تشويه وتشويش الوعي من أخطر أنواع السلاح في وجه الدولة الأردنية

mainThumb
تشويه وتشويش الوعي من أخطر أنواع السلاح في وجه الدولة الأردنية

05-08-2025 10:36 AM

printIcon

د.زهور غرايبة تكتب:

يتعرض الأردن في الآونة الأخيرة إلى نمط متصاعد من الاستفزازات والاستهدافات التي لا يمكن فهمها كأحداث عارضة أو ردود أفعال عفوية، إذ أنها تظهر كموجات متعاقبة ومركبة تتقاطع من خلالها الأبعاد السياسية مع الإعلامية، والميدانية مع الرمزية، لتشكّل محاولة متعمدة للتأثير في استقرار الدولة وصورتها، ما يثير القلق لا يقتصر على وتيرة هذه الحملات، إنما توقيتها المنسق وطبيعة أدواتها، التي تتراوح بين حملات تشويه وتشكيك، واعتداءات على بعثات دبلوماسية أردنية في الخارج، وتضليل ممنهج المنصات الرقمية.

إن ما يحدث في الحقيقة يتعدى استهداف السياسة الأردنية، ويتجاوزها إلى المس برمزية الدولة ومكانتها الأخلاقية والمعنوية، فحين تتحول المواقف الوطنية المستقلة إلى سبب للهجوم، ويصبح الخطاب المتزن مادة للتأويل والسخرية، فإن ذلك يدل على سعي محموم لإضعاف الدولة معنويًا، بعد أن ثبت فشل الضغط التقليدي في زعزعة مواقفها، إن هذه الممارسات تتغذى على خلق تصورات مشوهة، وتكرار رسائل محبطة، ومحاولات إقناع المواطن أن دولته فقدت توازنها، أو أنها عاجزة عن حماية سيادتها ومصالحها. وبهذا، لا يكون الاستهداف خارجيًا فقط، لكنه يبدأ حين تُفكك الثقة من الداخل وتُزرع الشكوك في القلوب.

في السياق نفسه، تُستخدم أدوات الرمزية السياسية كوسائل للضغط الناعم، كأن يتم الاعتداء على سفارات أردنية في الخارج أو التقليل من وزن الأردن في المعادلات الإقليمية، هذا النوع من الاستهداف لا يعتمد حصريا على المواجهة المباشرة، إذ أنه يعمل على المدى الطويل لتآكل الصورة العامة وإضعاف الحضور الرمزي للأردن في وعي الآخرين، وهو ليس مجرد عنف مادي أو يدخل ضمن التفسيرات المادية الفلسفية، بل شكل دقيق من العنف الرمزي الذي يحس به من خلال التسلل إلى الخطاب ويعيد تشكيل المفاهيم والتصورات لدى الرأي العام المحلي والدولي على حد سواء.

هذا النوع من العنف لا يُمارَس بصوت مرتفع، بينما يتسلل بهدوء عبر الإعلام، وعبر اختلاق سرديات تشكك في نوايا الدولة وتشوّه رموزها وتسخر من خياراتها، هذا النوع من العنف يهدف إلى الهيمنة على الوعي لا على الجغرافيا، وعلى الإدراك لا على الأرض، وهو أخطر من المواجهة المباشرة لأنه يُلبِس نفسه ثوب النقد، ويُغلّف ضرباته بمفردات الحرية والشفافية والتقييم، بينما جوهره تقويض وتهشيم وسحب للثقة.

ومن اللافت أن هذه الحملات لا تتزامن فقط مع مواقف سياسية أو تطورات إقليمية، بل تأتي غالبًا في لحظات تُبدي فيها الدولة الأردنية قدرًا من التماسك أو الاستقلال في القرار، وكأن الرسالة المقصودة أن الحفاظ على الاستقلال ثمنه الاستنزاف، فالمعركة هنا لم تعد في ميادين العسكر أو الاقتصاد فقط، لكنها باتت تمارس بشكل كبير في الفضاء الرمزي والاجتماعي والنفسي، حيث يصبح تحطيم المعنويات أداة لمحاصرة الدولة وإرباكها.

إن مواجهة مثل هذا النوع من العنف الرمزي يبدأ أولًا بتسميته وكشف آلياته الخفية التي تستتر وراء الخطاب الناعم والمظاهر المتحضرة، ولا يجوز الإنكار أو الصمت عنه، فالعنف الرمزي لا يُقاوَم بالشعارات، يقاوم بتفكيك بنيته وإعادة بناء الوعي الجمعي على أسس نقدية تُدرك الفروق بين النقد والتقويض، وبين التعبير الحر والهجوم الممنهج.
كما يتطلب ذلك وجود إعلام وطني تفسيري لا يكتفي بنقل الخبر، يجب عليهِ إعادة صياغة المعنى، واسترداد المبادرة في تفسير الأحداث، ونزع الغطاء عن محاولات التشويه المتقنة، كما يتطلب من النخبة الفكرية والثقافية أن لا تقف على الهامش، يجب عليهم المساهمة في بناء خطاب بديل يُحصّن المواطنين من التسليم السهل بالأفكار الجاهزة والصور المشوهة، ويُعيد الثقة بالرموز الوطنية دون الوقوع في التبرير، فالعنف الرمزي يُهزم حين تتكسر أدواته في وعي المجتمع، لا حين يُرد عليه بنفس لغته.

في مواجهة هذا النوع من الاستهداف أيضًا، لا يكفي الرد التكتيكي أو الإعلامي، إنما هناك حاجة ملحة لتجذير الوعي المجتمعي بالمرحلة، وتعزيز الخطاب الوطني الذي لا يكتفي بالدفاع، بل عليهِ صياغة بدائل معرفية ومعنوية تُحصن المواطنين ضد التشويه والتشكيك، كما يجب بناء رواية وطنية قائمة على الثقة والعقلانية والانتماء، لا رواية تنكفئ للدفاع وتُعيد تكرار الخطاب التقليدي ذاته.

ما يتعرض له الأردن اليوم لا يُقاس فقط بالحجم الجغرافي أو العدد السكاني للدولة، إذ يتعدى مكانته السياسية وخياراته الوطنية التي لا ترضي الجميع، ومن الطبيعي أن تُستهدف الدولة التي ترفض أن تكون تابعًا، وتختار أن تحمي أمنها القومي بوعي لا بانفعال، لكن ما ليس طبيعيًا أن نُسلم لهذا الاستهداف دون أن نرفع منسوب المناعة السياسية والرمزية والمجتمعية معًا.

اختتم بضرورة أن تبقى الدولة التي تعرف من أين تنطلق، قادرة على أن تُحدد إلى أين تريد أن تصل، حتى وإن طالت الطريق واشتدت العواصف.
هذا المقال مبني تحليليا على اسس نظرية وعلمية تنتمي إلى علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية.