أخبار اليوم - في صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، غادر ضابط الجيش رومان غوفمان منزله في أشدود باتجاه الجنوب، بعد تقارير عن تسلل مقاتلين من كتائب القسام إلى محيط مدينة سديروت. كانت الساعات الأولى للهجوم قد كشفت ارتباكًا واسعًا في المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وانتشرت المواجهات في نقاط متفرقة دون قيادة مركزية واضحة.
عند مفترق شعار هنيغف، انضم غوفمان إلى متطوعين من الشرطة، وشارك في اشتباكات مباشرة مع مسلحين من حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، قبل أن يُصاب بجروح خطيرة في الركبة.
في ذلك اليوم، سُجّل اسمه بوصفه أعلى ضابط رتبة يُصاب خلال الهجوم، في واقعة تحولت لاحقًا إلى جزء من رحلة صعوده السريع إلى منصب السكرتير العسكري لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، قبل أن يُعلن لاحقًا عن ترشيحه لقيادة جهاز الموساد.
نتنياهو يطيح بالقيادة العسكرية والأمنية
وفق الواقع الأمني والسياسي الذي يتغير بسرعة في عالم اليوم، تُصدر الولايات المتحدة إستراتيجيات أمن قومي تعكس توجهات الإدارة الجديدة في مستهل ولايتها، وتُلحقها بمراجعات دفاعية، كما تعتمد بريطانيا إستراتيجيات أمن قومي وأوراقًا بيضاء تُحدِّد التهديدات والفرص وتوضح أولويات الحكومة.
في المقابل، ورغم المركزية الاستثنائية للأمن في التجربة الإسرائيلية، لم تُنتج إسرائيل عقيدة أمن قومي رسمية تُنظِّم علاقتها بالحرب والسلم، ولم تعتمد إطارًا سياسيًا مُعلنًا يحدِّد حدود استخدام القوة وأولوياتها.
صاغ ديفيد بن غوريون مبادئ عامة للأمن القومي في خمسينيات القرن العشرين، لكنها بقيت إرشادات عملية أكثر منها عقيدة مكتوبة. وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كُلِّفت لجنة ميريدور بإعداد عقيدة رسمية للأمن القومي، غير أن التقرير الذي أنجزته لم يحصل على اعتماد سياسي. لاحقًا، أعدّ جيش الاحتلال الإسرائيلي وثيقة تحدد أسلوب عمله وأهدافه الإستراتيجية والعملياتية في حال نشوب حرب، لكنها انحصرت في البعد العسكري، ولم ترتقِ إلى مستوى عقيدة أمنية شاملة.
في ظل هذا الغياب، تكتسب التعيينات في المناصب الأمنية العليا الإسرائيلية أهمية مضاعفة، باعتبارها مؤشرات على اتجاهات السياسة الأمنية المتوقعة، استنادًا إلى خلفية المسؤول وخبرته وعلاقته بالمستوى السياسي.
ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، دخلت منظومة الأمن الإسرائيلية مرحلة إعادة تشكيل، انعكست عمليًا في تغييرات متتابعة طالت قادة المؤسسات الأكثر حساسية، في سياق محاولة إدارة تداعيات الإخفاق الأمني وإحكام قبضة نتنياهو على دائرة صنع القرار.
ترجمت هذه المقاربة عمليًا في سلسلة تغييرات متلاحقة داخل قمة الهرم الأمني. بدأ المسار باستقالة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أهارون هاليفا في أبريل/نيسان 2024، بعد تحمّله مسؤولية الإخفاق في التحذير من هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
لاحقًا، انتقلت الأزمة إلى منصب وزير الدفاع، حيث تآكلت الثقة السياسية بين نتنياهو وغالانت، وظهرت الخلافات بينهما علنًا حول إدارة الحرب وسقفها السياسي والعسكري، قبل أن تنتهي بإقالة غالانت في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 وتعيين يسرائيل كاتس بدلًا منه.
ولم تتوقف إعادة التشكيل عند هذا الحد، إذ قدّم رئيس الأركان هرتسي هاليفي استقالته مطلع عام 2025، في سياق تحميل القيادة العسكرية العليا مسؤولية الفشل في التصدي للهجوم. ثم انتقل الضغط إلى جهاز الشاباك، حيث وجد رئيسه رونين بار نفسه في قلب اتهامات مباشرة بفقدان ثقة رئيس الوزراء، على خلفية نتائج التحقيق الداخلي للجهاز في أحداث السابع من أكتوبر.
ومع رفض بار قرار إقالته، تحوّل الخلاف إلى نزاع قضائي، انتهى باستقالته بعد أزمة حادة في العلاقة بين الشاباك ورئاسة الحكومة. اللافت في هذا السياق أن نتنياهو اختار تعيين اللواء ديفيد زيني رئيسًا للشاباك، رغم غياب الخبرة الاستخبارية عن مسيرته المهنية، في خطوة عكست أولوية الاعتبارات السياسية على غيرها من المعايير المؤسسية.
في المقابل، احتل الموساد موقعًا مختلفًا داخل هذه العملية؛ فلم تكن له علاقة بملف غزة، لكن التغييرات في القيادة طالته مع انتهاء فترة خدمة مديره ديدي برنيع المقررة في يونيو/حزيران 2026، بعد خمس سنوات أمضاها في المنصب، وقد أعلن نتنياهو في ديسمبر/كانون الأول 2025 عزمه تعيين سكرتيره العسكري رومان غوفمان في منصب مدير الموساد العام القادم.
وبتغيير وزير الدفاع، وقائد الجيش، ورئيس الشاباك، ورئيس الموساد يعيد نتنياهو بناء دائرة صنع القرار الضيقة حوله، بالدفع بشخصيات يُنظر إليها بوصفها أقرب إلى رؤيته السياسية، وأكثر استعدادًا للعمل في بيئة تتداخل فيها الاعتبارات الأمنية مع حسابات البقاء السياسي، بهدف العبور من تداعيات الإخفاق في 7 أكتوبر/تشرين الأول. وهنا نسلط الضوء على رومان غوفمان وطبيعة منصب السكرتير العسكري الذي مهد لتوليه قيادة الموساد.
سيرة غوفمان الذاتية
وُلد رومان غوفمان عام 1975 في فضاء جغرافي بعيد عن إسرائيل، وبالتحديد في بيلاروسيا، قبل أن تصل به الهجرة رفقة عائلته في عام 1990 مع انهيار الاتحاد السوفياتي إلى أسدود، المدينة الساحلية التي ستتحول لاحقًا إلى نقطة ارتكاز في سيرته الشخصية والمهنية.
