أطباء مُجوَّعون .. ملحمة إنقاذ حياة من العدم في غزة

mainThumb
أطباء مُجوَّعون.. ملحمة إنقاذ حياة من العدم في غزة

29-07-2025 09:44 AM

printIcon

أخبار اليوم - ينهمك الطبيب منير الشخريت في عمله بقسم الطوارئ في مجمع الشفاء الطبي بغزة، مدفوعا بحسه الإنساني في مواجهة علامات الدوار والهزال التي تنتابه أحيانا تحت سيف التجويع، الذي يطال الطواقم الطبية أيضا.

"ليس سهلا أن تصف صورة الطبيب المجوع الذي يأتي لعمله وهو لا يستطيع توفير لقمة العيش له ولبيته"، بهذه العبارة يلخص الشخريت، استشاري الطوارئ، لـ "فلسطين أون لاين"، قسوة الظروف التي تفرضها المجاعة على الأطباء.

وفي المجمع، الذي يعد أكبر مستشفيات غزة وقد دمره الاحتلال في خضم حرب الإبادة الجماعية، يتكدس المصابون والمرضى، ويجد الأطباء أنفسهم في مواجهة سيل بشري يحتاج إلى الرعاية الطبية، دون توفر أدنى المقومات، بسبب استمرار الحرب والحصار.

ومنذ الثاني من مارس/آذار، أطبق جيش الاحتلال حصاره على قطاع غزة، مانعا دخول المساعدات الإنسانية بما في ذلك الغذاء، قبل أن يسمح أخيرا، تحت ضغط دولي، بدخول بضع شاحنات تقول المنظمات الدولية إنها تمثل قطرة في محيط الاحتياج الإنساني.

ووفق الشخريت، فإن الطبيب يكون بين نارين: التجويع الذي يعانيه وعدم تمكنه من توفير الغذاء لنفسه ولأهله، والواجب الملقى عليه بالحضور إلى العمل لخدمة أبناء شعبه، خصوصا في ظل هذه الحرب، وما تسفر عنه من مصابين ومرضى بعشرات الآلاف.

ويتابع: في قسم الطوارئ، الحالات التي تصل كلها صعبة سواء بسبب القصف بالطيران الحربي الإسرائيلي أو الانتشال من تحت الركام أو الإصابات التي تأتي من مناطق انتظار المساعدات وقد زاد عددها في الآونة الأخيرة.

ويواجه الطبيب صنوف المعاناة ذاتها التي يواجهها أبناء شعبه، من الفقد والنزوح القسري والتجويع والاستهداف الشخصي، ثم يأتي لعمله للتعامل مع تلك الحالات الإنسانية سواء كانت جراحية، أو إصابات، أو مرضى، تحت ظروف يصفها الشخريت بأنها قاسية جدا.

ويعمل الشخريت بمعدل 10 ساعات يوميا، ويقضي زملاؤه ما لا يقل عن سبع ساعات في العمل، وهي مدة يقول إنه يجب أن يتخللها على الأقل وجبة واحدة كافية من الطعام، مع مشروب وقسط من الراحة، لكن ذلك غير متوفر.

وفي أحسن الحالات، يمكن أن يتقاسم الطبيب وزميله وجبة واحدة من الأرز فقط إذا توفر، لكن حتى ذلك غير منتظم وغير كاف، بحسب الشخريت.

وفي المحصلة فإن معظم الأطباء يعملون حتى دون تناول وجبة الإفطار، وقد عودوا أنفسهم على العمل دون غذاء، وتحت ظروف صعبة.

ويصيب ذلك الأطباء كما غيرهم، بأعراض منها الدوار والهزال والإعياء السريع. يقول الشخريت: مثلا، إنسان يعمل طوال اليوم لم يكن يشعر بإعياء، واليوم بعد ساعة أو اثنتين من العمل تصيبه تلك العلامات، والسبب عدم تناول الوجبة الغذائية المتكاملة.

ويشير إلى تفاوت القدرات فيما بين الأطباء في مواجهة المجاعة، مفسرا: هناك شخص يتحمل تناول وجبة واحدة جزئية في اليوم، وآخر يحتاج ثلاث وجبات ليتمكن من العمل.

