أخبار اليوم - في خيمة لا تمتّ للحياة بصلة، داخل مركز إيواء مؤقت غربي غزة، لا تقي حرّ النهار ولا برد الليل، وحين تقترب منها لا تسمع سوى أنين خافت يكاد يخترق صدرك قبل أن يصل إلى أذنك. إنها خيمة غدير الداعور، أرملة الشهيد أحمد الداعور، وأم لثلاثة أطفال، أحدهم بُترت ساقه، والثاني جُبِرت يده على عجل وسط الحرب، وكلاهما يبكي من الألم؛ لا من الطفولة الضائعة فقط، بل من الجوع الذي ينهش أجسادهم كل ليلة.
تروي غدير، وهي في بداية الثلاثين من عمرها، تفاصيل اللحظة التي قلبت حياتها رأسًا على عقب: 'كان أحمد، زوجي، يجلس معنا في البيت. كنا نتحدث عن احتمال النزوح مجددًا مع تصاعد القصف. فجأة، وكأن السماء سقطت على الأرض، دوّى انفجار هائل. صاروخ إسرائيلي مزّق بيتنا، قتل أحمد على الفور، وبتر ساق ابني الأكبر، وكسر يد الصغير... ومنذ تلك اللحظة لم أعد أشعر بشيء سوى وجع لا ينتهي'.
يتغير صوتها فجأة، يتشقق من الداخل، وتضيف بصوت كأنّه يأتي من تحت الركام: 'كان زوجي سندي. لم نكن نملك الكثير، لكن بوجوده كنت أشعر بالأمان. الآن، أنا نازحة للمرة السابعة منذ بداية الحرب، بلا زوج، بلا معيل، بلا مأوى، وتحت أزيز الطائرات وقصف المدافع'.
تتكلم غدير عن ابنها المصاب كما لو أنها تحاول تخفيف ألمه بكلماتها، لكنها لا تملك سوى البكاء: 'حين سقط الصاروخ، نزف ابني كثيرًا. في تلك اللحظة، لم يكن هناك مستشفى مجهز، ولا دواء، ولا حتى ضماد. أُجريت له عملية بتر مستعجلة في مركز ميداني، وبدون تخدير... صرخ كثيرًا، ثم غاب عن الوعي. وبعد أن أفاق، صار يبكي كلما لمح قدمًا تمشي أو طفلًا يجري'.
تقول لصحيفة 'فلسطين' إن العملية لم تكن ناجحة تمامًا، وإنه يحتاج إلى متابعة أسبوعية، وعناية دقيقة، ودواء لا يتوفر في هذه الظروف.
وتابعت: 'يجب أن يتناول طعامًا صحيًا كي يتعافى. لكنه لا يجد سوى رغيف يابس كل يومين، إن وجد. أنا الآن أبكي دمًا، لا دموعًا. لأنني عاجزة عن تأمين دواء لابني، أو حتى وجبة تحفظ له حياته'.
غدير، التي هجّرت من بيت لاهيا في بداية الحرب، ذاقت مرارة الجوع والخوف آنذاك، لكنها تؤكد أن ما تعيشه الآن أقسى وأشد: 'في المرة الأولى، كنا نأكل من علب قديمة وجدناها على الطرقات، نتقاسمها مع الجيران. أما الآن، فحتى تلك العلب لم تعد موجودة. الحرب أخذت كل شيء، ثم جاء الصاروخ وأخذ ما تبقى لي من روح'.
تغالب دموعها وتكمل: 'أنا لا أطلب الكثير. فقط أن يتوقف هذا الجنون، أن أنقذ ابني، أن أطعمهما، أن أعود إلى بيت له سقف، وجدران تحفظ لي بعض الحنين. لكن حتى الخيمة التي أنام فيها الآن، لا تسكت الريح ولا تمنع نظرات الشفقة'.
الناظر إلى خيمتها، كما تصفها بنفسها، 'يبكي القلب قبل العين'. لا شيء فيها يوحي بالحياة: لا أثاث، لا فرش، لا طعام، ولا حتى أمل. فقط أكياس من الغبار، ورائحة من الخوف، وأصوات أطفال لا يفهمون لماذا تحوّل كل شيء إلى رماد.
