الكاتب: المحامي محمد رجب منسيه
تمهيد
شهدت السنوات الأخيرة تحولًا جوهريًا في مفهوم التنفيذ المدني (الحقوقي)، حيث اتجهت العديد من الدول إلى إلغاء الحبس التنفيذي في قضايا الديون الحقوقية، إعمالاً للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وفي مقدمتها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي يحظر سلب الحرية بسبب العجز عن الوفاء بالتزام مدني (حقوقي).
في هذا السياق، انضمت المملكة الأردنية إلى هذا الاتجاه من خلال تعديل قانون التنفيذ رقم 25 لسنة 2007 بموجب القانون المعدل رقم 4 لسنة 2020، الذي ألغى الحبس التنفيذي في معظم القضايا المالية.
الأردن في سياق التجارب الدولية
كانت دول مثل فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، لبنان، وتونس قد ألغت أو قيدت حبس المدين منذ عقود أو سنوات، بعد أن قامت بتأسيس منظومات قانونية وتنفيذية ومالية متكاملة.
وضمن سعى الأردن إلى تطوير أنظمته القانونية لتتوافق مع الواقع القانوني العالمي خاصة فيما يخص منظومة الاقتصاد والبيئة الاستثمارية ويأتي هذا التعديل كمطلب مهم وجوهري وكحلقة من الحلقات في سلسلة مترابطة.
ورغم أن القرار جاء القرار متأخرًا نسبيًا فإن السبب في ذلك يعزى إلى البنية الاجتماعية والاقتصادية، إذ يتميز المجتمع الأردني بارتفاع نسبة الاقتصاد غير الرسمي، وانتشار التعاملات المالية غير الموثقة، بالإضافة إلى محدودية أدوات الإفصاح المالي.
البنية الاجتماعية والاقتصادية الأردنية وتحديات البدائل
يُفترض أن يصاحب إلغاء الحبس التنفيذي نظام فعّال للتنفيذ المدني(الحقوقي)، غير أن الواقع في الأردن لا يزال يشهد تحديات كبيرة:
• غالبية المدينين من محدودي الدخل.
• يشكل الاقتصاد غير الرسمي نسبة كبيرة من النشاط الاقتصادي، ما يجعل من تتبع أموال المدينين أمراً صعباً، مما يؤثر على إجراءات الحجز والتحصيل بسبب محدودية البيانات المتوفرة.
• عدم وجود الآليات الفعالة للتمييز بين المدين المعسر والمدين المماطل في حال تم تعديل القانون وأصبح من المهم التفريق بين الحالتين.
أثر القرار على منظومة المال والتجارة في الأردن
على الرغم من أن الحبس التنفيذي لم يكن أداة رئيسية لدى البنوك لتحصيل ديونها، فإن إلغاءه لم يؤثر سلبًا على هذه المؤسسات التي غالباً ما تعتمد على ضمانات قوية، وتعمل ضمن إطار قانوني متين يحفظ حقوقها، كالرهن والكفالات والتحويلات البنكية.
بل على العكس، يبدو أن البنوك أصبحت في موقع أقوى نسبيًا، حيث أصبح الأفراد والتجار أكثر تحفظًا في منح الائتمان المباشر، مما يدفعهم إلى الاعتماد المتزايد على التمويل البنكي.
في المقابل، قد تضعف هذه الخطوة القانونية من قدرة القطاعات الصغيرة والمتوسطة – مثل أصحاب المحلات التجارية الصغيرة، وتجار التقسيط، والورش الصغيرة – على استرداد حقوقها، مما يزيد من حالة الحذر ويقلل من ثقة صغار التجار في التعاملات الائتمانية غير البنكية.
مما قد يؤدي إلى خروج الكثيرين منهم من الأسواق وإلى تقلص فرص المستهلكين من ذوي الدخل المحدود في الحصول على سلع وخدمات مؤجلة الدفع أو بالتقسيط، مما قد يسبب أيضاً تراجعاً في حركة السوق المحلية التي كانت تعتمد بشكل كبير على البيع بضمانات أقل من تلك التي تشترطها البنوك.
خلاصة
إن التوجه نحو إلغاء الحبس التنفيذي للديون الناشئة عن العقود خطوة تصحيحية في مسار التشريع القانوني وتتماشى مع المبادئ الحقوقية الحديثة، وتهدف إلى حماية الكرامة الإنسانية، إلا أن مفاعيله العملية حتما ستنعكس على القطاعات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، وإن كانت بدرجات متفاوتة.