في تلك السنوات، كان غوفمان جزءًا من جيل مهاجرين اندمجوا سريعًا في مؤسسات الدولة، حيث تلقّى تعليمه في مدرسة أسدود للضباط البحريين، في بيئة شكّلت مبكرًا علاقته بالانضباط والجيش. وفي عام 1995، التحق بسلاح المدرعات، واختار مسارًا تقليديًا داخل الجيش الإسرائيلي، متنقلًا بين الكتائب والألوية، ومراكِمًا خبرة ميدانية في ساحات قتال متعددة.
خدم غوفمان في الكتيبة 53 التابعة للواء المدرعات 188، وشارك في العمليات العسكرية في جنوب لبنان، ثم انتقل لاحقًا إلى إدارة عمليات في قطاع غزة والضفة الغربية خلال الانتفاضة الثانية وعملية 'السور الواقي'. وتدرّج غوفمان في المناصب القيادية داخل سلاح المدرعات، فتولى عام 2011 قيادة الكتيبة 75 في اللواء المدرع السابع، ثم عُيّن عام 2017 قائدًا للواء نفسه، ما عزّز حضوره داخل هرم القيادة العسكرية، ووسّع شبكة علاقاته داخل المؤسسة الأمنية.
وإلى جانب مسيرته الميدانية، طوّر خلفية أكاديمية في العلوم السياسية، بحصوله على درجة البكالوريوس من كلية أشكلون، ثم درجة الماجستير في العلوم السياسية والأمن القومي من جامعة حيفا، في مسار يجمع بين الخبرة العملياتية والاهتمام بالإطار النظري للأمن.
وبعد تعافيه من الإصابة التي حلّت به يوم السابع من أكتوبر، انتقل غوفمان إلى موقع إداري أمني أكثر قربًا من دوائر الحكم، حيث شغل منصب رئيس أركان منسق أعمال الحكومة في المناطق، وهو موقع أتاح له التعامل مع ملفات مدنية وأمنية معقدة تتقاطع فيها الاعتبارات العسكرية مع البعد السياسي، قبل أن يُستدعى إلى مكتب رئاسة الحكومة سكرتيرًا عسكريًا لنتنياهو في مايو/أيار 2024.
في هذه المرحلة، كتب غوفمان وثيقة دعا فيها إلى فرض إدارة عسكرية في قطاع غزة، في سياق نقاش داخلي حول ترتيبات ما بعد الحرب. ورغم تأكيد الجيش الإسرائيلي أن الوثيقة تعكس رأيًا شخصيًا، فإنها كشفت عن مقاربة أمنية لغوفمان تنسجم مع توجهات سائدة داخل محيط نتنياهو.
هذا القرب من مركز القرار مقرون بتجربته الميدانية وشبكة علاقاته داخل المؤسسة الأمنية، مهّد للانتقال إلى ترشيحه لرئاسة الموساد قادما من خارج الجهاز، في سابقة هي الأولى منذ عام 2002 حين عيّن رئيس الوزراء السابق شارون اللواء مائير داغان مديرا للموساد.
أثار تعيين غوفمان رئيسا للموساد جدلا، في كونه تجاوز نواب المدير ورؤساء الأقسام الذين تدرّجوا سنوات داخل البنية الاستخبارية، ويُنظر إليهم عادة بوصفهم المرشحين الطبيعيين لقيادة الجهاز.
وبرّر نتنياهو خياره بالتركيز على صفات شخصية وميدانية رآها ضرورية لمرحلة ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وقال في بيان رسمي 'لقد أظهر اللواء غوفمان إبداعاً ومبادرة ودهاء وفهماً عميقاً للعدو وتكتماً مطلقاً وحرصاً على حفظ الأسرار. وقد تجلّت هذه الصفات، إلى جانب قيادته وشجاعته، عند اندلاع حرب الفداء، حين هرع من منزله وقاتل بنفسه ضد مقاتلي حماس في غرب النقب، حيث أصيب بجروح بالغة'.
وبخلاف زيني رئيس الشاباك، فإن منصب غوفمان كسكرتير عسكري لرئيس الوزراء أتاح له الاطلاع على كواليس صنع القرارات العسكرية والأمنية، كما أن تعيينه مديرا للموساد له سابقة تتمثل في تعيين داني ياتوم السكرتير العسكري '1993-1996' لرئيس الوزراء رابين رئيسا للموساد '1996-1998″، قبل أن تطيح به تداعيات محاولة الاغتيال الفاشلة لخالد مشعل في الأردن عام 1997.
دور السكرتير العسكري لرئيس الوزراء
بينما تتوافر الكتب والدراسات التي تتناول بنية وتاريخ وتطور الجيش الإسرائيلي والموساد والشاباك، فتندر الأدبيات التي تتناول منصب السكرتير العسكري لرئيس الوزراء وأهميته رغم تدشينه في عام 1948، وشغل نحو 18 شخصا له، ومنهم شخصيات بارزة مثل وزير الدفاع الأسبق يواف غالانت الذي عمل سكرتيرا عسكريا في الفترة '2002-2005″، وكذلك رئيس أركان الجيش الحالي إيال زامير الذي عمل سكرتيرا عسكريا لنتنياهو منذ عام 2012 حتى عام 2015.
تعد دراسة شموئيل إيفين بعنوان 'السكرتير العسكري عند مفترق طرق' التي نشرها معهد الأمن القومي الإسرائيلي هي الأبرز في بابها، حيث ناقشت مسؤوليات السكرتير العسكري من خلال لقاءات مع بعض من شغلوا المنصب.
بحسب شموئيل إيفين، يشغل السكرتير العسكري لرئيس الوزراء موقعًا محوريًا داخل منظومة الحكم الإسرائيلية، بوصفه ضابطًا يعمل كقناة اتصال مباشرة بين رئيس الحكومة والجيش والأجهزة الأمنية.
وتتمثل مهامه الأساسية في نقل توجيهات رئيس الوزراء إلى قادة المؤسسة الأمنية، ومتابعة تنفيذها، إضافة إلى فرز المعلومات الاستخبارية والسياسية الواردة من الأجهزة الأمنية ووزارة الخارجية، قبل عرضها على رئيس الحكومة. هذا الدور يمنح السكرتير العسكري قدرة مؤثرة على تحديد ما يصل إلى رئيس الوزراء من معلومات، وبالتالي التأثير في الصورة التي تُبنى عليها القرارات الأمنية.
