أخبار اليوم - 'ما كنت أتوقع أن أعيش هذا مرتين.. وكأن الوجع يلاحقني في كل محطة من حياتي'، بهذه الكلمات بدأ أحمد حسني أبو عربية (38 عامًا) من سكان جباليا النزلة حديثه عن سنوات الألم التي عاشها لـ 'فلسطين أون لاين'، التي لا تزال مستمرة، بين إصابتين، لا يفصل بينهما سوى بعض الأيام.
أحمد، الشاب الذي اعتاد أن يكون المعيل لعائلته، تنقّل بين عمل وآخر ليؤمّن قوت يومه، كان بسيطًا بطموحه لكنه عظيمٌ في عزيمته، لم يتوقع أن تتحول حياته إلى قائمة من المواعيد الطبية، وأشعة، وجلسات علاج، وأدوية يضطر لشرائها رغم الظروف المادية القاسية.
ففي الأسبوع الأول من الحرب، ومع اشتداد القصف على شمال القطاع، اضطر للنزوح من منزله مع زوجته، بحثًا عن مأوى أكثر أمانًا، لجأ إلى بيت أهل زوجته في منطقة الشيخ رضوان، ظنًا أن المسافة من الخطر، لكن الحرب لا تفرّق بين بيت وآخر.
يوضح أنه خلال زيارة له إلى زوجته هناك، دوى انفجار هائل في الحي، فقد استهدفت طائرات الاحتلال البيت المجاور بشكل مباشر، وسقطت الشظايا في المكان كالمطر، فوقع عامود من الباطون على رأسه وأصابته وسالت الدماء بغزارة.
'كل اللي شفته كان ظلمة.. بعدين وجوه الناس وهي بتصرخ'، يروي أحمد.
نُقل إلى المستشفى، وهناك أُجريت له عملية خياطة للرأس بـ38 غرزة، لم تكن الإصابة جسدية فقط، بل عصفت بجهازه العصبي، وأثرت على سلوكه وانفعالاته بشكل واضح، منذ تلك اللحظة، تغيّر أحمد، بات أكثر عصبية وحدة، لا يتحمل الضجيج ولا حتى أسئلة البسيطة ممن حوله.
وفي 18 أكتوبر 2023، وبعد أقل من أسبوع على إصابته الأولى، تلقى أحمد صفعة أخرى من الحرب، أشد وجعًا وأعمق أثرًا.
ومع ساعات الفجر الأولى، كان لا يزال أحمد يتشبث في بيته في جباليا النزلة، يؤدي صلاته بخشوع، يطلب الرحمة والسلام لعائلته المحاصرة بالخوف والقلق، لكن ما إن انتهى من صلاته حتى دوّى انفجار رهيب هزّ الحي بأكمله. قصف إسرائيلي استهدف منطقة سكنية مأهولة، تطايرت الشظايا، وتهاوت الجدران فوق رؤوس الآمنين.
فأُصيب إصابة بالغة، شظية اخترقت عينه اليسرى وتسببت في فقدانها بالكامل، وكسور حادة طالت وجهه وفكه، فيما استقرت شظيتان في دماغه، جعلت حالته حرجة للغاية.
وما بين الإصابة الأولى التي أثرت على سلوكه، والثانية التي أفقدته عينه واستقرت شظاياها في دماغه، يعيش أحمد اليوم حالة من الانهيار الصحي والنفسي، فلا يزال يعاني من آلام في الرأس، وضعف في التركيز، وصعوبة في الأكل بسبب كسور الفك. كما أن عينه اليمنى بدأت تعاني من ضعف في النظر.
'أشعر أن جسدي لم يعد لي، حتى أفكاري ليست كما كانت'، يهمس أحمد بصوت بالكاد يسمع.
وحين نُقل أحمد إلى المستشفى، كان جسده ساكنًا بلا حراك، وجهه مغطى بالدماء، أنفاسه بالكاد تُسمع، بدا للجميع وكأن الروح قد فارقته، حتى أن الطواقم الطبية – وسط حالة الطوارئ والدمار الهائل – وضعته في عداد الشهداء، بالقرب من ثلاجات الموتى.