فالمؤسسات المالية الكبرى، وخاصة قطاعات البنوك، في الغالب الأعم أنها لن تتأثر سلبًا بهذا التعديل، بل يبدو أنها تعزز موقعها باعتبارها الجهة الوحيدة القادرة على إدارة المخاطر بشكل فعال.
أما الأعمال الصغيرة مثل البقالات والورش وتجار التقسيط فقد ينحصر دورها في تقديم التسهيلات المالية المباشرة، مما سيؤدى إلى انكماش حركة البيع بالثقة وخلق تحديات حقيقية أمام شريحة واسعة من المستهلكين.
في ظل بيئة يعتمد فيها كثير من الناس على الدخل غير الثابت والعمل غير الرسمي، قد يخلق تقليص قدرة هذه القطاعات على تقديم ائتمان مباشر فجوة في الوصول إلى السلع والخدمات، مما يعيد تشكيل الأسواق بطريقة قد تُقصي الفئات الأكثر ضعفًا، دون أن يكون ذلك مقصودًا من القرار في حد ذاته، وإنما كأثر لذلك التصحيح.
وعلى الرغم من وجاهة القرار الحقوقية، فإن هذا التحول التشريعي يستدعي مراجعة موازية للسياسات الاقتصادية والتنفيذية، لضمان ألا تتحول الحماية من الحبس، إلى عبء إضافي على منظومة العدالة الاقتصادية والاجتماعية.
بقلم: الأستاذ المحامي/ محمد رجب منسيه
الكاتب: المحامي محمد رجب منسيه
تمهيد
شهدت السنوات الأخيرة تحولًا جوهريًا في مفهوم التنفيذ المدني (الحقوقي)، حيث اتجهت العديد من الدول إلى إلغاء الحبس التنفيذي في قضايا الديون الحقوقية، إعمالاً للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وفي مقدمتها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي يحظر سلب الحرية بسبب العجز عن الوفاء بالتزام مدني (حقوقي).
في هذا السياق، انضمت المملكة الأردنية إلى هذا الاتجاه من خلال تعديل قانون التنفيذ رقم 25 لسنة 2007 بموجب القانون المعدل رقم 4 لسنة 2020، الذي ألغى الحبس التنفيذي في معظم القضايا المالية.
الأردن في سياق التجارب الدولية
كانت دول مثل فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، لبنان، وتونس قد ألغت أو قيدت حبس المدين منذ عقود أو سنوات، بعد أن قامت بتأسيس منظومات قانونية وتنفيذية ومالية متكاملة.
وضمن سعى الأردن إلى تطوير أنظمته القانونية لتتوافق مع الواقع القانوني العالمي خاصة فيما يخص منظومة الاقتصاد والبيئة الاستثمارية ويأتي هذا التعديل كمطلب مهم وجوهري وكحلقة من الحلقات في سلسلة مترابطة.
ورغم أن القرار جاء القرار متأخرًا نسبيًا فإن السبب في ذلك يعزى إلى البنية الاجتماعية والاقتصادية، إذ يتميز المجتمع الأردني بارتفاع نسبة الاقتصاد غير الرسمي، وانتشار التعاملات المالية غير الموثقة، بالإضافة إلى محدودية أدوات الإفصاح المالي.
البنية الاجتماعية والاقتصادية الأردنية وتحديات البدائل
يُفترض أن يصاحب إلغاء الحبس التنفيذي نظام فعّال للتنفيذ المدني(الحقوقي)، غير أن الواقع في الأردن لا يزال يشهد تحديات كبيرة:
• غالبية المدينين من محدودي الدخل.
• يشكل الاقتصاد غير الرسمي نسبة كبيرة من النشاط الاقتصادي، ما يجعل من تتبع أموال المدينين أمراً صعباً، مما يؤثر على إجراءات الحجز والتحصيل بسبب محدودية البيانات المتوفرة.
• عدم وجود الآليات الفعالة للتمييز بين المدين المعسر والمدين المماطل في حال تم تعديل القانون وأصبح من المهم التفريق بين الحالتين.
أثر القرار على منظومة المال والتجارة في الأردن
على الرغم من أن الحبس التنفيذي لم يكن أداة رئيسية لدى البنوك لتحصيل ديونها، فإن إلغاءه لم يؤثر سلبًا على هذه المؤسسات التي غالباً ما تعتمد على ضمانات قوية، وتعمل ضمن إطار قانوني متين يحفظ حقوقها، كالرهن والكفالات والتحويلات البنكية.