ويعزز هذا النفوذ حضور السكرتير العسكري الدائم في اللقاءات المغلقة التي تجمع رئيس الوزراء برئيس الأركان، ورئيس الموساد، ورئيس الشاباك، ورئيس هيئة الطاقة الذرية، وممثلي الصناعات الدفاعية. ونتيجة لذلك، يصبح السكرتير العسكري الجهة الوحيدة التي تطّلع على مجمل النقاشات الحساسة داخل الدائرة الضيقة للحكم، بما يجعله مركزًا لتجميع المعرفة الأمنية.
إلى جانب ذلك، يشارك السكرتير العسكري في إعداد جدول أعمال الحكومة والمجلس الوزاري المصغر، وفي تنظيم وتنسيق النقاشات المتعلقة بالقضايا الدفاعية والسياسية، كما يُسمح له بتقديم رأيه في القضايا العملياتية التي تتطلب تدخلًا مباشرًا من رئيس الوزراء. ولا توجد حدود قانونية دقيقة لهذا الدور الاستشاري، إذ تتحدد فعاليته تبعًا لشخصية شاغل المنصب وخلفيته المهنية ومستوى الثقة التي يمنحه إياها رئيس الحكومة.
من الناحية المؤسسية، يخضع جهازا الموساد والشاباك مباشرة لسلطة رئيس الوزراء، في حين يبقى الجيش خارج مسؤوليته القانونية المباشرة، إذ يخضع لرئيس الأركان. هذا الوضع يجعل السكرتير العسكري نقطة الوصل الأساسية بين المستوى السياسي والقيادة العسكرية.
ورغم أن تعيينه يتم رسميًا من رئيس الأركان وبالتشاور مع وزير الدفاع، بعد اختياره من رئيس الوزراء، فإن ولاءه العملي يكون لرئيس الحكومة، وهو ما يحدّ من قدرة رئيس الأركان على التأثير عليه بعد توليه المنصب.
وقد أثار هذا الترتيب إشكاليات قانونية ومؤسسية، خاصة في ضوء قانون الجيش الذي لا يمنح رئيس الوزراء سلطة القيادة العليا على القوات المسلحة، ولا ينص على وجود ضابط برتبة لواء يعمل خارج تسلسل القيادة العسكرية، وهو ما واجه اعتراضات داخلية وتشكيكًا في ملاءمة هذه الرتبة لطبيعة المنصب.
وامتد الجدل إلى العلاقة مع مجلس الأمن القومي، الذي أُنشئ بقانون عام 2008 دون تحديد واضح لموقع السكرتير العسكري ضمن صلاحياته. هذا الغموض أبقى التنافس قائمًا بين الطرفين، حيث يسعى السكرتير العسكري إلى الاحتفاظ بدور مركزي في تقييم القضايا الأمنية، مقابل دور مهني يفترض أن يؤديه مجلس الأمن القومي عبر طواقم متخصصة.
وفي هذا السياق، فضّلت رئاسة الحكومة الاعتماد على السكرتير العسكري بوصفه مساعدًا شخصيًا موثوقًا، قادرًا على إدارة الملفات الحساسة داخل دائرة محدودة، مع تقليص مخاطر تسريب المعلومات، بما يمنح الاعتبارات الشخصية أولوية على العمل المؤسسي الأوسع.
إن منصب السكرتير العسكري يساهم في إدارة التوازنات داخل منظومة الأمن القومي الإسرائيلي التي تفتقر إلى مرجعية مكتوبة، وتُدار عمليا عبر شبكة علاقات، يكون فيها القرب من رئيس الحكومة عامل التأثير الأساسي.
ويعكس اختيار غوفمان تصورًا لدور الموساد في المرحلة المقبلة، يقوم على تعزيز الارتباط المباشر بمكتب رئيس الوزراء، وتضييق دائرة صنع القرار، وتقديم القدرة على التنفيذ والتكتم على الاعتبارات المهنية التقليدية. وهو تصور ينسجم مع إدارة نتنياهو لتداعيات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حيث باتت السيطرة السياسية على الأجهزة الأمنية أولوية، في ظل تآكل الثقة بالمستويات القيادية السابقة، وتصاعد الضغوط الداخلية والخارجية.
الجزيرة + مواقع إلكترونية
أخبار اليوم - في صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، غادر ضابط الجيش رومان غوفمان منزله في أشدود باتجاه الجنوب، بعد تقارير عن تسلل مقاتلين من كتائب القسام إلى محيط مدينة سديروت. كانت الساعات الأولى للهجوم قد كشفت ارتباكًا واسعًا في المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وانتشرت المواجهات في نقاط متفرقة دون قيادة مركزية واضحة.
عند مفترق شعار هنيغف، انضم غوفمان إلى متطوعين من الشرطة، وشارك في اشتباكات مباشرة مع مسلحين من حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، قبل أن يُصاب بجروح خطيرة في الركبة.
في ذلك اليوم، سُجّل اسمه بوصفه أعلى ضابط رتبة يُصاب خلال الهجوم، في واقعة تحولت لاحقًا إلى جزء من رحلة صعوده السريع إلى منصب السكرتير العسكري لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، قبل أن يُعلن لاحقًا عن ترشيحه لقيادة جهاز الموساد.
نتنياهو يطيح بالقيادة العسكرية والأمنية
وفق الواقع الأمني والسياسي الذي يتغير بسرعة في عالم اليوم، تُصدر الولايات المتحدة إستراتيجيات أمن قومي تعكس توجهات الإدارة الجديدة في مستهل ولايتها، وتُلحقها بمراجعات دفاعية، كما تعتمد بريطانيا إستراتيجيات أمن قومي وأوراقًا بيضاء تُحدِّد التهديدات والفرص وتوضح أولويات الحكومة.
في المقابل، ورغم المركزية الاستثنائية للأمن في التجربة الإسرائيلية، لم تُنتج إسرائيل عقيدة أمن قومي رسمية تُنظِّم علاقتها بالحرب والسلم، ولم تعتمد إطارًا سياسيًا مُعلنًا يحدِّد حدود استخدام القوة وأولوياتها.
