استأصلوا جزءًا من جُمجمتها .. "بَتول" زهرة غزة التي أغمضتها الحرب

mainThumb
استأصلوا جزءًا من جُمجمتها.. "بَتول" زهرة غزة التي أغمضتها الحرب

01-11-2025 10:27 AM

printIcon

أخبار اليوم - في غرفة ضيقة داخل مستشفى الوفاء للتأهيل الطبي بمدينة غزة، ترقد الفتاة بَتول المشهراوي تصارع جراحها الخطيرة بعدما أصيبت في قصف إسرائيلي جعلها حبيسة أسرَّة العلاج.

بجوار سريرها المكسو بغطاءٍ أبيض، تجلس والدتها شرين المشهراوي (45 عامًا)، تتأمل وجه ابنتها التي ترقد بلا حراك، وقد غادرت ملامحها وجهها إلا من أنفاس متقطعة تجعلها على قيد الحياة.

"كانت مجتهدة وصاحبة حلم كبير، لكن حياتها كلها انقلبت رأسًا على عقب بسبب الإصابة." تقول الأم وهي تضع رأسها بين يديها تارة، وتمسك بيد ابنتها تارة أخرى، وكأنها ترجوها أن تفيق من سباتها العميق.

بَتول، البالغة (18 عامًا)، التي كانت قبل أشهر قليلة تملأ حياة عائلتها ضجيجًا بالحلم والأمل، صارت الآن صامتة كحائط الغرفة الذي يجاورها، بعدما فقدت القدرة على النطق والحركة.


ظهر يوم السابع عشر من مايو/ أيار، 2025، لم يكن عاديًا بالنسبة لعائلة هذه الفتاة. وقتها قد حان انطلاق بتول من منزلها الكائن في حي التفاح، شرقي مدينة غزة، لمتابعة دروسها داخل إحدى المراكز التعليمية المخصصة للثانوية العامة. كانت الفتاة شغوفة بحلمها بإنهاء هذه المرحلة، والانضمام للدراسة الجامعية.

لكنها وفي طريق العودة، وتحديدًا في منطقة الرمال الشمالي بمدينة غزة، حدث ما لم يكن متوقعًا. انفجار عنيف دوى وهي تسير في الشارع قرب مدرسة صلاح الدين التابعة لوكالة الغوث الأممية "أونروا".

كان الانفجار ناتج عن استهداف طائرات الاحتلال الإسرائيلي بصاروخ واحد على الأقل لمجموعة من المواطنين، فاستشهد عدد منهم وأصيب آخرون. كانت بَتول واحدة من المصابين بعدما اخترقت شظية حادة رأسها وتسببت بنزيف حاد.

تضيف والدة بتول لـ "فلسطين أون لاين": "بعد إصابتها اتصلت بي مباشرة وأخبرتني أنها تنزف الدماء. كانت تبكي من شدة الألم والخوف."

لم تتمالك الأم نفسها بعدما انفطر قلبها على ابنتها، فسارعت إلى مجمع الشفاء الطبي حيث نقلها المسعفون، وعندما وصلت كانت قد دخلت غرفة العمليات في محاولة سريعة من الأطباء لإنقاذ حياتها.

"تسببت شظية الصاروخ الإسرائيلي التي اخترقت منطقة الدماغ بكسر في عظام الجمجمة ونزيف حاد في رأسها. استطاع الأطباء وقف النزيف الخارجي ولم يتمكنوا من وقف النزيف داخل الدماغ بسب خطورة حالتها الصحية." أضافت والدة بَتول، وعيناها تنزف دمعًا.


وبعد إجراء أول عملية جراحية لها لم تتحسن حالة بَتول، وبقيت في العناية المكثفة أسابيع طويلة قبل أن يُخضعها الأطباء لعملية جراحية أخرى، استأصل الأطباء خلالها جزءًا من الجمجمة لتخفيف الضغط على الدماغ، وحاولوا إزالة الشظية من رأسها.

