أخبار اليوم - تحت وابل من القصف المتواصل من كل اتجاه، ووطأة حرب لا ترحم، احتضن أطفاله للحظة، ضمّهم بين ذراعيه، حاول إسكات مخاوفهم، مسح دموعهم، وطمأنهم. وقال بنبرة تحمل الأمل في بقعة الموت تلك: 'سأذهب لإحضار السيارة. السائق ينتظرني على مقدمة الطريق. انتظروني'.
كان أطفاله الثلاثة يرتدون ملابسهم وينتظرون السائق بجانب والدهم حسين عودة على مدخل البيت الواقع في مخيم جباليا شمال غزة، ويجهزون أغراضهم وممتلكاتهم لرحلة نزوح جديدة، تنتظرهم خيمة إيواء في حي (تل الهوى) جنوب غرب مدينة غزة. تقدم الأب خطوات للأمام لإحضار السائق، بينما دخل أبناؤه المنزل يصرخون على أمهم التي كانت تعد طعامًا سريعًا: 'يمَّا، يلا وصل السواق!' كانت الصرخة ممزوجة بطعم النجاة والموت معًا.
لم يغب المنزل عن نظر حسين رغم ابتعاده عشرات الأمتار، استدار للخلف قبل وصوله للسائق لحظة سماعه صوت صاروخ ينزل إلى الأسفل، نتج عنه سحابة دخان كثيفة غطت المنطقة قادمة من ناحية منزله، ولم يحدد مكان سقوطه. عاد مسرعًا واقتحم الدخان، كان يرى من قلبه، ويصرخ على أولاده.
اتضحت الصورة. جثا على ركبتيه، فقد ما تبقى من صلابته، بعد قصف البيت على أطفاله وزوجته، نادى عليهم بأسمائهم وواصل النداء، بين لحظات صمت اختلط فيها الركام بالأرض. تشقق أحد الأصوات من ناحية كان يقف عليها: 'أنا سامعك'. بقي له خيط رفيع أعاد نبض قلبه، حاول الشبان مساعدته، فحفر الجميع بأيديهم، وفي الأسفل بدأت أصوات أطفاله تخفت، وترحل بهدوء في سلامها الأخيرة.
وبعد ساعة من الحفر، أخرجوا صاحب الصوت، وكانت زوجته التي خرجت حيّة مصابة بكسور في العمود الفقري والحوض، وبقربها انتشلوا جثمان طفله محمد (3 سنوات) الذي خاض سباقًا مع إخوته الذين كانوا يطهون على أحد أطراف البيت (الشرفة) لإخبارها بقدوم السائق، وكأنه وصل إلى خط نهاية لحياة لم يبدأها بعد. لكن الشبان وفرق الإنقاذ لم يتمكنوا من الوصول إلى جثماني طفليه خالد (10 سنوات) ويوسف (7 سنوات). دفن حسين شقيقه الذي كان بالطابق العلوي وطفله محمد، ولم يستطع انتشال جثماني طفليه لافتقار غزة للمعدات اللازمة.
أبوة منكوبة
يجلس حسين عودة، بطل قطاع غزة في رياضة كمال الأجسام، وحيدًا داخل خيمة إيواء شاهدة على أبوة منكوبة، لم يستطع جسده الضخم حمل ثقل رحيل أطفاله. يحكي لـ 'فلسطين أون لاين' عن وجعه:
'أكثر شيء ألمني أن أبنائي كانوا يرتدون ملابسهم، وجهزنا أغراضنا بعد ليلة عصيبة عشناها من قصف وأحزمة نارية ألقتها طائرات الاحتلال الإسرائيلي، وأوامر إخلاء. وبدلاً من النزوح، تحولت رحلتنا إلى تشييع'.