صاغ ديفيد بن غوريون مبادئ عامة للأمن القومي في خمسينيات القرن العشرين، لكنها بقيت إرشادات عملية أكثر منها عقيدة مكتوبة. وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كُلِّفت لجنة ميريدور بإعداد عقيدة رسمية للأمن القومي، غير أن التقرير الذي أنجزته لم يحصل على اعتماد سياسي. لاحقًا، أعدّ جيش الاحتلال الإسرائيلي وثيقة تحدد أسلوب عمله وأهدافه الإستراتيجية والعملياتية في حال نشوب حرب، لكنها انحصرت في البعد العسكري، ولم ترتقِ إلى مستوى عقيدة أمنية شاملة.
في ظل هذا الغياب، تكتسب التعيينات في المناصب الأمنية العليا الإسرائيلية أهمية مضاعفة، باعتبارها مؤشرات على اتجاهات السياسة الأمنية المتوقعة، استنادًا إلى خلفية المسؤول وخبرته وعلاقته بالمستوى السياسي.
ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، دخلت منظومة الأمن الإسرائيلية مرحلة إعادة تشكيل، انعكست عمليًا في تغييرات متتابعة طالت قادة المؤسسات الأكثر حساسية، في سياق محاولة إدارة تداعيات الإخفاق الأمني وإحكام قبضة نتنياهو على دائرة صنع القرار.
ترجمت هذه المقاربة عمليًا في سلسلة تغييرات متلاحقة داخل قمة الهرم الأمني. بدأ المسار باستقالة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أهارون هاليفا في أبريل/نيسان 2024، بعد تحمّله مسؤولية الإخفاق في التحذير من هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
لاحقًا، انتقلت الأزمة إلى منصب وزير الدفاع، حيث تآكلت الثقة السياسية بين نتنياهو وغالانت، وظهرت الخلافات بينهما علنًا حول إدارة الحرب وسقفها السياسي والعسكري، قبل أن تنتهي بإقالة غالانت في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 وتعيين يسرائيل كاتس بدلًا منه.
ولم تتوقف إعادة التشكيل عند هذا الحد، إذ قدّم رئيس الأركان هرتسي هاليفي استقالته مطلع عام 2025، في سياق تحميل القيادة العسكرية العليا مسؤولية الفشل في التصدي للهجوم. ثم انتقل الضغط إلى جهاز الشاباك، حيث وجد رئيسه رونين بار نفسه في قلب اتهامات مباشرة بفقدان ثقة رئيس الوزراء، على خلفية نتائج التحقيق الداخلي للجهاز في أحداث السابع من أكتوبر.
ومع رفض بار قرار إقالته، تحوّل الخلاف إلى نزاع قضائي، انتهى باستقالته بعد أزمة حادة في العلاقة بين الشاباك ورئاسة الحكومة. اللافت في هذا السياق أن نتنياهو اختار تعيين اللواء ديفيد زيني رئيسًا للشاباك، رغم غياب الخبرة الاستخبارية عن مسيرته المهنية، في خطوة عكست أولوية الاعتبارات السياسية على غيرها من المعايير المؤسسية.
في المقابل، احتل الموساد موقعًا مختلفًا داخل هذه العملية؛ فلم تكن له علاقة بملف غزة، لكن التغييرات في القيادة طالته مع انتهاء فترة خدمة مديره ديدي برنيع المقررة في يونيو/حزيران 2026، بعد خمس سنوات أمضاها في المنصب، وقد أعلن نتنياهو في ديسمبر/كانون الأول 2025 عزمه تعيين سكرتيره العسكري رومان غوفمان في منصب مدير الموساد العام القادم.
وبتغيير وزير الدفاع، وقائد الجيش، ورئيس الشاباك، ورئيس الموساد يعيد نتنياهو بناء دائرة صنع القرار الضيقة حوله، بالدفع بشخصيات يُنظر إليها بوصفها أقرب إلى رؤيته السياسية، وأكثر استعدادًا للعمل في بيئة تتداخل فيها الاعتبارات الأمنية مع حسابات البقاء السياسي، بهدف العبور من تداعيات الإخفاق في 7 أكتوبر/تشرين الأول. وهنا نسلط الضوء على رومان غوفمان وطبيعة منصب السكرتير العسكري الذي مهد لتوليه قيادة الموساد.
سيرة غوفمان الذاتية
وُلد رومان غوفمان عام 1975 في فضاء جغرافي بعيد عن إسرائيل، وبالتحديد في بيلاروسيا، قبل أن تصل به الهجرة رفقة عائلته في عام 1990 مع انهيار الاتحاد السوفياتي إلى أسدود، المدينة الساحلية التي ستتحول لاحقًا إلى نقطة ارتكاز في سيرته الشخصية والمهنية.
في تلك السنوات، كان غوفمان جزءًا من جيل مهاجرين اندمجوا سريعًا في مؤسسات الدولة، حيث تلقّى تعليمه في مدرسة أسدود للضباط البحريين، في بيئة شكّلت مبكرًا علاقته بالانضباط والجيش. وفي عام 1995، التحق بسلاح المدرعات، واختار مسارًا تقليديًا داخل الجيش الإسرائيلي، متنقلًا بين الكتائب والألوية، ومراكِمًا خبرة ميدانية في ساحات قتال متعددة.
خدم غوفمان في الكتيبة 53 التابعة للواء المدرعات 188، وشارك في العمليات العسكرية في جنوب لبنان، ثم انتقل لاحقًا إلى إدارة عمليات في قطاع غزة والضفة الغربية خلال الانتفاضة الثانية وعملية 'السور الواقي'. وتدرّج غوفمان في المناصب القيادية داخل سلاح المدرعات، فتولى عام 2011 قيادة الكتيبة 75 في اللواء المدرع السابع، ثم عُيّن عام 2017 قائدًا للواء نفسه، ما عزّز حضوره داخل هرم القيادة العسكرية، ووسّع شبكة علاقاته داخل المؤسسة الأمنية.
وإلى جانب مسيرته الميدانية، طوّر خلفية أكاديمية في العلوم السياسية، بحصوله على درجة البكالوريوس من كلية أشكلون، ثم درجة الماجستير في العلوم السياسية والأمن القومي من جامعة حيفا، في مسار يجمع بين الخبرة العملياتية والاهتمام بالإطار النظري للأمن.
وبعد تعافيه من الإصابة التي حلّت به يوم السابع من أكتوبر، انتقل غوفمان إلى موقع إداري أمني أكثر قربًا من دوائر الحكم، حيث شغل منصب رئيس أركان منسق أعمال الحكومة في المناطق، وهو موقع أتاح له التعامل مع ملفات مدنية وأمنية معقدة تتقاطع فيها الاعتبارات العسكرية مع البعد السياسي، قبل أن يُستدعى إلى مكتب رئاسة الحكومة سكرتيرًا عسكريًا لنتنياهو في مايو/أيار 2024.