بل على العكس، يبدو أن البنوك أصبحت في موقع أقوى نسبيًا، حيث أصبح الأفراد والتجار أكثر تحفظًا في منح الائتمان المباشر، مما يدفعهم إلى الاعتماد المتزايد على التمويل البنكي.
في المقابل، قد تضعف هذه الخطوة القانونية من قدرة القطاعات الصغيرة والمتوسطة – مثل أصحاب المحلات التجارية الصغيرة، وتجار التقسيط، والورش الصغيرة – على استرداد حقوقها، مما يزيد من حالة الحذر ويقلل من ثقة صغار التجار في التعاملات الائتمانية غير البنكية.
مما قد يؤدي إلى خروج الكثيرين منهم من الأسواق وإلى تقلص فرص المستهلكين من ذوي الدخل المحدود في الحصول على سلع وخدمات مؤجلة الدفع أو بالتقسيط، مما قد يسبب أيضاً تراجعاً في حركة السوق المحلية التي كانت تعتمد بشكل كبير على البيع بضمانات أقل من تلك التي تشترطها البنوك.
خلاصة
إن التوجه نحو إلغاء الحبس التنفيذي للديون الناشئة عن العقود خطوة تصحيحية في مسار التشريع القانوني وتتماشى مع المبادئ الحقوقية الحديثة، وتهدف إلى حماية الكرامة الإنسانية، إلا أن مفاعيله العملية حتما ستنعكس على القطاعات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، وإن كانت بدرجات متفاوتة.
فالمؤسسات المالية الكبرى، وخاصة قطاعات البنوك، في الغالب الأعم أنها لن تتأثر سلبًا بهذا التعديل، بل يبدو أنها تعزز موقعها باعتبارها الجهة الوحيدة القادرة على إدارة المخاطر بشكل فعال.
أما الأعمال الصغيرة مثل البقالات والورش وتجار التقسيط فقد ينحصر دورها في تقديم التسهيلات المالية المباشرة، مما سيؤدى إلى انكماش حركة البيع بالثقة وخلق تحديات حقيقية أمام شريحة واسعة من المستهلكين.
في ظل بيئة يعتمد فيها كثير من الناس على الدخل غير الثابت والعمل غير الرسمي، قد يخلق تقليص قدرة هذه القطاعات على تقديم ائتمان مباشر فجوة في الوصول إلى السلع والخدمات، مما يعيد تشكيل الأسواق بطريقة قد تُقصي الفئات الأكثر ضعفًا، دون أن يكون ذلك مقصودًا من القرار في حد ذاته، وإنما كأثر لذلك التصحيح.
وعلى الرغم من وجاهة القرار الحقوقية، فإن هذا التحول التشريعي يستدعي مراجعة موازية للسياسات الاقتصادية والتنفيذية، لضمان ألا تتحول الحماية من الحبس، إلى عبء إضافي على منظومة العدالة الاقتصادية والاجتماعية.
بقلم: الأستاذ المحامي/ محمد رجب منسيه
الكاتب: المحامي محمد رجب منسيه
تمهيد
شهدت السنوات الأخيرة تحولًا جوهريًا في مفهوم التنفيذ المدني (الحقوقي)، حيث اتجهت العديد من الدول إلى إلغاء الحبس التنفيذي في قضايا الديون الحقوقية، إعمالاً للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وفي مقدمتها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي يحظر سلب الحرية بسبب العجز عن الوفاء بالتزام مدني (حقوقي).
في هذا السياق، انضمت المملكة الأردنية إلى هذا الاتجاه من خلال تعديل قانون التنفيذ رقم 25 لسنة 2007 بموجب القانون المعدل رقم 4 لسنة 2020، الذي ألغى الحبس التنفيذي في معظم القضايا المالية.
الأردن في سياق التجارب الدولية
كانت دول مثل فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، لبنان، وتونس قد ألغت أو قيدت حبس المدين منذ عقود أو سنوات، بعد أن قامت بتأسيس منظومات قانونية وتنفيذية ومالية متكاملة.
وضمن سعى الأردن إلى تطوير أنظمته القانونية لتتوافق مع الواقع القانوني العالمي خاصة فيما يخص منظومة الاقتصاد والبيئة الاستثمارية ويأتي هذا التعديل كمطلب مهم وجوهري وكحلقة من الحلقات في سلسلة مترابطة.
