صالح الشرّاب العبادي
لم يكن إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلي عن تشكيل فرقة عسكرية جديدة باسم “فرقة جلعاد” على الحدود الأردنية حدثًا عابرًا، بل خطوة تحمل في طياتها رسائل سياسية وأمنية عميقة. هذا التطور يعكس قلقًا استراتيجيًا متزايدًا لدى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية من احتمالات انفتاح جبهة جديدة شرقًا، في وقت يتصدع فيه العمق الداخلي الإسرائيلي تحت وطأة حرب غزة والتحديات الإقليمية. والسؤال الجوهري اليوم: هل يسعى الاحتلال إلى تحويل الأردن إلى “الجبهة التالية” ضمن مسارح الصراع؟
خلفيات التشكيل
أعلن الجيش الإسرائيلي أن فرقة “جلعاد” ستكون مسؤولة عن منطقة غور الأردن والمثلث الحدودي الأردني–الفلسطيني–الإسرائيلي. رسميًا، يبرر الاحتلال هذه الخطوة بتعزيز “الأمن” في وجه تهريب السلاح وتنامي نفوذ الفصائل الفلسطينية في الضفة الغربية. لكن القراءة العميقة تكشف أن الأمر يتجاوز الشق الأمني إلى رسالة ردع مزدوجة: للأردن أولًا، وللرأي العام الإسرائيلي الذي يبحث عن إنجازات عسكرية وسط إخفاقات متلاحقة.
الأبعاد الرمزية للتسمية
اختيار اسم “جلعاد” ليس تفصيلًا لغويًا، بل يحمل دلالات توراتية واضحة؛ فالاحتلال يسعى دائمًا إلى إضفاء شرعية أسطورية على مشاريعه التوسعية عبر استدعاء أسماء من المرويات الدينية. غير أن هذه الأرض التي يحاول العدو نسبها إلى روايته، تُعرف في الجغرافيا العربية والفلسطينية والأردنية بأسماء أصيلة: البلقاء، الكرك، جرش، عجلون، والغور الشرقي. هذه المناطق تشكل الامتداد الطبيعي للهوية العربية والعمق الشرقي لفلسطين التاريخية.
إن استدعاء “جلعاد” ليس إلا محاولة لإعادة إنتاج الجغرافيا بلغة المحتل، بينما تظل الأرض عربية الاسم والهوية، عصية على التزوير مهما تغيرت التسميات.
الأردن في الحسابات الإسرائيلية
بالنسبة لإسرائيل، يشكل الأردن خط دفاع أساسي شرق فلسطين المحتلة، وحدودًا طويلة يمكن أن تتحول إلى خاصرة رخوة إذا تزايدت الضغوط. ورغم معاهدة وادي عربة (1994) والتنسيق الأمني القائم، فإن تل أبيب لا تستبعد سيناريوهات تغير المواقف الأردنية مستقبلًا، خصوصًا مع تصاعد الغضب الشعبي الأردني من المجازر في غزة، وتنامي الأصوات التي ترى في إسرائيل تهديدًا للأردن نفسه، وبعد ضربة الدوحة والخطاب الأردني الرسمي القوي ضد إسرائيل جاءت هذه الخطوة رداً عليه .
بالتالي، فإن تشكيل “فرقة جلعاد” ليس فقط لتأمين الحدود، بل لإرسال رسالة استباقية مفادها: إسرائيل مستعدة للانتقال عسكريًا إلى أي جبهة جديدة إذا استشعرت خطرًا من الشرق ، وحملة تهجير قسري للفلسطينيين والذي ترفضه الأردن وكذلك الدول العربية رفضاً قاطعاً.. وهو بمثابة إعلان الحرب .
الرسائل الموجهة للعرب
هذا التطور يعيد طرح سؤال جوهري: أين المنظومات العربية في مواجهة هذه التهديدات؟ لقد كشفت الضربة الإسرائيلية للدوحة أن اتفاقيات الدفاع المشترك الخليجية والعربية مجرد نصوص جامدة بلا فعل. وإذا كانت قطر، بما تملكه من علاقات وثيقة مع واشنطن وتل أبيب، لم تُحمَ من الاعتداء، فكيف سيكون الحال لو تعرضت الأردن أو مصر أو أي دولة أخرى لعدوان مباشر؟
الأمر لا يتوقف عند الأردن وحده؛ بل يمتد إلى الضفة الغربية التي تشهد تصاعدًا في العمل المقاوم، وسوريا ولبنان واليمن التي تُقصف يوميًا وسط صمت عربي رسمي. هنا تتجلى حقيقة أن ما يسمى “الدفاع العربي المشترك” ما زال حبراً على ورق.
ما وراء الحدود: حرب سرديات
إن تشكيل “فرقة جلعاد” لا يعكس فقط تحركًا عسكريًا، بل جزءًا من حرب سرديات. الاحتلال يريد أن يفرض روايته التوراتية على جغرافيا عربية، بينما يواجه في الواقع حالة تآكل داخلي وتصدع في جبهته الشمالية والجنوبية. وهنا تكمن أهمية استعادة السردية العربية–الفلسطينية: فالمعركة ليست فقط على الأرض، بل على الأسماء والرموز والمعاني.
فرقة “جلعاد” هي جرس إنذار. قد لا تعني مواجهة عسكرية وشيكة على الحدود الأردنية، لكنها تكشف عن عقلية إسرائيلية تستعد دومًا للأسوأ، وتبحث عن خلق مبررات جديدة للتوسع وإعادة رسم الخرائط. أمام هذا المشهد، يظل التحدي الأكبر للأردن والعرب: هل سيكتفون بمراقبة الحدود تُعسكر وتُؤسر باسم “جلعاد”، أم سيعيدون الاعتبار لأسمائهم، لروايتهم، ولقدرتهم على الفعل قبل أن يفرض الاحتلال واقعه الجديد؟