في هذه المرحلة، كتب غوفمان وثيقة دعا فيها إلى فرض إدارة عسكرية في قطاع غزة، في سياق نقاش داخلي حول ترتيبات ما بعد الحرب. ورغم تأكيد الجيش الإسرائيلي أن الوثيقة تعكس رأيًا شخصيًا، فإنها كشفت عن مقاربة أمنية لغوفمان تنسجم مع توجهات سائدة داخل محيط نتنياهو.
هذا القرب من مركز القرار مقرون بتجربته الميدانية وشبكة علاقاته داخل المؤسسة الأمنية، مهّد للانتقال إلى ترشيحه لرئاسة الموساد قادما من خارج الجهاز، في سابقة هي الأولى منذ عام 2002 حين عيّن رئيس الوزراء السابق شارون اللواء مائير داغان مديرا للموساد.
أثار تعيين غوفمان رئيسا للموساد جدلا، في كونه تجاوز نواب المدير ورؤساء الأقسام الذين تدرّجوا سنوات داخل البنية الاستخبارية، ويُنظر إليهم عادة بوصفهم المرشحين الطبيعيين لقيادة الجهاز.
وبرّر نتنياهو خياره بالتركيز على صفات شخصية وميدانية رآها ضرورية لمرحلة ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وقال في بيان رسمي 'لقد أظهر اللواء غوفمان إبداعاً ومبادرة ودهاء وفهماً عميقاً للعدو وتكتماً مطلقاً وحرصاً على حفظ الأسرار. وقد تجلّت هذه الصفات، إلى جانب قيادته وشجاعته، عند اندلاع حرب الفداء، حين هرع من منزله وقاتل بنفسه ضد مقاتلي حماس في غرب النقب، حيث أصيب بجروح بالغة'.
وبخلاف زيني رئيس الشاباك، فإن منصب غوفمان كسكرتير عسكري لرئيس الوزراء أتاح له الاطلاع على كواليس صنع القرارات العسكرية والأمنية، كما أن تعيينه مديرا للموساد له سابقة تتمثل في تعيين داني ياتوم السكرتير العسكري '1993-1996' لرئيس الوزراء رابين رئيسا للموساد '1996-1998″، قبل أن تطيح به تداعيات محاولة الاغتيال الفاشلة لخالد مشعل في الأردن عام 1997.
دور السكرتير العسكري لرئيس الوزراء
بينما تتوافر الكتب والدراسات التي تتناول بنية وتاريخ وتطور الجيش الإسرائيلي والموساد والشاباك، فتندر الأدبيات التي تتناول منصب السكرتير العسكري لرئيس الوزراء وأهميته رغم تدشينه في عام 1948، وشغل نحو 18 شخصا له، ومنهم شخصيات بارزة مثل وزير الدفاع الأسبق يواف غالانت الذي عمل سكرتيرا عسكريا في الفترة '2002-2005″، وكذلك رئيس أركان الجيش الحالي إيال زامير الذي عمل سكرتيرا عسكريا لنتنياهو منذ عام 2012 حتى عام 2015.
تعد دراسة شموئيل إيفين بعنوان 'السكرتير العسكري عند مفترق طرق' التي نشرها معهد الأمن القومي الإسرائيلي هي الأبرز في بابها، حيث ناقشت مسؤوليات السكرتير العسكري من خلال لقاءات مع بعض من شغلوا المنصب.
بحسب شموئيل إيفين، يشغل السكرتير العسكري لرئيس الوزراء موقعًا محوريًا داخل منظومة الحكم الإسرائيلية، بوصفه ضابطًا يعمل كقناة اتصال مباشرة بين رئيس الحكومة والجيش والأجهزة الأمنية.
وتتمثل مهامه الأساسية في نقل توجيهات رئيس الوزراء إلى قادة المؤسسة الأمنية، ومتابعة تنفيذها، إضافة إلى فرز المعلومات الاستخبارية والسياسية الواردة من الأجهزة الأمنية ووزارة الخارجية، قبل عرضها على رئيس الحكومة. هذا الدور يمنح السكرتير العسكري قدرة مؤثرة على تحديد ما يصل إلى رئيس الوزراء من معلومات، وبالتالي التأثير في الصورة التي تُبنى عليها القرارات الأمنية.
ويعزز هذا النفوذ حضور السكرتير العسكري الدائم في اللقاءات المغلقة التي تجمع رئيس الوزراء برئيس الأركان، ورئيس الموساد، ورئيس الشاباك، ورئيس هيئة الطاقة الذرية، وممثلي الصناعات الدفاعية. ونتيجة لذلك، يصبح السكرتير العسكري الجهة الوحيدة التي تطّلع على مجمل النقاشات الحساسة داخل الدائرة الضيقة للحكم، بما يجعله مركزًا لتجميع المعرفة الأمنية.
إلى جانب ذلك، يشارك السكرتير العسكري في إعداد جدول أعمال الحكومة والمجلس الوزاري المصغر، وفي تنظيم وتنسيق النقاشات المتعلقة بالقضايا الدفاعية والسياسية، كما يُسمح له بتقديم رأيه في القضايا العملياتية التي تتطلب تدخلًا مباشرًا من رئيس الوزراء. ولا توجد حدود قانونية دقيقة لهذا الدور الاستشاري، إذ تتحدد فعاليته تبعًا لشخصية شاغل المنصب وخلفيته المهنية ومستوى الثقة التي يمنحه إياها رئيس الحكومة.
من الناحية المؤسسية، يخضع جهازا الموساد والشاباك مباشرة لسلطة رئيس الوزراء، في حين يبقى الجيش خارج مسؤوليته القانونية المباشرة، إذ يخضع لرئيس الأركان. هذا الوضع يجعل السكرتير العسكري نقطة الوصل الأساسية بين المستوى السياسي والقيادة العسكرية.
ورغم أن تعيينه يتم رسميًا من رئيس الأركان وبالتشاور مع وزير الدفاع، بعد اختياره من رئيس الوزراء، فإن ولاءه العملي يكون لرئيس الحكومة، وهو ما يحدّ من قدرة رئيس الأركان على التأثير عليه بعد توليه المنصب.