'أدعو الله كل ليلة أن ينتهي هذا الكابوس. لا أريد شيئًا سوى أن تعود الحياة كما كانت. أن أجلس مع أحمد على سطح منزلنا، ونشرب الشاي بعد المغرب، ونراقب أطفالنا وهم يركضون في الحي. لكنه الآن صار تحت التراب، وابني بلا ساق، وأنا بلا حياة'.
رغم كل هذا الألم، تتمسك غدير بكرامتها بإصرار يفوق القدرة على التصديق. تقول: 'نعم، نحن نحتاج إلى المساعدات. لكننا لا نقبل أن تُستعمل كوسيلة إذلال. لسنا متسولين. نحن شعب صابر، يعيش الكارثة تلو الأخرى، لكنه لا ينحني'.
تنهض من أمام الخيمة لتجفف دموع ابنها، وتعيد ربط الجبس على يد الآخر، وتهمس لهم بكلمات لا يسمعها أحد، سوى الله. وبينما تعود إلى الجلوس، تهمس كمن يُحادث ذاتها: 'أنا لم أمت بعد. وسأصبر. وسأُربّيهم كما كان يريد أحمد. في زمنٍ لا يريد لنا أحد أن نحيا، سنعيش من أجل من رحل'.
غدير الداعور ليست رقمًا في سجلات النازحين، ولا مجرد 'حالة إنسانية' في تقارير الأمم المتحدة. إنها وجه من وجوه غزة، وصوت من أصوات النساء اللواتي يحملن الوطن في دموعهن، ويصرخن كل يوم: نحن هنا.. وما زلنا على قيد الكرامة.
فلسطين أون لاين
أخبار اليوم - في خيمة لا تمتّ للحياة بصلة، داخل مركز إيواء مؤقت غربي غزة، لا تقي حرّ النهار ولا برد الليل، وحين تقترب منها لا تسمع سوى أنين خافت يكاد يخترق صدرك قبل أن يصل إلى أذنك. إنها خيمة غدير الداعور، أرملة الشهيد أحمد الداعور، وأم لثلاثة أطفال، أحدهم بُترت ساقه، والثاني جُبِرت يده على عجل وسط الحرب، وكلاهما يبكي من الألم؛ لا من الطفولة الضائعة فقط، بل من الجوع الذي ينهش أجسادهم كل ليلة.
تروي غدير، وهي في بداية الثلاثين من عمرها، تفاصيل اللحظة التي قلبت حياتها رأسًا على عقب: 'كان أحمد، زوجي، يجلس معنا في البيت. كنا نتحدث عن احتمال النزوح مجددًا مع تصاعد القصف. فجأة، وكأن السماء سقطت على الأرض، دوّى انفجار هائل. صاروخ إسرائيلي مزّق بيتنا، قتل أحمد على الفور، وبتر ساق ابني الأكبر، وكسر يد الصغير... ومنذ تلك اللحظة لم أعد أشعر بشيء سوى وجع لا ينتهي'.
يتغير صوتها فجأة، يتشقق من الداخل، وتضيف بصوت كأنّه يأتي من تحت الركام: 'كان زوجي سندي. لم نكن نملك الكثير، لكن بوجوده كنت أشعر بالأمان. الآن، أنا نازحة للمرة السابعة منذ بداية الحرب، بلا زوج، بلا معيل، بلا مأوى، وتحت أزيز الطائرات وقصف المدافع'.
تتكلم غدير عن ابنها المصاب كما لو أنها تحاول تخفيف ألمه بكلماتها، لكنها لا تملك سوى البكاء: 'حين سقط الصاروخ، نزف ابني كثيرًا. في تلك اللحظة، لم يكن هناك مستشفى مجهز، ولا دواء، ولا حتى ضماد. أُجريت له عملية بتر مستعجلة في مركز ميداني، وبدون تخدير... صرخ كثيرًا، ثم غاب عن الوعي. وبعد أن أفاق، صار يبكي كلما لمح قدمًا تمشي أو طفلًا يجري'.
تقول لصحيفة 'فلسطين' إن العملية لم تكن ناجحة تمامًا، وإنه يحتاج إلى متابعة أسبوعية، وعناية دقيقة، ودواء لا يتوفر في هذه الظروف.
وتابعت: 'يجب أن يتناول طعامًا صحيًا كي يتعافى. لكنه لا يجد سوى رغيف يابس كل يومين، إن وجد. أنا الآن أبكي دمًا، لا دموعًا. لأنني عاجزة عن تأمين دواء لابني، أو حتى وجبة تحفظ له حياته'.
