، دون أن تجد سبيلا للشفاء.
ومنذ سنين، تعيش آلاف النساء في انتظار لا ينتهي، تتأرجح حياتهن بين الأمل والفقد، سواء كن زوجات لمقاتلين أو لمفقودين ابتلعتهم الاجتياحات البرية، ولا يدرين إن كان أزواجهن أسرى في الأرض أم شهداء في السماء.
في مدينة غزة، تتناثر آلاف المقابر العشوائية في الأزقة والطرقات تضم شهداء مجهولي الهوية، وآخرين معروفين عجز ذووهم عن دفنهم في مقابر رسمية في ذروة القصف، فظلّت قبورهم مؤقتة حتى إشعار آخر.
وتكتظ المدينة بعشرات الآلاف من المصابين الذين يعلّقون آمالهم على ورقة تحويل طبي، ينتظرون إذنا من الجندي المتصلب على حدودها ليتمكنوا من إجراء عمليات جراحية نوعية أو ليتلقوا علاجا خارج أسوارها المحاصرة. إنها جراح خفية وبادية للعيان كان يمكن أن تلتئم، لكنها ظلت غضة وستبقى كذلك ما دام وطيس الحرب مشتعلا.
مرارة الفقد
بمناسبة مرور عامين على الإبادة، أجرت الجزيرة نت جولة على خيام النازحين في غزة، ترصد ما تبقى من مشاعرهم التي ذابت من فرط الألم والإنهاك. كانت أسئلتنا تنكأ جراحا يدارونها بصمت، فالفقد هنا سيّد المواقف، إذ لم يترك بيتا غزيا إلا اقتحمه، ولا قلبا إلا كسره.
يحكي كل من قابلناهم عن خسارته الخاصة، عن الجزء الذي سُلب منه ولن يعود، لكن عامين من الحرب أعادا سبك الناس من جديد، شكّلا معادنهم وتكوينهم الذهني حتى غيّرا ملامحهم فكسواها بؤسا وحيرة.
يجلس خليل الكحلوت النازح قسرا من شمال القطاع إلى وسطه في مدينة الزوايدة، أمام خيمته البالية، بينما تلهو حوله طفلته الصغيرة مع شقيقتها، وهما آخر من تبقى له من عائلة كانت تضم 6 أفراد، ابتلعت الحرب نصفهم. سألته الجزيرة نت عما فعلته به سنتان من الحرب؟ ليتحسس رأسه سريعا ويقول 'لقد غزا الشيب رأسي، كنت أزن 90 كيلوغراما والآن 57، أما قلبي فقد دفنته مع زوجتي وولديّ'.
نزح خليل أكثر من مرة حتى وجد نفسه في بقعة لا تشبهه، محاطا بناجين غرباء لا يشبهونه إلا في فقد مآويهم، ويضيف 'هذا ليس مكاني، ولا حارتي، ولا الناس هنا أعرفهم، كنت سأتقبل أي انتزاع من غزة لو كانت عائلتي مكتملة، لكنني اليوم وحيد مع طفلتيّ، عاجز عن تعويضهما ما فقدتاه'.
يمسك ابنته من يدها ويقول 'كان من المفترض أن تكون في الصف الرابع، لكنها لا تجيد الكتابة، قضت سنين عمرها حروبا وتصعيدات، وحرموها من أمها وأخويها ومن الحياة، ومن الطفولة ومن كل شيء'.
نكبات متتالية
على الناحية المقابلة من مخيم الزوايدة للنازحين، تتوسط سيدة عجوز مكبا للنفايات، تدل تجاعيد وجهها على نكبات متتالية تناسلت واحدة من رحم الأخرى. بدا الحديث مع الحاجة أم وضاح عن دخول الحرب عامها الثالث مباغتا، فهي لم تعد تقيس الزمن، تقول للجزيرة نت بصوت مرتجف 'توقفت عن عد الأيام مذ أضحى ولدي أسيرا، إنه ابني الوحيد، وكل يوم وهو بعيد يمر عليّ كألف سنة'.