وقد أثار هذا الترتيب إشكاليات قانونية ومؤسسية، خاصة في ضوء قانون الجيش الذي لا يمنح رئيس الوزراء سلطة القيادة العليا على القوات المسلحة، ولا ينص على وجود ضابط برتبة لواء يعمل خارج تسلسل القيادة العسكرية، وهو ما واجه اعتراضات داخلية وتشكيكًا في ملاءمة هذه الرتبة لطبيعة المنصب.
وامتد الجدل إلى العلاقة مع مجلس الأمن القومي، الذي أُنشئ بقانون عام 2008 دون تحديد واضح لموقع السكرتير العسكري ضمن صلاحياته. هذا الغموض أبقى التنافس قائمًا بين الطرفين، حيث يسعى السكرتير العسكري إلى الاحتفاظ بدور مركزي في تقييم القضايا الأمنية، مقابل دور مهني يفترض أن يؤديه مجلس الأمن القومي عبر طواقم متخصصة.
وفي هذا السياق، فضّلت رئاسة الحكومة الاعتماد على السكرتير العسكري بوصفه مساعدًا شخصيًا موثوقًا، قادرًا على إدارة الملفات الحساسة داخل دائرة محدودة، مع تقليص مخاطر تسريب المعلومات، بما يمنح الاعتبارات الشخصية أولوية على العمل المؤسسي الأوسع.
إن منصب السكرتير العسكري يساهم في إدارة التوازنات داخل منظومة الأمن القومي الإسرائيلي التي تفتقر إلى مرجعية مكتوبة، وتُدار عمليا عبر شبكة علاقات، يكون فيها القرب من رئيس الحكومة عامل التأثير الأساسي.
ويعكس اختيار غوفمان تصورًا لدور الموساد في المرحلة المقبلة، يقوم على تعزيز الارتباط المباشر بمكتب رئيس الوزراء، وتضييق دائرة صنع القرار، وتقديم القدرة على التنفيذ والتكتم على الاعتبارات المهنية التقليدية. وهو تصور ينسجم مع إدارة نتنياهو لتداعيات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حيث باتت السيطرة السياسية على الأجهزة الأمنية أولوية، في ظل تآكل الثقة بالمستويات القيادية السابقة، وتصاعد الضغوط الداخلية والخارجية.
الجزيرة + مواقع إلكترونية
أخبار اليوم - في صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، غادر ضابط الجيش رومان غوفمان منزله في أشدود باتجاه الجنوب، بعد تقارير عن تسلل مقاتلين من كتائب القسام إلى محيط مدينة سديروت. كانت الساعات الأولى للهجوم قد كشفت ارتباكًا واسعًا في المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وانتشرت المواجهات في نقاط متفرقة دون قيادة مركزية واضحة.
عند مفترق شعار هنيغف، انضم غوفمان إلى متطوعين من الشرطة، وشارك في اشتباكات مباشرة مع مسلحين من حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، قبل أن يُصاب بجروح خطيرة في الركبة.
في ذلك اليوم، سُجّل اسمه بوصفه أعلى ضابط رتبة يُصاب خلال الهجوم، في واقعة تحولت لاحقًا إلى جزء من رحلة صعوده السريع إلى منصب السكرتير العسكري لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، قبل أن يُعلن لاحقًا عن ترشيحه لقيادة جهاز الموساد.
نتنياهو يطيح بالقيادة العسكرية والأمنية
وفق الواقع الأمني والسياسي الذي يتغير بسرعة في عالم اليوم، تُصدر الولايات المتحدة إستراتيجيات أمن قومي تعكس توجهات الإدارة الجديدة في مستهل ولايتها، وتُلحقها بمراجعات دفاعية، كما تعتمد بريطانيا إستراتيجيات أمن قومي وأوراقًا بيضاء تُحدِّد التهديدات والفرص وتوضح أولويات الحكومة.
في المقابل، ورغم المركزية الاستثنائية للأمن في التجربة الإسرائيلية، لم تُنتج إسرائيل عقيدة أمن قومي رسمية تُنظِّم علاقتها بالحرب والسلم، ولم تعتمد إطارًا سياسيًا مُعلنًا يحدِّد حدود استخدام القوة وأولوياتها.
صاغ ديفيد بن غوريون مبادئ عامة للأمن القومي في خمسينيات القرن العشرين، لكنها بقيت إرشادات عملية أكثر منها عقيدة مكتوبة. وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كُلِّفت لجنة ميريدور بإعداد عقيدة رسمية للأمن القومي، غير أن التقرير الذي أنجزته لم يحصل على اعتماد سياسي. لاحقًا، أعدّ جيش الاحتلال الإسرائيلي وثيقة تحدد أسلوب عمله وأهدافه الإستراتيجية والعملياتية في حال نشوب حرب، لكنها انحصرت في البعد العسكري، ولم ترتقِ إلى مستوى عقيدة أمنية شاملة.
في ظل هذا الغياب، تكتسب التعيينات في المناصب الأمنية العليا الإسرائيلية أهمية مضاعفة، باعتبارها مؤشرات على اتجاهات السياسة الأمنية المتوقعة، استنادًا إلى خلفية المسؤول وخبرته وعلاقته بالمستوى السياسي.
ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، دخلت منظومة الأمن الإسرائيلية مرحلة إعادة تشكيل، انعكست عمليًا في تغييرات متتابعة طالت قادة المؤسسات الأكثر حساسية، في سياق محاولة إدارة تداعيات الإخفاق الأمني وإحكام قبضة نتنياهو على دائرة صنع القرار.
ترجمت هذه المقاربة عمليًا في سلسلة تغييرات متلاحقة داخل قمة الهرم الأمني. بدأ المسار باستقالة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أهارون هاليفا في أبريل/نيسان 2024، بعد تحمّله مسؤولية الإخفاق في التحذير من هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
لاحقًا، انتقلت الأزمة إلى منصب وزير الدفاع، حيث تآكلت الثقة السياسية بين نتنياهو وغالانت، وظهرت الخلافات بينهما علنًا حول إدارة الحرب وسقفها السياسي والعسكري، قبل أن تنتهي بإقالة غالانت في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 وتعيين يسرائيل كاتس بدلًا منه.
ولم تتوقف إعادة التشكيل عند هذا الحد، إذ قدّم رئيس الأركان هرتسي هاليفي استقالته مطلع عام 2025، في سياق تحميل القيادة العسكرية العليا مسؤولية الفشل في التصدي للهجوم. ثم انتقل الضغط إلى جهاز الشاباك، حيث وجد رئيسه رونين بار نفسه في قلب اتهامات مباشرة بفقدان ثقة رئيس الوزراء، على خلفية نتائج التحقيق الداخلي للجهاز في أحداث السابع من أكتوبر.