بقلب يحمل همًا ثقيلاً، يسترجع ما جرى بوجه مبلل بالحزن وعينين غائرتين: 'لا أعرف لماذا قُصف المنزل علينا! حاولت النزوح من خلال فرصة وليس تحت النار، لم يكن الوضع بهذه الخطورة، والكثير من العائلات لا تزال موجودة. أخبرتني زوجتي أن عائلتها جهزت لنا خيمة وكانت خائفة على ما تبقى لنا من أطفال، فاتفقت مع سائق على القدوم الساعة 12 ظهرًا، وكنا جهزنا كافة الأغراض. قبل قدوم السائق بنصف ساعة، كنت أقف على باب البيت مع أطفالي، ومع اتصال السائق بوصوله إلى مدخل شارعنا، تقدمت لإحضاره ناحية البيت، ولم أدرِ أن أطفالي دخلوا المنزل لإخبار أمهم بقدومه'.
يقف أمام المشهد الدامي، كان صوته أثقل من الأوزان التي كان يحملها: 'عدت إلى البيت المكون من أربع طبقات، فوجدته تحول إلى ركام. لم أستطع بمساعدة الجيران سوى انتشال طفلي محمد وإخراج زوجتي حيّة. لا أعرف إن كنت أستطيع انتشال جثماني طفلي خالد ويوسف، كي ألقي عليهما نظرة الوداع أم لا. أريد دفنهما بجانب شقيقتهم إيمان ومحمد'.
'عندما وصلت إلى البيت وكان مدمرًا، وقفت في مكان، كنت تائهًا لم أستطع تحديد مكان تواجد العائلة. سمعت صوتًا خافتًا من الأسفل، وكان صوت زوجتي. بقيت عالقة بين الركام والردم والعتمة لساعة كاملة، كنت أتوسل أبناء المخيم للمشاركة والحفر لإخراجها. وما جعلها تنجو أنها كانت تقف على أطراف البيت تطهو الطعام على الحطب'، يخرج الصوت من قلب مثقل بالوجع.
لم يكن فقد أطفاله الثلاثة في 17 مايو/ أيار 2025 الفقد الوحيد الذي عاشه خلال الحرب، فبعد ثلاثة عشر يومًا من حرب الإبادة التي شنها الاحتلال على قطاع غزة في 7 أكتوبر/ تشرين أول 2023، قصفت طائرات الاحتلال الطابق الأرضي من منزله واستشهدت طفلته إيمان (6 سنوات) وأمه وشقيقتاه، وشقيقه عمر (مصاب بمتلازمة داون).
لحظة القصف الأول، كان حسين مع أطفاله في الطابق الأول، يفتح ذلك الجرح: 'قصفوا الطابق الأرضي وكانت طفلتي عند جدتها فاستشهدت معها. عشت في وجع كبير منذ بداية الحرب. فقدان طفلتي وأمي وأشقائي كان مؤلمًا، وعشت بعدها في مدارس ومخيمات إيواء، وعاودت وعدت بعد التهدئة التي أبرمت في يناير/ كانون ثاني الماضي للعيش بين الركام، واعتقدت أن الحرب انتهت لكنها عادت وخطفت كل أطفالي'.
أحلام قتلت في مهدها
فقد حسين أطفاله وهدم بيته، وقبل ذلك هدم الاحتلال صالة رياضية أنشأها لممارسة رياضة كمال الأجسام واللياقة البدنية، وكانت تخدم سكان المخيم من كافة الأعمار. خصص في الصالة المكونة من ثلاث طبقات أقسامًا ومواعيدًا خاصة للأطفال والنساء والرجال، ساعده والده الذي كان يملك مدخرات من عمله بوكالة غوث وتشغيل اللاجئين 'أونروا' في تأسيس المشروع. وكان أطفاله الثلاثة يسيرون على دربه ويحلمون بأن يصبحوا أبطالًا في رياضة كمال الأجسام مثل والدهم، لكن أحلامهم قتلت في مهدها.
منذ عام 2008، كان حسين عودة يتدرب يوميًا ويمارس هذه الرياضة حتى حفر اسمه في المراتب الأولى. ففي أول مشاركة على مستوى قطاع غزة في اللعبة عام 2013 حصل على المرتبة الثانية، وبعدها حصد المركز الأول عامي 2015 و2019، ثم حصل على المركز الأول في أول مشاركة دولية له في لبنان عام 2023 بفئة 'الكلاسيك'، وفي نفس العام حصل على مراكز متقدمة في بطولة آسيا للمحترفين بنفس اللعبة، وعاد إلى غزة قبل الحرب بعشرين يومًا. بعد فرحة الفوز والسفر عاش مأساة الحرب.