ورغم ذلك، يقول استشاري الطوارئ، إن ما يميز الطبيب الفلسطيني هو أنه لا يقصر في أداء واجبه، تحت أي ظرف.

مجوع يعالج مجوعا

وفي ظل هذا الواقع المأساوي، لا تتوقف التحذيرات من داخل المستشفيات، ففي 19 يوليو/تموز، حذر مدير مجمع الشفاء الطبي د.محمد أبو سلمية من أن "الطواقم الطبية أصبحت الآن غير قادرة على علاج المرضى والجرحى بسب التجويع المفروض على غزة"، مضيفا عبر فيسبوك، أن "الطواقم الطبية تسقط ويغمى عليها في غرف العمليات وفي أقسام الطوارئ، وسائقو الإسعاف لا يستطيعون قيادة سياراتهم بسب الجوع".

ولخص المشهد بقوله: طبيب وممرض مجوع وموجوع يعالج جريحا ومريضا مجوعا وموجوعا يحضره سائق إسعاف مجوع وموجوع"، داعيا "أحرار العالم" إلى أن يقولوا "كفى لهذا التجويع".

وأمس، أعلنت وزارة الصحة استشهاد 14 مجوعا في يوم واحد بغزة، ليرتفع العدد الإجمالي لشهداء المجاعة وسوء التغذية إلى 147 حالة، من بينهم 88 طفلًا.

وللشهر الـ22 تواليا من حرب الإبادة الجماعية على غزة، يستخدم الاحتلال التجويع سلاح حرب ضد الأهالي، وهو ما وثقته المنظمات الدولية المعنية، في وقت يسعى تحت ضغوط دولية إلى "تجميل" صورته بإدخال بضعة شاحنات مساعدات، لا تحدث فرقا في واقع المجاعة التي تسببت بالفعل في استشهاد 122 مجوعا بينهم 83 طفلا، وفق المكتب الإعلامي الحكومي.

ويشمل التجويع الأطفال أيضا، فقد حذر المكتب في بيان الأحد، من أن قطاع غزة على أعتاب مقتلة جماعية مرتقبة بحق 100,000 طفل خلال أيام إن لم يُدخَل الحليب فورا.

وبعيدا عن إشراف الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية الدولية، بدأت سلطات الاحتلال منذ 7 مايو/أيار الماضي تنفيذ خطة توزيع مساعدات عبر ما تُعرف بـ"مؤسسة غزة الإنسانية"، وهي مدعومة إسرائيليا وأميركيا ومرفوضة من الأمم المتحدة. وأسفرت عمليات الاستهداف المرتبطة بما يعرف بـ"فخاخ المساعدات الأميركية الإسرائيلية" عن استشهاد 1132 غزي مجوع وإصابة 7521 آخرين.

ويعرقل الاحتلال تأمين ما يسمح بدخوله من مساعدات شحيحة في غزة عبر استهداف رجال الشرطة، التي أكدت في بيانات عدة عزمها على مواصلة أداء مهامها في خدمة المواطنين، رغم الاستهدافات الإسرائيلية الممنهجة.

ويسعى الاحتلال أيضا إلى إفشال محاولات العشائر تأمين المساعدات، ضمن سياسة متعمدة لإحداث حالة من الفوضى، وفق مراقبين.

ووفق تحقيقات وزارة الداخلية في غزة بعدد من الحوادث التي وقعت مؤخرا، فإن اللصوص يقودهم عملاء، ويحركوا بغطاء جوي من طائرات الاحتلال الإسرائيلي، لاستهداف رجال الأمن والشرطة عند التصدي لهم.

وجاء في بيان سابق للوزارة أن تكامل الأدوار بين اللصوص والعملاء مع الاحتلال، هدفه إحداث الفوضى وبث الخوف في نفوس المواطنين.

وفي خضم حرب الإبادة متعددة الأوجه، لا يزال الطبيب المجوع يربط كمامة وجهه، وينحني على جرح مفتوح، يحاول إنقاذ ما تبقى من الحياة في غزة.

فلسطين أون لاين