ومع رفض بار قرار إقالته، تحوّل الخلاف إلى نزاع قضائي، انتهى باستقالته بعد أزمة حادة في العلاقة بين الشاباك ورئاسة الحكومة. اللافت في هذا السياق أن نتنياهو اختار تعيين اللواء ديفيد زيني رئيسًا للشاباك، رغم غياب الخبرة الاستخبارية عن مسيرته المهنية، في خطوة عكست أولوية الاعتبارات السياسية على غيرها من المعايير المؤسسية.
في المقابل، احتل الموساد موقعًا مختلفًا داخل هذه العملية؛ فلم تكن له علاقة بملف غزة، لكن التغييرات في القيادة طالته مع انتهاء فترة خدمة مديره ديدي برنيع المقررة في يونيو/حزيران 2026، بعد خمس سنوات أمضاها في المنصب، وقد أعلن نتنياهو في ديسمبر/كانون الأول 2025 عزمه تعيين سكرتيره العسكري رومان غوفمان في منصب مدير الموساد العام القادم.
وبتغيير وزير الدفاع، وقائد الجيش، ورئيس الشاباك، ورئيس الموساد يعيد نتنياهو بناء دائرة صنع القرار الضيقة حوله، بالدفع بشخصيات يُنظر إليها بوصفها أقرب إلى رؤيته السياسية، وأكثر استعدادًا للعمل في بيئة تتداخل فيها الاعتبارات الأمنية مع حسابات البقاء السياسي، بهدف العبور من تداعيات الإخفاق في 7 أكتوبر/تشرين الأول. وهنا نسلط الضوء على رومان غوفمان وطبيعة منصب السكرتير العسكري الذي مهد لتوليه قيادة الموساد.
سيرة غوفمان الذاتية
وُلد رومان غوفمان عام 1975 في فضاء جغرافي بعيد عن إسرائيل، وبالتحديد في بيلاروسيا، قبل أن تصل به الهجرة رفقة عائلته في عام 1990 مع انهيار الاتحاد السوفياتي إلى أسدود، المدينة الساحلية التي ستتحول لاحقًا إلى نقطة ارتكاز في سيرته الشخصية والمهنية.
في تلك السنوات، كان غوفمان جزءًا من جيل مهاجرين اندمجوا سريعًا في مؤسسات الدولة، حيث تلقّى تعليمه في مدرسة أسدود للضباط البحريين، في بيئة شكّلت مبكرًا علاقته بالانضباط والجيش. وفي عام 1995، التحق بسلاح المدرعات، واختار مسارًا تقليديًا داخل الجيش الإسرائيلي، متنقلًا بين الكتائب والألوية، ومراكِمًا خبرة ميدانية في ساحات قتال متعددة.
خدم غوفمان في الكتيبة 53 التابعة للواء المدرعات 188، وشارك في العمليات العسكرية في جنوب لبنان، ثم انتقل لاحقًا إلى إدارة عمليات في قطاع غزة والضفة الغربية خلال الانتفاضة الثانية وعملية 'السور الواقي'. وتدرّج غوفمان في المناصب القيادية داخل سلاح المدرعات، فتولى عام 2011 قيادة الكتيبة 75 في اللواء المدرع السابع، ثم عُيّن عام 2017 قائدًا للواء نفسه، ما عزّز حضوره داخل هرم القيادة العسكرية، ووسّع شبكة علاقاته داخل المؤسسة الأمنية.
وإلى جانب مسيرته الميدانية، طوّر خلفية أكاديمية في العلوم السياسية، بحصوله على درجة البكالوريوس من كلية أشكلون، ثم درجة الماجستير في العلوم السياسية والأمن القومي من جامعة حيفا، في مسار يجمع بين الخبرة العملياتية والاهتمام بالإطار النظري للأمن.
وبعد تعافيه من الإصابة التي حلّت به يوم السابع من أكتوبر، انتقل غوفمان إلى موقع إداري أمني أكثر قربًا من دوائر الحكم، حيث شغل منصب رئيس أركان منسق أعمال الحكومة في المناطق، وهو موقع أتاح له التعامل مع ملفات مدنية وأمنية معقدة تتقاطع فيها الاعتبارات العسكرية مع البعد السياسي، قبل أن يُستدعى إلى مكتب رئاسة الحكومة سكرتيرًا عسكريًا لنتنياهو في مايو/أيار 2024.
في هذه المرحلة، كتب غوفمان وثيقة دعا فيها إلى فرض إدارة عسكرية في قطاع غزة، في سياق نقاش داخلي حول ترتيبات ما بعد الحرب. ورغم تأكيد الجيش الإسرائيلي أن الوثيقة تعكس رأيًا شخصيًا، فإنها كشفت عن مقاربة أمنية لغوفمان تنسجم مع توجهات سائدة داخل محيط نتنياهو.
هذا القرب من مركز القرار مقرون بتجربته الميدانية وشبكة علاقاته داخل المؤسسة الأمنية، مهّد للانتقال إلى ترشيحه لرئاسة الموساد قادما من خارج الجهاز، في سابقة هي الأولى منذ عام 2002 حين عيّن رئيس الوزراء السابق شارون اللواء مائير داغان مديرا للموساد.
أثار تعيين غوفمان رئيسا للموساد جدلا، في كونه تجاوز نواب المدير ورؤساء الأقسام الذين تدرّجوا سنوات داخل البنية الاستخبارية، ويُنظر إليهم عادة بوصفهم المرشحين الطبيعيين لقيادة الجهاز.
وبرّر نتنياهو خياره بالتركيز على صفات شخصية وميدانية رآها ضرورية لمرحلة ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وقال في بيان رسمي 'لقد أظهر اللواء غوفمان إبداعاً ومبادرة ودهاء وفهماً عميقاً للعدو وتكتماً مطلقاً وحرصاً على حفظ الأسرار. وقد تجلّت هذه الصفات، إلى جانب قيادته وشجاعته، عند اندلاع حرب الفداء، حين هرع من منزله وقاتل بنفسه ضد مقاتلي حماس في غرب النقب، حيث أصيب بجروح بالغة'.