يقول عن حلمه المدمر: 'كنت شغوفًا بهذه الرياضة، وكان النادي الذي أنشأته أكبر أحلامي. افتتحته لمدة عام ونصف وكان يخدم المخيم برسوم اشتراك رمزية. كان قصة نجاح حقيقية، كان بيتي الثاني. أطفالي بالفطرة كبروا على هذا الحلم وكانوا يمارسون الرياضة منذ صغرهم'.
حتى آخر الأيام، كان حسين يسأل أولاده عن أحلامهم، اختار طفله خالد أن يكون طبيبًا مثل عمه، ويوسف اختار أن يكون بطلًا في رياضة كمال الأجسام كوالده، ومحمد كان يريد ألعابًا، وطفلته إيمان كانت تريد أن تكون معلمة مثل عمتها. أما أمنيتهم الآنية فكانوا يتمنون الذهاب في رحلة عائلية إلى شاطئ البحر وإطلاق طائرة ورقية في الهواء، في يوم خالٍ من الطائرات والقصف. 'وهذا لم يتم. ما ذنبهم؟ أطفال بريئون يُقتلون بهذه الصورة البشعة'، قالها والدهم بحسرة تسكن صوته.
وطوال فترة الحرب، لم يقطع حسين تواصله مع متابعيه على تطبيق 'تيك توك'، لكن تغير المحتوى الرياضي الذي كان يقدمه عن شغفه بلعبة كمال الأجسام، إلى عرض محتوى مليء بالمعاناة اليومية التي يعيشها أهالي القطاع. كان يشاركهم مقاطع فيديو أثناء ذهابه للتسوق مع أطفاله، أو أثناء ركوبه عربة 'كارو'، أو طهي الطعام على الحطب، ليكون مرآة أخرى تعرض صورة من داخل الموت والحرب.
رغم تسلل بعض نسمات الهواء إلى الداخل، لكنها لم تستطع تبريد قلب الأب المكلوم. في صوته بكى مكتوم: 'أنا إنسان رياضي، شقيقي مصاب بمتلازمة داون، أطفالي صغار، أخوتي يعملون في المحاسبة والطب، لماذا نستهدف؟ ولماذا تستمر الإبادة؟ كافحت سنوات طويلة، وكان أطفالي فخورين بي، يشاركونني تدريباتي اليومية في اللعبة، تعلقوا بي كثيرًا، والآن أصبحت وحيدًا مع والدتهم'، مناشدًا منظمة الصحة العالمية بضرورة نقلها لاستكمال رحلة علاجها في الخارج في ظل عدم توفر أدوية تسكن آلام الإصابة: 'هي من تبقى من عائلتي، وأتمنى مساعدتي في سفرها'.
المصدر / فلسطين أون لاين
أخبار اليوم - تحت وابل من القصف المتواصل من كل اتجاه، ووطأة حرب لا ترحم، احتضن أطفاله للحظة، ضمّهم بين ذراعيه، حاول إسكات مخاوفهم، مسح دموعهم، وطمأنهم. وقال بنبرة تحمل الأمل في بقعة الموت تلك: 'سأذهب لإحضار السيارة. السائق ينتظرني على مقدمة الطريق. انتظروني'.
كان أطفاله الثلاثة يرتدون ملابسهم وينتظرون السائق بجانب والدهم حسين عودة على مدخل البيت الواقع في مخيم جباليا شمال غزة، ويجهزون أغراضهم وممتلكاتهم لرحلة نزوح جديدة، تنتظرهم خيمة إيواء في حي (تل الهوى) جنوب غرب مدينة غزة. تقدم الأب خطوات للأمام لإحضار السائق، بينما دخل أبناؤه المنزل يصرخون على أمهم التي كانت تعد طعامًا سريعًا: 'يمَّا، يلا وصل السواق!' كانت الصرخة ممزوجة بطعم النجاة والموت معًا.
لم يغب المنزل عن نظر حسين رغم ابتعاده عشرات الأمتار، استدار للخلف قبل وصوله للسائق لحظة سماعه صوت صاروخ ينزل إلى الأسفل، نتج عنه سحابة دخان كثيفة غطت المنطقة قادمة من ناحية منزله، ولم يحدد مكان سقوطه. عاد مسرعًا واقتحم الدخان، كان يرى من قلبه، ويصرخ على أولاده.