لكن بسبب عدم توفر أجهزة طبية حديثة في مجمع الشفاء التي دمره جيش الاحتلال في الحرب، كان من الصعب على الأطباء وقف النزيف داخل دماغ الجريحة بَتول أو حتى إزالة الشظية، وأبقوا الجزء المستأصل من الجمجمة وزرعوه في بطنها إلى حين نقلها للعلاج خارج غزة.

"كانت بتول كالزهرة التي تملأ حياتنا ألوانًا جميلة، لكن هذه الزهرة أغمضتها الحرب. هي لا تتحرك ولا تنطق." تقول الأم بصوت مبحوح ومتقطع: "كانت تحلم بدراسة تخصص العلاج الطبيعي لكن شظايا الصاروخ الإسرائيلي كانت أسرع منَّا جميعًا، وصارت بحاجة إلى من يعالجها ويطبب جراحها."

وبعد قضائها قرابة 5 شهور في مجمع الشفاء، قرر الأطباء نقل الفتاة الجريحة إلى مستشفى الوفاء. هناك ترقد بوجه شاحب على سرير بارد ويذوب جسدها النحيف بصمت شديد، بينما يتصل بأنفها أنبوب طبي رفيع يمتد حتى معدتها، يسقيها الطعام السائل بالتنقيط، فيما تتنفس من أنبوب اسطواني زرعه الأطباء في رقبتها المحاطة بضمادات بيضاء.

تمضي بتول ساعات طويلة في سُباتها العميق، عندما تفيق تفتح عينيها الخضراوين المليئتين بالكثير من الأسى واليأس، ترمش لوالدتها بجفنيها، كلغة تواصل جديدة بعدما أفقدتها الإصابة القدرة على الكلام.

عبر الممر الضيق المؤدي إلى سريرها في مستشفى الوفاء، يأتي شقيقها علاء، الذي يعمل حكيمًا، للاطمئنان على بَتول "الغالية على قلبه" كما يصف. يقف كل يوم أمام سريرها عاجزًا، يلمس يدها الباردة، يراقب وجنتيها الشاحبتين، ويقول بصوتٍ يحمل في طياته الكثير من الألم: "درستُ الطب لأساعد الناس، لكني الآن لا أستطيع مساعدة أختي."

يكتفي علاء الذي يعمل في المستشفى الأهلي العربي "المعمداني"، في وسط مدينة غزة، بالنظر إلى شقيقته وفي عينيه حزن ثقيل يمتزج بخوف لا يفارقه من أن تتوقف حياة بتول رغم حصولها على تحويلة للعلاج في الخارج.

تعيش بتول في غيوبة طويلة، لكن وجهها ما زال يحتفظ بملامحه البريئة. "كان يمكن أن تكون اليوم بين زميلاتها بعدما أنهين دراسة الثانوية العامة، وحصلن على النتائج، تضحك معهن وتخطط لمستقبلها، لكنها اليوم تخوض معركة الحياة وحيدة." تقول الأم التي لا تتوقف عن الهمس في أذن ابنتها بالدعاء وأجمل الأمنيات لها بالشفاء العاجل.

أما شقيقها علاء، يدرك جيدًا أن حالة بَتول الصحية لن تتحسن طالما بقيت مقيدة على أسرَّة العلاج في غزة، وأن إكمال استشفائها لن يكتمل إلا بسفرها للعلاج خارج القطاع الساحلي، وإجراء ما يلزم من عمليات جراحية دقيقة في مستشفيات تملك خبرات عالية وأجهزة طبية متطورة.

وحتى يأتي دورها في طابور الجرحى المقرر نقلهم للعلاج خارج غزة، ستبقى بتول بين حدود الألم والأمل تصارع الموت بصمت، فيما تبقى أمها ساهرة على طرف السرير، تراقب ابنتها وتدعو لها أن يمنحها الله عمرًا جديدًا، وأن يُعيد إليها شيئًا من حركتها وابتسامتها وزهرة شبابها التي أغمضتها (إسرائيل).

 فلسطين أون لاين