تستذكر كيف كانت تعيش 'في عز' بمزرعتها في بيت لاهيا، الذي تتمركز فيها قوات الاحتلال شمالا، لكنها لا تحصي بفقدها إلا ولدها، وتضيف 'أخذوه، صار له سنة ونصف السنة بعيدا عني، لي 6 بنات وهو ولدي الوحيد وزوجي متوفى، والله، مضت علينا أيام لا نأكل فيها شيئا، فلا رجل بيننا ليعولنا'.
تنبش أم وضاح بأصابع يدها المتيبسة أكوام القمامة تستخرج بقايا خشب أو ورق أو بلاستيك تجمعه في صرر صغيرة لتغذية نار الفرن البدائي الذي تديره ابنتها بجوارها، وتخبز فيه للعامة مقابل مبلغ زهيد، هي مهنة وُلدت في الحرب اضطرت إليها النساء ضمن معركتهن التي يخضنها من أجل البقاء على قيد الحياة.
كما يمتد الفقد في غزة ليأخذ شكلا آخر، أكثر خفاءً وأشد وجعا، فلم يكن ياسين (23 عاما) يتخيل أن آخر خطوة يخطوها في حياته تلك التي قصد فيها خيمته في بيت لاهيا شمال القطاع، حين قرر أن يعود مع شقيقه لجلب ما تبقى من مؤونة بسيطة بعد نزوحهم منها إلى غرب المدينة.
ويقول للجزيرة نت 'استهدفنا جيش الاحتلال بينما كنا نحمل أكياسا من الطعام الذي جلبناه من الخيمة، استشهد شقيقي، في جين بقيتُ على الأرض أنزف لمدة ساعتين ونصف الساعة حتى تمكن أحد من انتشالي'. ومنذ ذلك اليوم، بدأ رحلة طويلة من العلاجات والعمليات الجراحية، لكن لا شيء كان كافيا لتشفى قدماه. فلا معدات طبية في المشافي ولا كوادر متخصصة، كما أنه على قائمة انتظار طويلة للخروج للعلاج رغم أن تحويلته الطبية جاهزة منذ شهور.
يروي للجزيرة نت أصعب ما مر به خلال عامين من الإبادة، ويتابع 'كان توقيعي على ورقة الموافقة على بتر كلتا قدميّ أصعب لحظة في حياتي'، ويقر بأن الحرب قد نجحت في تغييره، ويقول 'أنا أب ولي أبناء، لكني صرت أخاف من كل شيء، أستيقظ بالليل مفزوعا، يرتجف جسدي، كما أنني صرتُ يائسا، لقد أفقدتني الحرب مستقبلي'.
طفولة مسلوبة
شبح الفقد الذي يهاجم حاضر الغزيين ومستقبلهم، لا تشفع لديه طفولة صغارهم أيضا، تحت أشعة الشمس يجلس أحمد (12 عاما) أمام بسطة يبيع فيها بعض المعلبات، يقول للجزيرة نت إنه اضطر -وهو أكبر إخوته- لفتحها بعد أسر والدهم ليعتاشوا عليها.
يتحسر أحمد مستذكرا للجزيرة نت طفولته التي سلبتها الحرب منه، 'كنت أحب كرة القدم والسباحة، لكن منذ عامين لم أمارس أيا منهما فلا وقت للعب اليوم'، ويشتهي أكل الدجاج فهو لم يتذوقه منذ أكثر من عام ونصف العام، 'أعتقد أنني نسيت طعمه'، يقول وهو يتبسم بخجل ثم يستعيد اتزان وجهه الذي يعبّر عن رجولة أكبر من عمره، ويتابع 'نفسي أكبر وأصير عامل بناء، أشتغل وأبني غزة من أول وجديد'.
سألته الجزيرة نت 'ألا زلت متمسكا بغزة وتحبها رغم كل الدمار فيها؟'، فأجاب بحزم 'أنا مش هطلع منها إلا لما تتحرر فلسطين، ساعتها بس بدي أطلع منها على المسجد الأقصى'.
وبالرغم من فداحة ما نزعت الإبادة من أهل القطاع حيث تركتهم معلقين بين الفقد والأنين، فإنها أيقظت في قلوبهم ثورة عشق لا تنطفئ، عشق يجعل طفلا مثل أحمد يرى في دمارها جمالا، وفي رمادها وعدا بالعودة والبناء.
الجزيرة
التعليقات