اتضحت الصورة. جثا على ركبتيه، فقد ما تبقى من صلابته، بعد قصف البيت على أطفاله وزوجته، نادى عليهم بأسمائهم وواصل النداء، بين لحظات صمت اختلط فيها الركام بالأرض. تشقق أحد الأصوات من ناحية كان يقف عليها: 'أنا سامعك'. بقي له خيط رفيع أعاد نبض قلبه، حاول الشبان مساعدته، فحفر الجميع بأيديهم، وفي الأسفل بدأت أصوات أطفاله تخفت، وترحل بهدوء في سلامها الأخيرة.
وبعد ساعة من الحفر، أخرجوا صاحب الصوت، وكانت زوجته التي خرجت حيّة مصابة بكسور في العمود الفقري والحوض، وبقربها انتشلوا جثمان طفله محمد (3 سنوات) الذي خاض سباقًا مع إخوته الذين كانوا يطهون على أحد أطراف البيت (الشرفة) لإخبارها بقدوم السائق، وكأنه وصل إلى خط نهاية لحياة لم يبدأها بعد. لكن الشبان وفرق الإنقاذ لم يتمكنوا من الوصول إلى جثماني طفليه خالد (10 سنوات) ويوسف (7 سنوات). دفن حسين شقيقه الذي كان بالطابق العلوي وطفله محمد، ولم يستطع انتشال جثماني طفليه لافتقار غزة للمعدات اللازمة.
أبوة منكوبة
يجلس حسين عودة، بطل قطاع غزة في رياضة كمال الأجسام، وحيدًا داخل خيمة إيواء شاهدة على أبوة منكوبة، لم يستطع جسده الضخم حمل ثقل رحيل أطفاله. يحكي لـ 'فلسطين أون لاين' عن وجعه:
'أكثر شيء ألمني أن أبنائي كانوا يرتدون ملابسهم، وجهزنا أغراضنا بعد ليلة عصيبة عشناها من قصف وأحزمة نارية ألقتها طائرات الاحتلال الإسرائيلي، وأوامر إخلاء. وبدلاً من النزوح، تحولت رحلتنا إلى تشييع'.
بقلب يحمل همًا ثقيلاً، يسترجع ما جرى بوجه مبلل بالحزن وعينين غائرتين: 'لا أعرف لماذا قُصف المنزل علينا! حاولت النزوح من خلال فرصة وليس تحت النار، لم يكن الوضع بهذه الخطورة، والكثير من العائلات لا تزال موجودة. أخبرتني زوجتي أن عائلتها جهزت لنا خيمة وكانت خائفة على ما تبقى لنا من أطفال، فاتفقت مع سائق على القدوم الساعة 12 ظهرًا، وكنا جهزنا كافة الأغراض. قبل قدوم السائق بنصف ساعة، كنت أقف على باب البيت مع أطفالي، ومع اتصال السائق بوصوله إلى مدخل شارعنا، تقدمت لإحضاره ناحية البيت، ولم أدرِ أن أطفالي دخلوا المنزل لإخبار أمهم بقدومه'.
يقف أمام المشهد الدامي، كان صوته أثقل من الأوزان التي كان يحملها: 'عدت إلى البيت المكون من أربع طبقات، فوجدته تحول إلى ركام. لم أستطع بمساعدة الجيران سوى انتشال طفلي محمد وإخراج زوجتي حيّة. لا أعرف إن كنت أستطيع انتشال جثماني طفلي خالد ويوسف، كي ألقي عليهما نظرة الوداع أم لا. أريد دفنهما بجانب شقيقتهم إيمان ومحمد'.
'عندما وصلت إلى البيت وكان مدمرًا، وقفت في مكان، كنت تائهًا لم أستطع تحديد مكان تواجد العائلة. سمعت صوتًا خافتًا من الأسفل، وكان صوت زوجتي. بقيت عالقة بين الركام والردم والعتمة لساعة كاملة، كنت أتوسل أبناء المخيم للمشاركة والحفر لإخراجها. وما جعلها تنجو أنها كانت تقف على أطراف البيت تطهو الطعام على الحطب'، يخرج الصوت من قلب مثقل بالوجع.
