الشهيد عودة الهذالين .. المعلم الذي ارتقى واقفًا في وجه الجرافة

mainThumb
الشهيد عودة الهذالين... المعلم الذي ارتقى واقفًا في وجه الجرافة

29-07-2025 02:11 PM

printIcon

الخليل -أخبار اليوم - في صباح مثقل بالغبار ورائحة التراب المحرّك، وقف المعلم الشاب عودة محمد خليل الهذالين على مشارف قريته أم الخير في مسافر يطا، كما فعل عشرات المرات. لم يكن يحمل سلاحًا، فقط صوته وجسده النحيل، وروحًا ترفض الخضوع لثِقَل الجرافات والمستعمرين المدججين بالسلاح. في تلك اللحظة، لم يكن عودة معلمًا للغة الإنجليزية فحسب، بل كان عنوانًا لصمود قريته وتاريخًا متجسدًا من الألم والأمل... ثم سقط شهيدًا برصاصة مستعمر أُطلقت على رأسه من مسافة قريبة، بدمٍ بارد.

من هو عودة الهذالين؟

عودة، البالغ من العمر (31 عامًا)، لم يكن اسمه غريبًا في الأوساط التربوية أو الحقوقية. عمل معلمًا للغة الإنجليزية في مدرسة الصرايعة الثانوية، وكان ناشطًا بارزًا في مجال حقوق الإنسان ومناهضة الاستيطان لأكثر من عقد من الزمن. لم تكن نشاطاته تنتهي في حدود الصف الدراسي، بل امتدت إلى الوقفات الميدانية، توثيق الانتهاكات، والعمل المجتمعي.

متزوج وأب لثلاثة أطفال: وطن، ومحمد، وكنان، أكبرهم لم يتجاوز السادسة. كان يرى في التعليم والكرامة وجهين لمعركة واحدة: معركة البقاء في أرضه. ومثل كثير من أبناء "المسافر"، لم يختر العيش في الكهوف ولا انتظار هدم بيته، بل فُرضت عليه حياة المقاومة اليومية.

إطلاق النار بدم بارد

بحسب روايات شهود العيان، فقد وقع الاعتداء أثناء محاولة مستعمرين اقتحام أراضي القرية مصحوبين بجرافة، بغرض توسيع نطاق مستعمرة "كرميئيل". حاول عودة التصدي للجرافة، فاندلعت مشادة، ثم أطلق المستعمر ينون ليفي رصاصة مباشرة نحو رأسه.

المستعمر معروف بسجله الحافل في الاعتداءات، وقد فُرضت عليه عقوبات من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة سابقًا، لكن ذلك لم يمنعه من الاستمرار في ممارسة العنف في ظل بيئة توفر له الغطاء الكامل من قبل قوات الاحتلال.

المسافر: عنوان متجدد للنكبة

قرية أم الخير، حيث وُلد وعاش عودة، ليست مجرد تجمع بدوي ناءٍ، بل تمثل واحدة من أبرز ضحايا المشروع الاستيطاني الإسرائيلي جنوب الخليل. تقع على بعد 20 كم من المدينة، ويسكنها لاجئون من قبيلتي الهذالين والفقير الذين طُردوا من أراضيهم في تل عراد عام 1948.

في عام 1981، أقيمت مستوطنة "كرميئيل" بجوار مضاربهم، ومنذ ذلك الحين بدأت رحلة التضييق: منع البناء، الهدم المتكرر، مصادرة الأراضي، وفرض بيئة خانقة تهدف إلى التهجير القسري.

يقول خليل الهذالين، شقيق الشهيد ورئيس المجلس القروي:

"استُشهد أخي وهو يدافع عن آخر بقعة نملكها. حاول أن يحمي الأرض بالكلمة والموقف والوقوف في وجه الجرافة، ولم يحمل سلاحًا سوى ضميره. هذه ليست جريمة فردية، بل سياسة منهجية لقتل الحياة في المسافر."

أرقام وخطر التهجير

وفق معطيات هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، نفذ المستعمرون أكثر من 2150 اعتداءً خلال النصف الأول من عام 2025 وحده، أدت إلى استشهاد أربعة فلسطينيين، وتسببت بتدمير ممتلكات وتهجير عشرات العائلات.

ويُقدّر عدد سكان مسافر يطا بنحو6000 نسمة، جلهم مهددون بالترحيل. وتواجه نحو200 أسرة خطر التهجير الوشيك في المنطقة المعروفة عسكريًا بـ"918"، والتي تسعى إسرائيل لضمّها فعليًا عبر سياسة القضم الاستيطاني اليومي.

تحذيرات دولية ومطالبات بالمحاسبة

في 5 تموز 2025، أصدر مدير شؤون "الأونروا" في الضفة الغربية، رولاند فريدريك، تحذيرًا رسميًا مما أسماه "تدهورًا مقلقًا في الوضع الإنساني في أم الخير"، مؤكدًا أن "المستعمرين باتوا يهاجمون الأهالي ليلًا ونهارًا، ويعملون على توسيع الأسوار داخل أراضيهم".

وحذر من أن ما يجري في مسافر يطا يرقى إلى تهجير قسري، وهو جريمة حرب بموجب القانون الدولي.

وأضاف: "الاحتلال الإسرائيلي مسؤول قانونيًا عن حماية السكان تحت الاحتلال، ووقف هدم الممتلكات الخاصة، والحد من الإفلات من العقاب."

صوت الشهيد الذي لا يُكتم

عودة الهذالين لم يكن فقط معلمًا وناشطًا، بل شارك في توثيق النكبة المستمرة بصور وأفلام، وكان من المساهمين في إنتاج فيلم "لا أرض أخرى"، الحائز على جائزة أوسكار، والذي انتقدته الحكومة الإسرائيلية بشدة، معتبرةً فوزه "لحظة حزينة للسينما"، لأنه يُظهر حقيقة النكبة التي ترفضها الرواية الإسرائيلية.

نعي وطني تربوي

في بيان رسمي، نعت مديرية التربية والتعليم في يطا المعلم الشهيد، وجاء فيه:
"الأسرة التربوية فقدت قامةً وطنيةً نبيلة، عُرف بإخلاصه في أداء رسالته التربوية، ووقوفه في صفوف المدافعين عن الحق والكرامة. عودة الهذالين لم يكن مجرد معلم، بل كان نموذجًا يُحتذى به في الوطنية والالتزام الأخلاقي."

ورغم أن الإعلام الدولي لا يسلط الضوء بشكل كافٍ على ما يجري في مسافر يطا، فإن جريمة اغتيال عودة الهذالين أعادت تسليط الضوء على معركة البقاء اليومية التي يخوضها الفلسطينيون في المنطقة (ج)، حيث تتقاطع آلة الهدم، والمستعمرون المسلحون، ومشاريع الطرد، في منظومة استعمارية متكاملة.

في استشهاد المعلم عودة، ترتفع صرخة المسافر مجددًا: "لن نرحل... ولن ننسى."