ويضيف أحمد بصوت خافت: 'كان عدد الشهداء كبير كتير... واللي ما بيشوفوه بيتحرك، بيحطوه على جنب عند الثلاجات، وأنا كنت واحد منهم. سمعتهم بينادوا بالأسماء، بس ما قدرت أرد، حتى صوتي ما طلع'.
لم يكن استشهادًا، لكنه كان أقرب ما يكون إليه، لحظة ضبابية تفصل بين الحياة والموت، بقي فيها حبيس جسد لا يتحرك، وذاكرة مشوشة.
ومع بزوغ أولى خيوط الشمس، وبعد ثلاث ساعات من إصابته، كان جسده لا يزال ممددًا قرب ثلاجات الموتى، لم يكن أحد يتوقع أن أحمد لا يزال يتنفس.
سارع شقيقه ومن حوله لحمله، وأُدخل على الفور إلى الداخل، وهناك أدرك الأطباء أنه لا يزال حيًا، لكنه في وضع صحي بالغ الخطورة.
تم نقله من مستشفى الإندونيسي إلى مستشفى العيون بسبب إصابة بليغة في عينه اليسرى، والتي فقدها بالكامل، ثم إلى مستشفى الشفاء، حيث بدأت رحلة طويلة من العمليات والجراحات الدقيقة.
ويسرد أحمد: 'بعد شهرٍ ونصف من الغيبوبة والعمليات الجراحية المتتالية، استيقظت ولم أكن مدركًا إن كنت في الدنيا أم لا'، وأول ما شعر به هو أنفاسه الثقيلة وصمتٌ داخلي يملأ جسده، حاول أن يتحدث... لكن فكه المكسور لم يسعفه.
وقد كان حوله أشقاؤه، يخفون عنه الحقيقة كاملة، يخبرونه أن حالته 'بسيطة' حتى لا ينهار نفسيًا، بينما هو كان يشعر بوجعه في كل عظمة من جسده، فلم يكن يعرف بعد أن عينه اليسرى قد فُقدت تمامًا، وأن وجهه لم يعد كما كان، وأن شظيتين مستقرتان في دماغه.
وانتظر أحمد حتى موعد الغيار على الجرح وطلب منهم مرآة فرفضوا وقال لهم 'أنا مش حموت.. بس شو صار فيا؟ فقالوا لي حينها عينك بعوض الله، لم استوعب الخبر وجلست أبكي وتعبت نفسيًا'.
مرت الأيام ثقيلة، وكان الألم أكبر من أن يُحتمل. أحمد لم يكن فقط يتعافى من إصابة جسدية، بل كان يحاول لملمة ما تبقى من روحه، أصبحت حركة وجهه محدودة، لا يستطيع النوم على الجهة اليسرى، يتناول طعامه بصعوبة، كان قلبه يردد: 'الحمد لله... لسه عايش'.
لم تتوقف معاناة أحمد عند حدود الإصابة، فبعد فقدانه لعينه اليسرى، بدأت عينه الأخرى تئن تحت وطأة الضغط المتزايد عليها، يقول بصوتٍ مليء بالوجع: 'صرت أصحى كل يوم والدمع سايح، معاه قيح وريحة كريهة، كأني كل يوم بصحى على وجهي مشوّه أكتر'.
تشخيص الأطباء كان واضحًا ضمور كامل في العين اليسرى وتسديد في مجرى الدمع، ما أدى لتراكم الإفرازات وتحولها إلى مصدر دائم للالتهاب والألم والرائحة الكريهة. أما العين اليمنى، فبدأت تضعف شيئًا فشيئًا نتيجة الضغط المضاعف عليها، لتتسلل الظلمة تدريجيًا إلى حياته.
كما أنه حتى اليوم يوجد شظية في رأسه بالقرب من الدماغ رفض الأطباء إجراء طبي لها كونها تحتاج إلى إمكانيات ومعدات غير متوفرة، وهناك كسور في الوجه بحاجة إلى بلاتين داخلي والتدخل الجراحي الحساس كونها تؤثر على أعصاب وحواس الوجه.
ينتظر بفارغ الصبر فتح المعبر للسفر واستكمال علاجه فحتى اليوم يعيش على الإبر والمسكنات، فالبرودة والشتاء تزيد من اوجاعه بالإضافة إلى أنه بفعل الإصابة قد بات يشعر بكهرباء في كتفه الأيسر.
وما يزيد وجعه أنه تنقل قبل الحرب بين مهن مختلفة من العمل على سيارة أجرة أو كصياد بعد أن فصلته السلطة الفلسطينية من عمله في بداية مشواره المهني، واليوم الإصابة تزيد من معاناته فلا يتمكن من العمل في ظل تراكم الديون عليه والتي بلغت 10 آلاف دولار.
كما أن بيته في جباليا لم يعد صالحا للسكن بسبب الحرب وحاول بقدر استطاعته استصلاحه والسكن فيه، ولكن في ظل المنخفضات وتسرب مياه الأمطار يضطر إلى الانتقال لبيت أهل زوجته ليعيش معاناة مستمرة.
المصدر / فلسطين أون لاين
أخبار اليوم - 'ما كنت أتوقع أن أعيش هذا مرتين.. وكأن الوجع يلاحقني في كل محطة من حياتي'، بهذه الكلمات بدأ أحمد حسني أبو عربية (38 عامًا) من سكان جباليا النزلة حديثه عن سنوات الألم التي عاشها لـ 'فلسطين أون لاين'، التي لا تزال مستمرة، بين إصابتين، لا يفصل بينهما سوى بعض الأيام.
أحمد، الشاب الذي اعتاد أن يكون المعيل لعائلته، تنقّل بين عمل وآخر ليؤمّن قوت يومه، كان بسيطًا بطموحه لكنه عظيمٌ في عزيمته، لم يتوقع أن تتحول حياته إلى قائمة من المواعيد الطبية، وأشعة، وجلسات علاج، وأدوية يضطر لشرائها رغم الظروف المادية القاسية.
ففي الأسبوع الأول من الحرب، ومع اشتداد القصف على شمال القطاع، اضطر للنزوح من منزله مع زوجته، بحثًا عن مأوى أكثر أمانًا، لجأ إلى بيت أهل زوجته في منطقة الشيخ رضوان، ظنًا أن المسافة من الخطر، لكن الحرب لا تفرّق بين بيت وآخر.
يوضح أنه خلال زيارة له إلى زوجته هناك، دوى انفجار هائل في الحي، فقد استهدفت طائرات الاحتلال البيت المجاور بشكل مباشر، وسقطت الشظايا في المكان كالمطر، فوقع عامود من الباطون على رأسه وأصابته وسالت الدماء بغزارة.
'كل اللي شفته كان ظلمة.. بعدين وجوه الناس وهي بتصرخ'، يروي أحمد.
نُقل إلى المستشفى، وهناك أُجريت له عملية خياطة للرأس بـ38 غرزة، لم تكن الإصابة جسدية فقط، بل عصفت بجهازه العصبي، وأثرت على سلوكه وانفعالاته بشكل واضح، منذ تلك اللحظة، تغيّر أحمد، بات أكثر عصبية وحدة، لا يتحمل الضجيج ولا حتى أسئلة البسيطة ممن حوله.
وفي 18 أكتوبر 2023، وبعد أقل من أسبوع على إصابته الأولى، تلقى أحمد صفعة أخرى من الحرب، أشد وجعًا وأعمق أثرًا.
ومع ساعات الفجر الأولى، كان لا يزال أحمد يتشبث في بيته في جباليا النزلة، يؤدي صلاته بخشوع، يطلب الرحمة والسلام لعائلته المحاصرة بالخوف والقلق، لكن ما إن انتهى من صلاته حتى دوّى انفجار رهيب هزّ الحي بأكمله. قصف إسرائيلي استهدف منطقة سكنية مأهولة، تطايرت الشظايا، وتهاوت الجدران فوق رؤوس الآمنين.