لم يكن فقد أطفاله الثلاثة في 17 مايو/ أيار 2025 الفقد الوحيد الذي عاشه خلال الحرب، فبعد ثلاثة عشر يومًا من حرب الإبادة التي شنها الاحتلال على قطاع غزة في 7 أكتوبر/ تشرين أول 2023، قصفت طائرات الاحتلال الطابق الأرضي من منزله واستشهدت طفلته إيمان (6 سنوات) وأمه وشقيقتاه، وشقيقه عمر (مصاب بمتلازمة داون).
لحظة القصف الأول، كان حسين مع أطفاله في الطابق الأول، يفتح ذلك الجرح: 'قصفوا الطابق الأرضي وكانت طفلتي عند جدتها فاستشهدت معها. عشت في وجع كبير منذ بداية الحرب. فقدان طفلتي وأمي وأشقائي كان مؤلمًا، وعشت بعدها في مدارس ومخيمات إيواء، وعاودت وعدت بعد التهدئة التي أبرمت في يناير/ كانون ثاني الماضي للعيش بين الركام، واعتقدت أن الحرب انتهت لكنها عادت وخطفت كل أطفالي'.
أحلام قتلت في مهدها
فقد حسين أطفاله وهدم بيته، وقبل ذلك هدم الاحتلال صالة رياضية أنشأها لممارسة رياضة كمال الأجسام واللياقة البدنية، وكانت تخدم سكان المخيم من كافة الأعمار. خصص في الصالة المكونة من ثلاث طبقات أقسامًا ومواعيدًا خاصة للأطفال والنساء والرجال، ساعده والده الذي كان يملك مدخرات من عمله بوكالة غوث وتشغيل اللاجئين 'أونروا' في تأسيس المشروع. وكان أطفاله الثلاثة يسيرون على دربه ويحلمون بأن يصبحوا أبطالًا في رياضة كمال الأجسام مثل والدهم، لكن أحلامهم قتلت في مهدها.
منذ عام 2008، كان حسين عودة يتدرب يوميًا ويمارس هذه الرياضة حتى حفر اسمه في المراتب الأولى. ففي أول مشاركة على مستوى قطاع غزة في اللعبة عام 2013 حصل على المرتبة الثانية، وبعدها حصد المركز الأول عامي 2015 و2019، ثم حصل على المركز الأول في أول مشاركة دولية له في لبنان عام 2023 بفئة 'الكلاسيك'، وفي نفس العام حصل على مراكز متقدمة في بطولة آسيا للمحترفين بنفس اللعبة، وعاد إلى غزة قبل الحرب بعشرين يومًا. بعد فرحة الفوز والسفر عاش مأساة الحرب.
يقول عن حلمه المدمر: 'كنت شغوفًا بهذه الرياضة، وكان النادي الذي أنشأته أكبر أحلامي. افتتحته لمدة عام ونصف وكان يخدم المخيم برسوم اشتراك رمزية. كان قصة نجاح حقيقية، كان بيتي الثاني. أطفالي بالفطرة كبروا على هذا الحلم وكانوا يمارسون الرياضة منذ صغرهم'.
حتى آخر الأيام، كان حسين يسأل أولاده عن أحلامهم، اختار طفله خالد أن يكون طبيبًا مثل عمه، ويوسف اختار أن يكون بطلًا في رياضة كمال الأجسام كوالده، ومحمد كان يريد ألعابًا، وطفلته إيمان كانت تريد أن تكون معلمة مثل عمتها. أما أمنيتهم الآنية فكانوا يتمنون الذهاب في رحلة عائلية إلى شاطئ البحر وإطلاق طائرة ورقية في الهواء، في يوم خالٍ من الطائرات والقصف. 'وهذا لم يتم. ما ذنبهم؟ أطفال بريئون يُقتلون بهذه الصورة البشعة'، قالها والدهم بحسرة تسكن صوته.