غدير، التي هجّرت من بيت لاهيا في بداية الحرب، ذاقت مرارة الجوع والخوف آنذاك، لكنها تؤكد أن ما تعيشه الآن أقسى وأشد: 'في المرة الأولى، كنا نأكل من علب قديمة وجدناها على الطرقات، نتقاسمها مع الجيران. أما الآن، فحتى تلك العلب لم تعد موجودة. الحرب أخذت كل شيء، ثم جاء الصاروخ وأخذ ما تبقى لي من روح'.
تغالب دموعها وتكمل: 'أنا لا أطلب الكثير. فقط أن يتوقف هذا الجنون، أن أنقذ ابني، أن أطعمهما، أن أعود إلى بيت له سقف، وجدران تحفظ لي بعض الحنين. لكن حتى الخيمة التي أنام فيها الآن، لا تسكت الريح ولا تمنع نظرات الشفقة'.
الناظر إلى خيمتها، كما تصفها بنفسها، 'يبكي القلب قبل العين'. لا شيء فيها يوحي بالحياة: لا أثاث، لا فرش، لا طعام، ولا حتى أمل. فقط أكياس من الغبار، ورائحة من الخوف، وأصوات أطفال لا يفهمون لماذا تحوّل كل شيء إلى رماد.
'أدعو الله كل ليلة أن ينتهي هذا الكابوس. لا أريد شيئًا سوى أن تعود الحياة كما كانت. أن أجلس مع أحمد على سطح منزلنا، ونشرب الشاي بعد المغرب، ونراقب أطفالنا وهم يركضون في الحي. لكنه الآن صار تحت التراب، وابني بلا ساق، وأنا بلا حياة'.
رغم كل هذا الألم، تتمسك غدير بكرامتها بإصرار يفوق القدرة على التصديق. تقول: 'نعم، نحن نحتاج إلى المساعدات. لكننا لا نقبل أن تُستعمل كوسيلة إذلال. لسنا متسولين. نحن شعب صابر، يعيش الكارثة تلو الأخرى، لكنه لا ينحني'.
تنهض من أمام الخيمة لتجفف دموع ابنها، وتعيد ربط الجبس على يد الآخر، وتهمس لهم بكلمات لا يسمعها أحد، سوى الله. وبينما تعود إلى الجلوس، تهمس كمن يُحادث ذاتها: 'أنا لم أمت بعد. وسأصبر. وسأُربّيهم كما كان يريد أحمد. في زمنٍ لا يريد لنا أحد أن نحيا، سنعيش من أجل من رحل'.
غدير الداعور ليست رقمًا في سجلات النازحين، ولا مجرد 'حالة إنسانية' في تقارير الأمم المتحدة. إنها وجه من وجوه غزة، وصوت من أصوات النساء اللواتي يحملن الوطن في دموعهن، ويصرخن كل يوم: نحن هنا.. وما زلنا على قيد الكرامة.
فلسطين أون لاين
أخبار اليوم - في خيمة لا تمتّ للحياة بصلة، داخل مركز إيواء مؤقت غربي غزة، لا تقي حرّ النهار ولا برد الليل، وحين تقترب منها لا تسمع سوى أنين خافت يكاد يخترق صدرك قبل أن يصل إلى أذنك. إنها خيمة غدير الداعور، أرملة الشهيد أحمد الداعور، وأم لثلاثة أطفال، أحدهم بُترت ساقه، والثاني جُبِرت يده على عجل وسط الحرب، وكلاهما يبكي من الألم؛ لا من الطفولة الضائعة فقط، بل من الجوع الذي ينهش أجسادهم كل ليلة.
تروي غدير، وهي في بداية الثلاثين من عمرها، تفاصيل اللحظة التي قلبت حياتها رأسًا على عقب: 'كان أحمد، زوجي، يجلس معنا في البيت. كنا نتحدث عن احتمال النزوح مجددًا مع تصاعد القصف. فجأة، وكأن السماء سقطت على الأرض، دوّى انفجار هائل. صاروخ إسرائيلي مزّق بيتنا، قتل أحمد على الفور، وبتر ساق ابني الأكبر، وكسر يد الصغير... ومنذ تلك اللحظة لم أعد أشعر بشيء سوى وجع لا ينتهي'.