فأُصيب إصابة بالغة، شظية اخترقت عينه اليسرى وتسببت في فقدانها بالكامل، وكسور حادة طالت وجهه وفكه، فيما استقرت شظيتان في دماغه، جعلت حالته حرجة للغاية.
وما بين الإصابة الأولى التي أثرت على سلوكه، والثانية التي أفقدته عينه واستقرت شظاياها في دماغه، يعيش أحمد اليوم حالة من الانهيار الصحي والنفسي، فلا يزال يعاني من آلام في الرأس، وضعف في التركيز، وصعوبة في الأكل بسبب كسور الفك. كما أن عينه اليمنى بدأت تعاني من ضعف في النظر.
'أشعر أن جسدي لم يعد لي، حتى أفكاري ليست كما كانت'، يهمس أحمد بصوت بالكاد يسمع.
وحين نُقل أحمد إلى المستشفى، كان جسده ساكنًا بلا حراك، وجهه مغطى بالدماء، أنفاسه بالكاد تُسمع، بدا للجميع وكأن الروح قد فارقته، حتى أن الطواقم الطبية – وسط حالة الطوارئ والدمار الهائل – وضعته في عداد الشهداء، بالقرب من ثلاجات الموتى.
ويضيف أحمد بصوت خافت: 'كان عدد الشهداء كبير كتير... واللي ما بيشوفوه بيتحرك، بيحطوه على جنب عند الثلاجات، وأنا كنت واحد منهم. سمعتهم بينادوا بالأسماء، بس ما قدرت أرد، حتى صوتي ما طلع'.
لم يكن استشهادًا، لكنه كان أقرب ما يكون إليه، لحظة ضبابية تفصل بين الحياة والموت، بقي فيها حبيس جسد لا يتحرك، وذاكرة مشوشة.
ومع بزوغ أولى خيوط الشمس، وبعد ثلاث ساعات من إصابته، كان جسده لا يزال ممددًا قرب ثلاجات الموتى، لم يكن أحد يتوقع أن أحمد لا يزال يتنفس.
سارع شقيقه ومن حوله لحمله، وأُدخل على الفور إلى الداخل، وهناك أدرك الأطباء أنه لا يزال حيًا، لكنه في وضع صحي بالغ الخطورة.
تم نقله من مستشفى الإندونيسي إلى مستشفى العيون بسبب إصابة بليغة في عينه اليسرى، والتي فقدها بالكامل، ثم إلى مستشفى الشفاء، حيث بدأت رحلة طويلة من العمليات والجراحات الدقيقة.
ويسرد أحمد: 'بعد شهرٍ ونصف من الغيبوبة والعمليات الجراحية المتتالية، استيقظت ولم أكن مدركًا إن كنت في الدنيا أم لا'، وأول ما شعر به هو أنفاسه الثقيلة وصمتٌ داخلي يملأ جسده، حاول أن يتحدث... لكن فكه المكسور لم يسعفه.
وقد كان حوله أشقاؤه، يخفون عنه الحقيقة كاملة، يخبرونه أن حالته 'بسيطة' حتى لا ينهار نفسيًا، بينما هو كان يشعر بوجعه في كل عظمة من جسده، فلم يكن يعرف بعد أن عينه اليسرى قد فُقدت تمامًا، وأن وجهه لم يعد كما كان، وأن شظيتين مستقرتان في دماغه.
وانتظر أحمد حتى موعد الغيار على الجرح وطلب منهم مرآة فرفضوا وقال لهم 'أنا مش حموت.. بس شو صار فيا؟ فقالوا لي حينها عينك بعوض الله، لم استوعب الخبر وجلست أبكي وتعبت نفسيًا'.