وطوال فترة الحرب، لم يقطع حسين تواصله مع متابعيه على تطبيق 'تيك توك'، لكن تغير المحتوى الرياضي الذي كان يقدمه عن شغفه بلعبة كمال الأجسام، إلى عرض محتوى مليء بالمعاناة اليومية التي يعيشها أهالي القطاع. كان يشاركهم مقاطع فيديو أثناء ذهابه للتسوق مع أطفاله، أو أثناء ركوبه عربة 'كارو'، أو طهي الطعام على الحطب، ليكون مرآة أخرى تعرض صورة من داخل الموت والحرب.
رغم تسلل بعض نسمات الهواء إلى الداخل، لكنها لم تستطع تبريد قلب الأب المكلوم. في صوته بكى مكتوم: 'أنا إنسان رياضي، شقيقي مصاب بمتلازمة داون، أطفالي صغار، أخوتي يعملون في المحاسبة والطب، لماذا نستهدف؟ ولماذا تستمر الإبادة؟ كافحت سنوات طويلة، وكان أطفالي فخورين بي، يشاركونني تدريباتي اليومية في اللعبة، تعلقوا بي كثيرًا، والآن أصبحت وحيدًا مع والدتهم'، مناشدًا منظمة الصحة العالمية بضرورة نقلها لاستكمال رحلة علاجها في الخارج في ظل عدم توفر أدوية تسكن آلام الإصابة: 'هي من تبقى من عائلتي، وأتمنى مساعدتي في سفرها'.
المصدر / فلسطين أون لاين
أخبار اليوم - تحت وابل من القصف المتواصل من كل اتجاه، ووطأة حرب لا ترحم، احتضن أطفاله للحظة، ضمّهم بين ذراعيه، حاول إسكات مخاوفهم، مسح دموعهم، وطمأنهم. وقال بنبرة تحمل الأمل في بقعة الموت تلك: 'سأذهب لإحضار السيارة. السائق ينتظرني على مقدمة الطريق. انتظروني'.
كان أطفاله الثلاثة يرتدون ملابسهم وينتظرون السائق بجانب والدهم حسين عودة على مدخل البيت الواقع في مخيم جباليا شمال غزة، ويجهزون أغراضهم وممتلكاتهم لرحلة نزوح جديدة، تنتظرهم خيمة إيواء في حي (تل الهوى) جنوب غرب مدينة غزة. تقدم الأب خطوات للأمام لإحضار السائق، بينما دخل أبناؤه المنزل يصرخون على أمهم التي كانت تعد طعامًا سريعًا: 'يمَّا، يلا وصل السواق!' كانت الصرخة ممزوجة بطعم النجاة والموت معًا.
لم يغب المنزل عن نظر حسين رغم ابتعاده عشرات الأمتار، استدار للخلف قبل وصوله للسائق لحظة سماعه صوت صاروخ ينزل إلى الأسفل، نتج عنه سحابة دخان كثيفة غطت المنطقة قادمة من ناحية منزله، ولم يحدد مكان سقوطه. عاد مسرعًا واقتحم الدخان، كان يرى من قلبه، ويصرخ على أولاده.
اتضحت الصورة. جثا على ركبتيه، فقد ما تبقى من صلابته، بعد قصف البيت على أطفاله وزوجته، نادى عليهم بأسمائهم وواصل النداء، بين لحظات صمت اختلط فيها الركام بالأرض. تشقق أحد الأصوات من ناحية كان يقف عليها: 'أنا سامعك'. بقي له خيط رفيع أعاد نبض قلبه، حاول الشبان مساعدته، فحفر الجميع بأيديهم، وفي الأسفل بدأت أصوات أطفاله تخفت، وترحل بهدوء في سلامها الأخيرة.
وبعد ساعة من الحفر، أخرجوا صاحب الصوت، وكانت زوجته التي خرجت حيّة مصابة بكسور في العمود الفقري والحوض، وبقربها انتشلوا جثمان طفله محمد (3 سنوات) الذي خاض سباقًا مع إخوته الذين كانوا يطهون على أحد أطراف البيت (الشرفة) لإخبارها بقدوم السائق، وكأنه وصل إلى خط نهاية لحياة لم يبدأها بعد. لكن الشبان وفرق الإنقاذ لم يتمكنوا من الوصول إلى جثماني طفليه خالد (10 سنوات) ويوسف (7 سنوات). دفن حسين شقيقه الذي كان بالطابق العلوي وطفله محمد، ولم يستطع انتشال جثماني طفليه لافتقار غزة للمعدات اللازمة.
