أخبار اليوم - كانت لانا زيدان (13 عامًا) تجلس عند باب بيتها في مخيم الشاطئ غرب غزة، تحت ضوء الشمس المتكسر بين أزقة الحيّ، تحيط بها علب خرز صغيرة ملوّنة، تلتقط كلّ حبّة بعناية، كما لو كانت تصنع شيئًا أغلى من لعبة؛ كانت تصنع الفرح.
بجانبها، يدور أخوها آسر (4 أعوام) حولها بحماس، يحاول تقليدها رغم أن أصابعه الصغيرة تعجز عن الإمساك بالخيط. أما الرضيعة "إلين"، التي وُلدت قبل أيام فقط من اندلاع الحرب، فكانت تقبع في حضن مريم، ابنة خالتها، ملفوفة بلحاف خفيف، في حين كان كرم، ابن خالتها الآخر، يرسم على الأرض بعصا خشبية، وكأن لا شيء في العالم خارج هذه الدائرة الصغيرة من اللعب.
كانت لانا أختهم الكبيرة، وسيدة هذا العالم البسيط؛ تصنع الأساور وتوزعها، وتبيع بعضها للأطفال في الحي، ثم تشتري بثمنها ما يدخل الفرحة على وجوه إخوتها. كانت تعتبر نفسها مسؤولة عنهم، وتفعل ذلك بمحبة خالصة.
"بابا، شوف شو عملت!"، هتفت ذات مرة وهي تريه سوارًا صممته بنفسها، كأنها تعرض عليه كنزًا، ويبتسم الأب، محمد زيدان، وهو يتذكر تلك اللحظة، ويقول لمراسل صحيفة "فلسطين": "كانت لانا عمود البيت، صوتها يملأ المكان، وحنانها يخفف عن صدورنا".
يستحضر زيدان اليوم الأخير: كانت "لانا" كعادتها، تدير عالمها الصغير من الخرز والضحكات، والهواء مشبع برائحة البحر القريب، وصوت الطائرات لا يزال في الخلفية، لكنه لم يمنعهم من محاولة سرقة لحظة طبيعية من حياة غير طبيعية.
دويّ انفجار
لم يكن هناك صوت طائرة يُمهّد للقصف، فقط صمت مفاجئ ثم كرة نارية مزّقت الهواء، تلتها صرخة واحدة.. وانقطع كل شيء.
يتابع الوالد: "خلال ثوانٍ، تحوّلت المنطقة إلى كومة من الغبار، الحجارة تناثرت، والخرزة الزرقاء التي كانت في يد لانا استقرّت في ركن بعيد، أما اليدان فلم تُعرفا. فقد استهدفت طائرة إسرائيلية، بصاروخ مباشر، التجمع الذي كان فيه الأطفال. في لحظة واحدة، ارتقى نحو 25 شهيدًا، وأُصيب العشرات، معظمهم من الأطفال، من بينهم لانا وآسر وإلين وكرم. ونجت وحدها مريم، التي أُصيبت بجروح متوسطة، فحملها الجيران وهي تنزف وتبكي، لا تفهم ما حدث".
يشير الأب بحزن إلى أنه في تلك اللحظة، كان بالقرب من الشاطئ ليأخذ قسطًا من الهواء، وعندما عاد بعد دقائق، قابله أحد الجيران مرتبكًا وصامتًا، قبل أن ينطق بكلمات ستبقى محفورة في ذاكرته إلى الأبد: "أولادك استشهدوا.. شدّ حيلك".
يقول محمد: "انقطع نفسي، وكأن الأرض انسحبت من تحتي. جريت للبيت، لم أكن أصدّق، لكني وجدت أهلي، وجثامين أولادي، والناس يبكون، وأنا فقط كنت أنظر إليهم وأبحث عن أبنائي لأضمّهم إلى صدري".
بعد ساعات، دُفنت لانا وإلين في قبرٍ واحد، كأن حضنها الأخير كان هناك، بينما دُفن آسر وابن خالته كرم في قبرٍ آخر، على بعد أمتار، بسبب ضيق المساحة وعدم توفر قبور جديدة.
زورق حربي
يمضي الوالد المكلوم بحزن عميق وهو ينظر إلى وعاء الملوخية الذي ظلّ في المطبخ كما هو، ويقول: "كانوا جائعين، رحلوا قبل أن يأكلوا الغداء. أمّهم كانت تطبخه من أجلهم. لم يأكلوه، ولم نأكله نحن، لم يدخل بيتنا الطعام منذ ذلك اليوم".
ولم تكن هذه الخسارة الوحيدة لعائلة زيدان. فقبل نحو 50 يومًا فقط، فقد محمد والده بعد أن استُهدف بقذيفة من زورق حربي إسرائيلي أثناء عملهم في الصيد. انفصل رأسه عن جسده، واستغرق الأمر خمسة أيام حتى وجدوا جثمانه. وقبلها بخمس سنوات، فقد محمد شقيقه عبد الله، قرب الحدود المصرية، خلال مزاولة مهنة صيد الأسماك.
يقول محمد: "نُولد في البحر ونُقتل في البر، ولا ننجو لا هنا ولا هناك".
حياة ممزقة
منذ السابع من أكتوبر 2023، ومثل آلاف العائلات في غزة، لم تعد عائلة زيدان تعرف معنى الأمان. نزحوا، ثم عادوا إلى بيت شبه مدمّر، وضعوا الشوادر على السقف وسكنوا تحته، لعلّ الحياة تبتسم. لكنها لم تبتسم.
في كل زاوية من المنزل، شيء يخص "لانا": خرزة، دفتر، قطعة قماش، لكنها لم تعد هنا لتلعب أو تصنع الأساور. كانت لانا تضحك... ثم اختفى كل شيء، كما يقول والدها.
فلسطين أون لاين