مرت الأيام ثقيلة، وكان الألم أكبر من أن يُحتمل. أحمد لم يكن فقط يتعافى من إصابة جسدية، بل كان يحاول لملمة ما تبقى من روحه، أصبحت حركة وجهه محدودة، لا يستطيع النوم على الجهة اليسرى، يتناول طعامه بصعوبة، كان قلبه يردد: 'الحمد لله... لسه عايش'.
لم تتوقف معاناة أحمد عند حدود الإصابة، فبعد فقدانه لعينه اليسرى، بدأت عينه الأخرى تئن تحت وطأة الضغط المتزايد عليها، يقول بصوتٍ مليء بالوجع: 'صرت أصحى كل يوم والدمع سايح، معاه قيح وريحة كريهة، كأني كل يوم بصحى على وجهي مشوّه أكتر'.
تشخيص الأطباء كان واضحًا ضمور كامل في العين اليسرى وتسديد في مجرى الدمع، ما أدى لتراكم الإفرازات وتحولها إلى مصدر دائم للالتهاب والألم والرائحة الكريهة. أما العين اليمنى، فبدأت تضعف شيئًا فشيئًا نتيجة الضغط المضاعف عليها، لتتسلل الظلمة تدريجيًا إلى حياته.
كما أنه حتى اليوم يوجد شظية في رأسه بالقرب من الدماغ رفض الأطباء إجراء طبي لها كونها تحتاج إلى إمكانيات ومعدات غير متوفرة، وهناك كسور في الوجه بحاجة إلى بلاتين داخلي والتدخل الجراحي الحساس كونها تؤثر على أعصاب وحواس الوجه.
ينتظر بفارغ الصبر فتح المعبر للسفر واستكمال علاجه فحتى اليوم يعيش على الإبر والمسكنات، فالبرودة والشتاء تزيد من اوجاعه بالإضافة إلى أنه بفعل الإصابة قد بات يشعر بكهرباء في كتفه الأيسر.
وما يزيد وجعه أنه تنقل قبل الحرب بين مهن مختلفة من العمل على سيارة أجرة أو كصياد بعد أن فصلته السلطة الفلسطينية من عمله في بداية مشواره المهني، واليوم الإصابة تزيد من معاناته فلا يتمكن من العمل في ظل تراكم الديون عليه والتي بلغت 10 آلاف دولار.
كما أن بيته في جباليا لم يعد صالحا للسكن بسبب الحرب وحاول بقدر استطاعته استصلاحه والسكن فيه، ولكن في ظل المنخفضات وتسرب مياه الأمطار يضطر إلى الانتقال لبيت أهل زوجته ليعيش معاناة مستمرة.
المصدر / فلسطين أون لاين
أخبار اليوم - 'ما كنت أتوقع أن أعيش هذا مرتين.. وكأن الوجع يلاحقني في كل محطة من حياتي'، بهذه الكلمات بدأ أحمد حسني أبو عربية (38 عامًا) من سكان جباليا النزلة حديثه عن سنوات الألم التي عاشها لـ 'فلسطين أون لاين'، التي لا تزال مستمرة، بين إصابتين، لا يفصل بينهما سوى بعض الأيام.
أحمد، الشاب الذي اعتاد أن يكون المعيل لعائلته، تنقّل بين عمل وآخر ليؤمّن قوت يومه، كان بسيطًا بطموحه لكنه عظيمٌ في عزيمته، لم يتوقع أن تتحول حياته إلى قائمة من المواعيد الطبية، وأشعة، وجلسات علاج، وأدوية يضطر لشرائها رغم الظروف المادية القاسية.
ففي الأسبوع الأول من الحرب، ومع اشتداد القصف على شمال القطاع، اضطر للنزوح من منزله مع زوجته، بحثًا عن مأوى أكثر أمانًا، لجأ إلى بيت أهل زوجته في منطقة الشيخ رضوان، ظنًا أن المسافة من الخطر، لكن الحرب لا تفرّق بين بيت وآخر.