أبوة منكوبة
يجلس حسين عودة، بطل قطاع غزة في رياضة كمال الأجسام، وحيدًا داخل خيمة إيواء شاهدة على أبوة منكوبة، لم يستطع جسده الضخم حمل ثقل رحيل أطفاله. يحكي لـ 'فلسطين أون لاين' عن وجعه:
'أكثر شيء ألمني أن أبنائي كانوا يرتدون ملابسهم، وجهزنا أغراضنا بعد ليلة عصيبة عشناها من قصف وأحزمة نارية ألقتها طائرات الاحتلال الإسرائيلي، وأوامر إخلاء. وبدلاً من النزوح، تحولت رحلتنا إلى تشييع'.
بقلب يحمل همًا ثقيلاً، يسترجع ما جرى بوجه مبلل بالحزن وعينين غائرتين: 'لا أعرف لماذا قُصف المنزل علينا! حاولت النزوح من خلال فرصة وليس تحت النار، لم يكن الوضع بهذه الخطورة، والكثير من العائلات لا تزال موجودة. أخبرتني زوجتي أن عائلتها جهزت لنا خيمة وكانت خائفة على ما تبقى لنا من أطفال، فاتفقت مع سائق على القدوم الساعة 12 ظهرًا، وكنا جهزنا كافة الأغراض. قبل قدوم السائق بنصف ساعة، كنت أقف على باب البيت مع أطفالي، ومع اتصال السائق بوصوله إلى مدخل شارعنا، تقدمت لإحضاره ناحية البيت، ولم أدرِ أن أطفالي دخلوا المنزل لإخبار أمهم بقدومه'.
يقف أمام المشهد الدامي، كان صوته أثقل من الأوزان التي كان يحملها: 'عدت إلى البيت المكون من أربع طبقات، فوجدته تحول إلى ركام. لم أستطع بمساعدة الجيران سوى انتشال طفلي محمد وإخراج زوجتي حيّة. لا أعرف إن كنت أستطيع انتشال جثماني طفلي خالد ويوسف، كي ألقي عليهما نظرة الوداع أم لا. أريد دفنهما بجانب شقيقتهم إيمان ومحمد'.
'عندما وصلت إلى البيت وكان مدمرًا، وقفت في مكان، كنت تائهًا لم أستطع تحديد مكان تواجد العائلة. سمعت صوتًا خافتًا من الأسفل، وكان صوت زوجتي. بقيت عالقة بين الركام والردم والعتمة لساعة كاملة، كنت أتوسل أبناء المخيم للمشاركة والحفر لإخراجها. وما جعلها تنجو أنها كانت تقف على أطراف البيت تطهو الطعام على الحطب'، يخرج الصوت من قلب مثقل بالوجع.
لم يكن فقد أطفاله الثلاثة في 17 مايو/ أيار 2025 الفقد الوحيد الذي عاشه خلال الحرب، فبعد ثلاثة عشر يومًا من حرب الإبادة التي شنها الاحتلال على قطاع غزة في 7 أكتوبر/ تشرين أول 2023، قصفت طائرات الاحتلال الطابق الأرضي من منزله واستشهدت طفلته إيمان (6 سنوات) وأمه وشقيقتاه، وشقيقه عمر (مصاب بمتلازمة داون).
لحظة القصف الأول، كان حسين مع أطفاله في الطابق الأول، يفتح ذلك الجرح: 'قصفوا الطابق الأرضي وكانت طفلتي عند جدتها فاستشهدت معها. عشت في وجع كبير منذ بداية الحرب. فقدان طفلتي وأمي وأشقائي كان مؤلمًا، وعشت بعدها في مدارس ومخيمات إيواء، وعاودت وعدت بعد التهدئة التي أبرمت في يناير/ كانون ثاني الماضي للعيش بين الركام، واعتقدت أن الحرب انتهت لكنها عادت وخطفت كل أطفالي'.
