أخبار اليوم - لم يكن يعلم الفتى كرم حسين (18 عامًا)، أن رحلته بحثًا عن الطعام لعائلته، وسط مجاعة خانقة، ستنتهي باعتقال مرير وتجربة قاسية مع الموت والتعذيب الجسدي والنفسي.
في صباح يوم 26 يونيو/حزيران 2025، توجّه كرم إلى منطقة "نيتساريم" جنوب مدينة غزة، حيث تُوزَّع ما تُسمى بالمساعدات "الإنسانية" عبر مؤسسة أمريكية-إسرائيلية، ليقع هناك في كمين محكم نصبه جيش الاحتلال الإسرائيلي.
كرم، الذي يسكن في حي الشيخ رضوان شمال غرب مدينة غزة، يروي لصحيفة "فلسطين" ما وصفه بـ"رحلة الموت":
"غادرت منزلي مساء يوم 25 يونيو، وسرت أكثر من 25 كيلومترًا على الأقدام، لم يكن هناك خيار آخر... الجوع ينهشنا".
مركز إذلال
وأضاف: "عندما وصلت قرب وادي غزة، كنا نحو 20 شابًا ننتظر فتح بوابة التوزيع الساعة العاشرة صباحًا، وفجأة طوّقتنا قوات الاحتلال. ما جرى بعد ذلك كان أشبه بفيلم رعب؛ أجبرونا على خلع ملابسنا وارتداء زي أبيض يشبه زي مرضى كورونا، وثبّتوا كاميرات على رؤوسنا، ورافقونا بكلاب مدرّبة وطائرات مسيّرة (كوادكابتر) تحمل قنابل".
ويتابع كرم وهو يستحضر تلك اللحظات بجسد مرتجف وعينين تغمرهما الذكريات المؤلمة: "قالوا لنا: توجهوا إلى المكان، وأحضروا من تجدونه هناك، وإذا حاولتم الهرب ستنفجر الطائرة فيكم".
امتثل كرم للأوامر مضطرًا، وجلب مع رفاقه مزيدًا من الشبان، ليبلغ عدد المعتقلين قرابة 30 شخصًا. بعدها نُقلوا في ناقلة جند مغلقة لثلاث ساعات، وهم مقيّدو الأيدي والأرجل، وتعرضوا للضرب المتعمد مع كل توقف أو انعطاف حاد للمركبة.
وأشار إلى أنهم أُنزلوا لاحقًا في منطقة صحراوية، حيث تعرضوا للضرب الوحشي، قبل أن يُنقلوا إلى سجن "الرملة".
هناك، بدأت مرحلة جديدة من العذاب، بحسب كرم: "ألبسونا زي السجن تحت الضرب، ثم نقلونا للتحقيق. كل أسئلتهم كانت عن الجنود الأسرى والمقاومة. قلت لهم: أنا مجرد فتى خرجت فقط بحثًا عن الطعام لعائلتي".
وأكد أنه قضى نحو 15 يومًا داخل السجن، تحت وطأة التعذيب اليومي والإهانات المستمرة.
"سدي تيمان"... سجن التعذيب
لاحقًا، تم نقل كرم إلى سجن "سدي تيمان"، حيث تضاعف التعذيب، كما يقول: "تُركنا في ظروف مهينة، لا يُسمح لنا حتى برفع رؤوسنا. الضرب، الصدمات الكهربائية في الرأس، والتجويع كانت ممارسات يومية".
ويضيف: "بدأت أعاني من تشنجات عصبية بسبب الصدمات، ولم يلتفت إلينا أحد. لا أطباء، ولا إسعاف. كانوا يركلوننا حتى ونحن نرتجف على الأرض".
في 24 يوليو، تم ترحيل كرم مع 9 معتقلين آخرين، أغلبهم جرحى، إلى معبر كرم أبو سالم. "قالوا لنا: اركضوا غربًا ولا تلتفتوا خلفكم. ركضنا كمن يهرب من الجحيم. التقينا بالصليب الأحمر الذي نقلنا إلى مستشفى ناصر".
وعلى الطريق، كما يروي كرم، أوقفهم جيش الاحتلال وأجبرهم على نقل الجرحى فقط، وتركوا الشهداء خلفهم.
يتابع: "حملت طفلًا عمره 13 عامًا كان ينزف من فخذه. كانت الرصاصات تحترق في جسده. حملته إلى الباص، لكنه مات بين يديّ".
وفي مستشفى ناصر، وبينما حاول الأطباء إنعاشه بالأوكسجين، تعرّض كرم لنوبة تشنج شديدة نُقل على إثرها إلى قسم الطوارئ.
"ما إن استفقت حتى رأيت أسيرًا آخر بجانبي يختنق. دفعت بجهاز التنفس نحوه. كل ما فكرت فيه أنني على الأقل أنقذت إنسانًا، حتى لو لم أستطع إنقاذ ذلك الطفل الصغير".
صدمة العودة
في نفس الليلة، عاد كرم إلى منزله برفقة بعض معارف والده.
"وصلت بعد منتصف الليل إلى حي الشيخ رضوان. كنت مذهولًا. لم أصدق أنني على قيد الحياة. عانقت إخوتي وجيراني... شعرت أنني وُلدت من جديد".
وأشار إلى أن عائلته لم تكن تعرف أنه معتقل، وكانوا يظنونه شهيدًا، يزورون المستشفيات وثلاجات الموتى بحثًا عنه.
"خلال التحقيق، سألت الضابط إن كانت عائلتي تعرف أنني معتقل، فقال لي باستخفاف: (أكيد بيعرفوا)، لكنه كان يكذب... لم يعرفوا شيئًا حتى يوم الإفراج".
"فخاخ الموت"
إلى جوار كرم، يجلس شقيقه مؤمن، مبتسمًا بحرقة، ويقول لـ"فلسطين": "فقدناه في 27 يونيو، وفقدنا كل أمل. فجأة سمعنا خبر الإفراج عنه يوم 24 يوليو على مواقع التواصل. لم نصدق حتى رأيناه بأعيننا".
اليوم، وبعد نجاته من فخ الموت، يوجّه كرم رسالة واضحة: "لا تذهبوا إلى مراكز المساعدات الأمريكية، فهي ليست للغذاء، بل فخاخ للاعتقال والموت."
وفي ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، وبدعم أمريكي كامل، يعيش سكان القطاع تحت حصار خانق ومجازر يومية، أسفرت حتى الآن عن أكثر من 178 ألف شهيد وجريح، بينهم آلاف الأطفال والنساء، وآلاف المفقودين.
ومثل كرم، هناك آلاف الفلسطينيين ممن تحوّل بحثهم عن لقمة خبز إلى رحلة قد لا يعودون منها أبدًا.