يوضح أنه خلال زيارة له إلى زوجته هناك، دوى انفجار هائل في الحي، فقد استهدفت طائرات الاحتلال البيت المجاور بشكل مباشر، وسقطت الشظايا في المكان كالمطر، فوقع عامود من الباطون على رأسه وأصابته وسالت الدماء بغزارة.
'كل اللي شفته كان ظلمة.. بعدين وجوه الناس وهي بتصرخ'، يروي أحمد.
نُقل إلى المستشفى، وهناك أُجريت له عملية خياطة للرأس بـ38 غرزة، لم تكن الإصابة جسدية فقط، بل عصفت بجهازه العصبي، وأثرت على سلوكه وانفعالاته بشكل واضح، منذ تلك اللحظة، تغيّر أحمد، بات أكثر عصبية وحدة، لا يتحمل الضجيج ولا حتى أسئلة البسيطة ممن حوله.
وفي 18 أكتوبر 2023، وبعد أقل من أسبوع على إصابته الأولى، تلقى أحمد صفعة أخرى من الحرب، أشد وجعًا وأعمق أثرًا.
ومع ساعات الفجر الأولى، كان لا يزال أحمد يتشبث في بيته في جباليا النزلة، يؤدي صلاته بخشوع، يطلب الرحمة والسلام لعائلته المحاصرة بالخوف والقلق، لكن ما إن انتهى من صلاته حتى دوّى انفجار رهيب هزّ الحي بأكمله. قصف إسرائيلي استهدف منطقة سكنية مأهولة، تطايرت الشظايا، وتهاوت الجدران فوق رؤوس الآمنين.
فأُصيب إصابة بالغة، شظية اخترقت عينه اليسرى وتسببت في فقدانها بالكامل، وكسور حادة طالت وجهه وفكه، فيما استقرت شظيتان في دماغه، جعلت حالته حرجة للغاية.
وما بين الإصابة الأولى التي أثرت على سلوكه، والثانية التي أفقدته عينه واستقرت شظاياها في دماغه، يعيش أحمد اليوم حالة من الانهيار الصحي والنفسي، فلا يزال يعاني من آلام في الرأس، وضعف في التركيز، وصعوبة في الأكل بسبب كسور الفك. كما أن عينه اليمنى بدأت تعاني من ضعف في النظر.
'أشعر أن جسدي لم يعد لي، حتى أفكاري ليست كما كانت'، يهمس أحمد بصوت بالكاد يسمع.
وحين نُقل أحمد إلى المستشفى، كان جسده ساكنًا بلا حراك، وجهه مغطى بالدماء، أنفاسه بالكاد تُسمع، بدا للجميع وكأن الروح قد فارقته، حتى أن الطواقم الطبية – وسط حالة الطوارئ والدمار الهائل – وضعته في عداد الشهداء، بالقرب من ثلاجات الموتى.
ويضيف أحمد بصوت خافت: 'كان عدد الشهداء كبير كتير... واللي ما بيشوفوه بيتحرك، بيحطوه على جنب عند الثلاجات، وأنا كنت واحد منهم. سمعتهم بينادوا بالأسماء، بس ما قدرت أرد، حتى صوتي ما طلع'.
لم يكن استشهادًا، لكنه كان أقرب ما يكون إليه، لحظة ضبابية تفصل بين الحياة والموت، بقي فيها حبيس جسد لا يتحرك، وذاكرة مشوشة.
ومع بزوغ أولى خيوط الشمس، وبعد ثلاث ساعات من إصابته، كان جسده لا يزال ممددًا قرب ثلاجات الموتى، لم يكن أحد يتوقع أن أحمد لا يزال يتنفس.
سارع شقيقه ومن حوله لحمله، وأُدخل على الفور إلى الداخل، وهناك أدرك الأطباء أنه لا يزال حيًا، لكنه في وضع صحي بالغ الخطورة.
تم نقله من مستشفى الإندونيسي إلى مستشفى العيون بسبب إصابة بليغة في عينه اليسرى، والتي فقدها بالكامل، ثم إلى مستشفى الشفاء، حيث بدأت رحلة طويلة من العمليات والجراحات الدقيقة.