أحلام قتلت في مهدها
فقد حسين أطفاله وهدم بيته، وقبل ذلك هدم الاحتلال صالة رياضية أنشأها لممارسة رياضة كمال الأجسام واللياقة البدنية، وكانت تخدم سكان المخيم من كافة الأعمار. خصص في الصالة المكونة من ثلاث طبقات أقسامًا ومواعيدًا خاصة للأطفال والنساء والرجال، ساعده والده الذي كان يملك مدخرات من عمله بوكالة غوث وتشغيل اللاجئين 'أونروا' في تأسيس المشروع. وكان أطفاله الثلاثة يسيرون على دربه ويحلمون بأن يصبحوا أبطالًا في رياضة كمال الأجسام مثل والدهم، لكن أحلامهم قتلت في مهدها.
منذ عام 2008، كان حسين عودة يتدرب يوميًا ويمارس هذه الرياضة حتى حفر اسمه في المراتب الأولى. ففي أول مشاركة على مستوى قطاع غزة في اللعبة عام 2013 حصل على المرتبة الثانية، وبعدها حصد المركز الأول عامي 2015 و2019، ثم حصل على المركز الأول في أول مشاركة دولية له في لبنان عام 2023 بفئة 'الكلاسيك'، وفي نفس العام حصل على مراكز متقدمة في بطولة آسيا للمحترفين بنفس اللعبة، وعاد إلى غزة قبل الحرب بعشرين يومًا. بعد فرحة الفوز والسفر عاش مأساة الحرب.
يقول عن حلمه المدمر: 'كنت شغوفًا بهذه الرياضة، وكان النادي الذي أنشأته أكبر أحلامي. افتتحته لمدة عام ونصف وكان يخدم المخيم برسوم اشتراك رمزية. كان قصة نجاح حقيقية، كان بيتي الثاني. أطفالي بالفطرة كبروا على هذا الحلم وكانوا يمارسون الرياضة منذ صغرهم'.
حتى آخر الأيام، كان حسين يسأل أولاده عن أحلامهم، اختار طفله خالد أن يكون طبيبًا مثل عمه، ويوسف اختار أن يكون بطلًا في رياضة كمال الأجسام كوالده، ومحمد كان يريد ألعابًا، وطفلته إيمان كانت تريد أن تكون معلمة مثل عمتها. أما أمنيتهم الآنية فكانوا يتمنون الذهاب في رحلة عائلية إلى شاطئ البحر وإطلاق طائرة ورقية في الهواء، في يوم خالٍ من الطائرات والقصف. 'وهذا لم يتم. ما ذنبهم؟ أطفال بريئون يُقتلون بهذه الصورة البشعة'، قالها والدهم بحسرة تسكن صوته.
وطوال فترة الحرب، لم يقطع حسين تواصله مع متابعيه على تطبيق 'تيك توك'، لكن تغير المحتوى الرياضي الذي كان يقدمه عن شغفه بلعبة كمال الأجسام، إلى عرض محتوى مليء بالمعاناة اليومية التي يعيشها أهالي القطاع. كان يشاركهم مقاطع فيديو أثناء ذهابه للتسوق مع أطفاله، أو أثناء ركوبه عربة 'كارو'، أو طهي الطعام على الحطب، ليكون مرآة أخرى تعرض صورة من داخل الموت والحرب.
رغم تسلل بعض نسمات الهواء إلى الداخل، لكنها لم تستطع تبريد قلب الأب المكلوم. في صوته بكى مكتوم: 'أنا إنسان رياضي، شقيقي مصاب بمتلازمة داون، أطفالي صغار، أخوتي يعملون في المحاسبة والطب، لماذا نستهدف؟ ولماذا تستمر الإبادة؟ كافحت سنوات طويلة، وكان أطفالي فخورين بي، يشاركونني تدريباتي اليومية في اللعبة، تعلقوا بي كثيرًا، والآن أصبحت وحيدًا مع والدتهم'، مناشدًا منظمة الصحة العالمية بضرورة نقلها لاستكمال رحلة علاجها في الخارج في ظل عدم توفر أدوية تسكن آلام الإصابة: 'هي من تبقى من عائلتي، وأتمنى مساعدتي في سفرها'.
المصدر / فلسطين أون لاين
التعليقات