يتغير صوتها فجأة، يتشقق من الداخل، وتضيف بصوت كأنّه يأتي من تحت الركام: 'كان زوجي سندي. لم نكن نملك الكثير، لكن بوجوده كنت أشعر بالأمان. الآن، أنا نازحة للمرة السابعة منذ بداية الحرب، بلا زوج، بلا معيل، بلا مأوى، وتحت أزيز الطائرات وقصف المدافع'.
تتكلم غدير عن ابنها المصاب كما لو أنها تحاول تخفيف ألمه بكلماتها، لكنها لا تملك سوى البكاء: 'حين سقط الصاروخ، نزف ابني كثيرًا. في تلك اللحظة، لم يكن هناك مستشفى مجهز، ولا دواء، ولا حتى ضماد. أُجريت له عملية بتر مستعجلة في مركز ميداني، وبدون تخدير... صرخ كثيرًا، ثم غاب عن الوعي. وبعد أن أفاق، صار يبكي كلما لمح قدمًا تمشي أو طفلًا يجري'.
تقول لصحيفة 'فلسطين' إن العملية لم تكن ناجحة تمامًا، وإنه يحتاج إلى متابعة أسبوعية، وعناية دقيقة، ودواء لا يتوفر في هذه الظروف.
وتابعت: 'يجب أن يتناول طعامًا صحيًا كي يتعافى. لكنه لا يجد سوى رغيف يابس كل يومين، إن وجد. أنا الآن أبكي دمًا، لا دموعًا. لأنني عاجزة عن تأمين دواء لابني، أو حتى وجبة تحفظ له حياته'.
غدير، التي هجّرت من بيت لاهيا في بداية الحرب، ذاقت مرارة الجوع والخوف آنذاك، لكنها تؤكد أن ما تعيشه الآن أقسى وأشد: 'في المرة الأولى، كنا نأكل من علب قديمة وجدناها على الطرقات، نتقاسمها مع الجيران. أما الآن، فحتى تلك العلب لم تعد موجودة. الحرب أخذت كل شيء، ثم جاء الصاروخ وأخذ ما تبقى لي من روح'.
تغالب دموعها وتكمل: 'أنا لا أطلب الكثير. فقط أن يتوقف هذا الجنون، أن أنقذ ابني، أن أطعمهما، أن أعود إلى بيت له سقف، وجدران تحفظ لي بعض الحنين. لكن حتى الخيمة التي أنام فيها الآن، لا تسكت الريح ولا تمنع نظرات الشفقة'.
الناظر إلى خيمتها، كما تصفها بنفسها، 'يبكي القلب قبل العين'. لا شيء فيها يوحي بالحياة: لا أثاث، لا فرش، لا طعام، ولا حتى أمل. فقط أكياس من الغبار، ورائحة من الخوف، وأصوات أطفال لا يفهمون لماذا تحوّل كل شيء إلى رماد.
'أدعو الله كل ليلة أن ينتهي هذا الكابوس. لا أريد شيئًا سوى أن تعود الحياة كما كانت. أن أجلس مع أحمد على سطح منزلنا، ونشرب الشاي بعد المغرب، ونراقب أطفالنا وهم يركضون في الحي. لكنه الآن صار تحت التراب، وابني بلا ساق، وأنا بلا حياة'.
رغم كل هذا الألم، تتمسك غدير بكرامتها بإصرار يفوق القدرة على التصديق. تقول: 'نعم، نحن نحتاج إلى المساعدات. لكننا لا نقبل أن تُستعمل كوسيلة إذلال. لسنا متسولين. نحن شعب صابر، يعيش الكارثة تلو الأخرى، لكنه لا ينحني'.
تنهض من أمام الخيمة لتجفف دموع ابنها، وتعيد ربط الجبس على يد الآخر، وتهمس لهم بكلمات لا يسمعها أحد، سوى الله. وبينما تعود إلى الجلوس، تهمس كمن يُحادث ذاتها: 'أنا لم أمت بعد. وسأصبر. وسأُربّيهم كما كان يريد أحمد. في زمنٍ لا يريد لنا أحد أن نحيا، سنعيش من أجل من رحل'.
غدير الداعور ليست رقمًا في سجلات النازحين، ولا مجرد 'حالة إنسانية' في تقارير الأمم المتحدة. إنها وجه من وجوه غزة، وصوت من أصوات النساء اللواتي يحملن الوطن في دموعهن، ويصرخن كل يوم: نحن هنا.. وما زلنا على قيد الكرامة.
فلسطين أون لاين
التعليقات