ورغم أن القرار جاء القرار متأخرًا نسبيًا فإن السبب في ذلك يعزى إلى البنية الاجتماعية والاقتصادية، إذ يتميز المجتمع الأردني بارتفاع نسبة الاقتصاد غير الرسمي، وانتشار التعاملات المالية غير الموثقة، بالإضافة إلى محدودية أدوات الإفصاح المالي.
البنية الاجتماعية والاقتصادية الأردنية وتحديات البدائل
يُفترض أن يصاحب إلغاء الحبس التنفيذي نظام فعّال للتنفيذ المدني(الحقوقي)، غير أن الواقع في الأردن لا يزال يشهد تحديات كبيرة:
• غالبية المدينين من محدودي الدخل.
• يشكل الاقتصاد غير الرسمي نسبة كبيرة من النشاط الاقتصادي، ما يجعل من تتبع أموال المدينين أمراً صعباً، مما يؤثر على إجراءات الحجز والتحصيل بسبب محدودية البيانات المتوفرة.
• عدم وجود الآليات الفعالة للتمييز بين المدين المعسر والمدين المماطل في حال تم تعديل القانون وأصبح من المهم التفريق بين الحالتين.
أثر القرار على منظومة المال والتجارة في الأردن
على الرغم من أن الحبس التنفيذي لم يكن أداة رئيسية لدى البنوك لتحصيل ديونها، فإن إلغاءه لم يؤثر سلبًا على هذه المؤسسات التي غالباً ما تعتمد على ضمانات قوية، وتعمل ضمن إطار قانوني متين يحفظ حقوقها، كالرهن والكفالات والتحويلات البنكية.
بل على العكس، يبدو أن البنوك أصبحت في موقع أقوى نسبيًا، حيث أصبح الأفراد والتجار أكثر تحفظًا في منح الائتمان المباشر، مما يدفعهم إلى الاعتماد المتزايد على التمويل البنكي.
في المقابل، قد تضعف هذه الخطوة القانونية من قدرة القطاعات الصغيرة والمتوسطة – مثل أصحاب المحلات التجارية الصغيرة، وتجار التقسيط، والورش الصغيرة – على استرداد حقوقها، مما يزيد من حالة الحذر ويقلل من ثقة صغار التجار في التعاملات الائتمانية غير البنكية.
مما قد يؤدي إلى خروج الكثيرين منهم من الأسواق وإلى تقلص فرص المستهلكين من ذوي الدخل المحدود في الحصول على سلع وخدمات مؤجلة الدفع أو بالتقسيط، مما قد يسبب أيضاً تراجعاً في حركة السوق المحلية التي كانت تعتمد بشكل كبير على البيع بضمانات أقل من تلك التي تشترطها البنوك.
خلاصة
إن التوجه نحو إلغاء الحبس التنفيذي للديون الناشئة عن العقود خطوة تصحيحية في مسار التشريع القانوني وتتماشى مع المبادئ الحقوقية الحديثة، وتهدف إلى حماية الكرامة الإنسانية، إلا أن مفاعيله العملية حتما ستنعكس على القطاعات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، وإن كانت بدرجات متفاوتة.
فالمؤسسات المالية الكبرى، وخاصة قطاعات البنوك، في الغالب الأعم أنها لن تتأثر سلبًا بهذا التعديل، بل يبدو أنها تعزز موقعها باعتبارها الجهة الوحيدة القادرة على إدارة المخاطر بشكل فعال.
أما الأعمال الصغيرة مثل البقالات والورش وتجار التقسيط فقد ينحصر دورها في تقديم التسهيلات المالية المباشرة، مما سيؤدى إلى انكماش حركة البيع بالثقة وخلق تحديات حقيقية أمام شريحة واسعة من المستهلكين.
في ظل بيئة يعتمد فيها كثير من الناس على الدخل غير الثابت والعمل غير الرسمي، قد يخلق تقليص قدرة هذه القطاعات على تقديم ائتمان مباشر فجوة في الوصول إلى السلع والخدمات، مما يعيد تشكيل الأسواق بطريقة قد تُقصي الفئات الأكثر ضعفًا، دون أن يكون ذلك مقصودًا من القرار في حد ذاته، وإنما كأثر لذلك التصحيح.
وعلى الرغم من وجاهة القرار الحقوقية، فإن هذا التحول التشريعي يستدعي مراجعة موازية للسياسات الاقتصادية والتنفيذية، لضمان ألا تتحول الحماية من الحبس، إلى عبء إضافي على منظومة العدالة الاقتصادية والاجتماعية.
بقلم: الأستاذ المحامي/ محمد رجب منسيه
التعليقات