ويسرد أحمد: 'بعد شهرٍ ونصف من الغيبوبة والعمليات الجراحية المتتالية، استيقظت ولم أكن مدركًا إن كنت في الدنيا أم لا'، وأول ما شعر به هو أنفاسه الثقيلة وصمتٌ داخلي يملأ جسده، حاول أن يتحدث... لكن فكه المكسور لم يسعفه.
وقد كان حوله أشقاؤه، يخفون عنه الحقيقة كاملة، يخبرونه أن حالته 'بسيطة' حتى لا ينهار نفسيًا، بينما هو كان يشعر بوجعه في كل عظمة من جسده، فلم يكن يعرف بعد أن عينه اليسرى قد فُقدت تمامًا، وأن وجهه لم يعد كما كان، وأن شظيتين مستقرتان في دماغه.
وانتظر أحمد حتى موعد الغيار على الجرح وطلب منهم مرآة فرفضوا وقال لهم 'أنا مش حموت.. بس شو صار فيا؟ فقالوا لي حينها عينك بعوض الله، لم استوعب الخبر وجلست أبكي وتعبت نفسيًا'.
مرت الأيام ثقيلة، وكان الألم أكبر من أن يُحتمل. أحمد لم يكن فقط يتعافى من إصابة جسدية، بل كان يحاول لملمة ما تبقى من روحه، أصبحت حركة وجهه محدودة، لا يستطيع النوم على الجهة اليسرى، يتناول طعامه بصعوبة، كان قلبه يردد: 'الحمد لله... لسه عايش'.
لم تتوقف معاناة أحمد عند حدود الإصابة، فبعد فقدانه لعينه اليسرى، بدأت عينه الأخرى تئن تحت وطأة الضغط المتزايد عليها، يقول بصوتٍ مليء بالوجع: 'صرت أصحى كل يوم والدمع سايح، معاه قيح وريحة كريهة، كأني كل يوم بصحى على وجهي مشوّه أكتر'.
تشخيص الأطباء كان واضحًا ضمور كامل في العين اليسرى وتسديد في مجرى الدمع، ما أدى لتراكم الإفرازات وتحولها إلى مصدر دائم للالتهاب والألم والرائحة الكريهة. أما العين اليمنى، فبدأت تضعف شيئًا فشيئًا نتيجة الضغط المضاعف عليها، لتتسلل الظلمة تدريجيًا إلى حياته.
كما أنه حتى اليوم يوجد شظية في رأسه بالقرب من الدماغ رفض الأطباء إجراء طبي لها كونها تحتاج إلى إمكانيات ومعدات غير متوفرة، وهناك كسور في الوجه بحاجة إلى بلاتين داخلي والتدخل الجراحي الحساس كونها تؤثر على أعصاب وحواس الوجه.
ينتظر بفارغ الصبر فتح المعبر للسفر واستكمال علاجه فحتى اليوم يعيش على الإبر والمسكنات، فالبرودة والشتاء تزيد من اوجاعه بالإضافة إلى أنه بفعل الإصابة قد بات يشعر بكهرباء في كتفه الأيسر.
وما يزيد وجعه أنه تنقل قبل الحرب بين مهن مختلفة من العمل على سيارة أجرة أو كصياد بعد أن فصلته السلطة الفلسطينية من عمله في بداية مشواره المهني، واليوم الإصابة تزيد من معاناته فلا يتمكن من العمل في ظل تراكم الديون عليه والتي بلغت 10 آلاف دولار.
كما أن بيته في جباليا لم يعد صالحا للسكن بسبب الحرب وحاول بقدر استطاعته استصلاحه والسكن فيه، ولكن في ظل المنخفضات وتسرب مياه الأمطار يضطر إلى الانتقال لبيت أهل زوجته ليعيش معاناة مستمرة.
المصدر / فلسطين أون لاين
التعليقات