وبخلاف زيني رئيس الشاباك، فإن منصب غوفمان كسكرتير عسكري لرئيس الوزراء أتاح له الاطلاع على كواليس صنع القرارات العسكرية والأمنية، كما أن تعيينه مديرا للموساد له سابقة تتمثل في تعيين داني ياتوم السكرتير العسكري '1993-1996' لرئيس الوزراء رابين رئيسا للموساد '1996-1998″، قبل أن تطيح به تداعيات محاولة الاغتيال الفاشلة لخالد مشعل في الأردن عام 1997.
دور السكرتير العسكري لرئيس الوزراء
بينما تتوافر الكتب والدراسات التي تتناول بنية وتاريخ وتطور الجيش الإسرائيلي والموساد والشاباك، فتندر الأدبيات التي تتناول منصب السكرتير العسكري لرئيس الوزراء وأهميته رغم تدشينه في عام 1948، وشغل نحو 18 شخصا له، ومنهم شخصيات بارزة مثل وزير الدفاع الأسبق يواف غالانت الذي عمل سكرتيرا عسكريا في الفترة '2002-2005″، وكذلك رئيس أركان الجيش الحالي إيال زامير الذي عمل سكرتيرا عسكريا لنتنياهو منذ عام 2012 حتى عام 2015.
تعد دراسة شموئيل إيفين بعنوان 'السكرتير العسكري عند مفترق طرق' التي نشرها معهد الأمن القومي الإسرائيلي هي الأبرز في بابها، حيث ناقشت مسؤوليات السكرتير العسكري من خلال لقاءات مع بعض من شغلوا المنصب.
بحسب شموئيل إيفين، يشغل السكرتير العسكري لرئيس الوزراء موقعًا محوريًا داخل منظومة الحكم الإسرائيلية، بوصفه ضابطًا يعمل كقناة اتصال مباشرة بين رئيس الحكومة والجيش والأجهزة الأمنية.
وتتمثل مهامه الأساسية في نقل توجيهات رئيس الوزراء إلى قادة المؤسسة الأمنية، ومتابعة تنفيذها، إضافة إلى فرز المعلومات الاستخبارية والسياسية الواردة من الأجهزة الأمنية ووزارة الخارجية، قبل عرضها على رئيس الحكومة. هذا الدور يمنح السكرتير العسكري قدرة مؤثرة على تحديد ما يصل إلى رئيس الوزراء من معلومات، وبالتالي التأثير في الصورة التي تُبنى عليها القرارات الأمنية.
ويعزز هذا النفوذ حضور السكرتير العسكري الدائم في اللقاءات المغلقة التي تجمع رئيس الوزراء برئيس الأركان، ورئيس الموساد، ورئيس الشاباك، ورئيس هيئة الطاقة الذرية، وممثلي الصناعات الدفاعية. ونتيجة لذلك، يصبح السكرتير العسكري الجهة الوحيدة التي تطّلع على مجمل النقاشات الحساسة داخل الدائرة الضيقة للحكم، بما يجعله مركزًا لتجميع المعرفة الأمنية.
إلى جانب ذلك، يشارك السكرتير العسكري في إعداد جدول أعمال الحكومة والمجلس الوزاري المصغر، وفي تنظيم وتنسيق النقاشات المتعلقة بالقضايا الدفاعية والسياسية، كما يُسمح له بتقديم رأيه في القضايا العملياتية التي تتطلب تدخلًا مباشرًا من رئيس الوزراء. ولا توجد حدود قانونية دقيقة لهذا الدور الاستشاري، إذ تتحدد فعاليته تبعًا لشخصية شاغل المنصب وخلفيته المهنية ومستوى الثقة التي يمنحه إياها رئيس الحكومة.
من الناحية المؤسسية، يخضع جهازا الموساد والشاباك مباشرة لسلطة رئيس الوزراء، في حين يبقى الجيش خارج مسؤوليته القانونية المباشرة، إذ يخضع لرئيس الأركان. هذا الوضع يجعل السكرتير العسكري نقطة الوصل الأساسية بين المستوى السياسي والقيادة العسكرية.
ورغم أن تعيينه يتم رسميًا من رئيس الأركان وبالتشاور مع وزير الدفاع، بعد اختياره من رئيس الوزراء، فإن ولاءه العملي يكون لرئيس الحكومة، وهو ما يحدّ من قدرة رئيس الأركان على التأثير عليه بعد توليه المنصب.
وقد أثار هذا الترتيب إشكاليات قانونية ومؤسسية، خاصة في ضوء قانون الجيش الذي لا يمنح رئيس الوزراء سلطة القيادة العليا على القوات المسلحة، ولا ينص على وجود ضابط برتبة لواء يعمل خارج تسلسل القيادة العسكرية، وهو ما واجه اعتراضات داخلية وتشكيكًا في ملاءمة هذه الرتبة لطبيعة المنصب.
وامتد الجدل إلى العلاقة مع مجلس الأمن القومي، الذي أُنشئ بقانون عام 2008 دون تحديد واضح لموقع السكرتير العسكري ضمن صلاحياته. هذا الغموض أبقى التنافس قائمًا بين الطرفين، حيث يسعى السكرتير العسكري إلى الاحتفاظ بدور مركزي في تقييم القضايا الأمنية، مقابل دور مهني يفترض أن يؤديه مجلس الأمن القومي عبر طواقم متخصصة.
وفي هذا السياق، فضّلت رئاسة الحكومة الاعتماد على السكرتير العسكري بوصفه مساعدًا شخصيًا موثوقًا، قادرًا على إدارة الملفات الحساسة داخل دائرة محدودة، مع تقليص مخاطر تسريب المعلومات، بما يمنح الاعتبارات الشخصية أولوية على العمل المؤسسي الأوسع.
إن منصب السكرتير العسكري يساهم في إدارة التوازنات داخل منظومة الأمن القومي الإسرائيلي التي تفتقر إلى مرجعية مكتوبة، وتُدار عمليا عبر شبكة علاقات، يكون فيها القرب من رئيس الحكومة عامل التأثير الأساسي.
ويعكس اختيار غوفمان تصورًا لدور الموساد في المرحلة المقبلة، يقوم على تعزيز الارتباط المباشر بمكتب رئيس الوزراء، وتضييق دائرة صنع القرار، وتقديم القدرة على التنفيذ والتكتم على الاعتبارات المهنية التقليدية. وهو تصور ينسجم مع إدارة نتنياهو لتداعيات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حيث باتت السيطرة السياسية على الأجهزة الأمنية أولوية، في ظل تآكل الثقة بالمستويات القيادية السابقة، وتصاعد الضغوط الداخلية والخارجية.
الجزيرة + مواقع إلكترونية
التعليقات