أخبار اليوم - في زاوية هادئة داخل مركز الإيواء التابع لمعهد الأمل للأيتام غرب مدينة غزة، يجلس الشاب محمد شلدان (18 عامًا) شارد الذهن، محاولًا استيعاب ما حدث في ذلك اليوم الذي غيّر مسار حياته إلى الأبد.
لم يكن ذلك مجرد يوم آخر من الحرب، بل لحظة فاصلة شهد خلالها "شلدان" مجزرة راح ضحيتها سيدة وأطفالها الأربعة، فيما نجا هو بأعجوبة، لكنه فقد يده اليسرى من أسفل الكتف.
يستعيد "محمد" بصوت متقطع تفاصيل اليوم الذي لن ينساه ما دام حيًّا، ويقول لـ "فلسطين أون لاين": "كان ذلك يوم الأربعاء، الأول من أكتوبر الماضي، بعد أن دعا الجيش الإسرائيلي سكان مدينة غزة إلى النزوح نحو الجنوب بحثًا عن الأمان. قررت السير على الأقدام عبر شارع الرشيد باتجاه وسط القطاع، لكن الطريق لم يكن آمنًا كما وعدوا، فالقصف كان في كل مكان."
وقف النزيف
حين وصل "محمد" إلى مفترق الزهراء، كانت طائرة مروحية تحلّق في الأجواء. "فجأة أطلقت النار بالقرب منا، فبدأنا بالركض. كانت امرأة تحمل طفلها على صدرها، وأطفالها الثلاثة يركضون بجانبها"، يقول شلدان.
ويتابع: "لم تمضِ لحظات حتى سقطت قذيفة قربنا مباشرة، فتناثرت أجسادهم أمامي. لم أستوعب ما حدث إلا حين رأيت الدماء تغطي الأرض ويدي تنزف بشدة."
أصيب "محمد" إصابة بالغة في يده اليسرى، وحاول أن يوقف النزيف بما توفر لديه: "لم أجد شيئًا سوى قطعة حبل، عضضت على أحد طرفيها وربطت الآخر حول ذراعي بقوة حتى توقف النزيف قليلًا، ثم وضعت يدي داخل بنطالي وبدأت أركض نحو الجنوب."
قطع "محمد" مسافة تُقدَّر بنحو ثلاثة كيلومترات وسط منطقة خطرة خالية من المارة، وبعد جهد كبير، أوقف عربة يجرّها حمار وطلب من سائقها مساعدته للوصول إلى مكان آمن. ومن هناك نقلته سيارة إسعاف إلى مستشفى العودة، حيث قرر الأطباء بتر يده لإنقاذ حياته.
ثم نُقل إلى مستشفى شهداء الأقصى في وسط القطاع، ومنه إلى مستشفى ميداني تابع للصليب الأحمر في خانيونس، حيث خضع لعدة عمليات جراحية قبل أن يُسمح له بالخروج بعد استقرار حالته.
طرف صناعي
يعيش "محمد" اليوم مع أسرته التي نزحت أكثر من مرة من حي الزيتون في مدينة غزة، قبل أن تستقر في مركز إيواء معهد الأمل للأيتام. ويقول بصوت يملؤه الأمل رغم الألم: "كل ما أريده الآن هو تركيب طرف صناعي حتى أستطيع مساعدة أسرتي. أشعر بالعجز عندما أراهم يعانون وأنا لا أستطيع العمل أو حمل شيء."
إلى جانب "محمد" تجلس والدته رواية شلدان، امرأة أنهكتها الحرب والنزوح، لكنها تحاول أن تبدو قوية أمام ابنها. تقول والدموع تملأ عينيها لمراسل "فلسطين أون لاين": "كان محمد يحاول الوصول إلى الجنوب لتأمين بعض المال لنا. تأخر عن العودة وبدأ الخوف ينهش قلبي، وبعد محاولات كثيرة اتصل به زوج أخته وأخبرني أنه أُصيب وبُترت يده، وأن امرأة وأطفالها الذين كانوا معه استُشهدوا أمام عينيه."
وتصف الأم الساعات التي قضتها بحثًا عن ابنها بأنها "أطول ساعات في حياتي"، مضيفة: "ركضنا باتجاه شارع البحر نبحث عنه، وكل دقيقة كانت تمر علينا كأنها دهر. وحين علمنا أنه نُقل إلى المستشفى، هرعنا إليه. عندما رأيته بعد العملية لم أتمالك نفسي، كان يبتسم رغم الألم."
وتشير الأم إلى أن ابنها ما زال يعاني من آلام حادة في مكان البتر، ويقضي معظم وقته صامتًا ومنعزلًا: "يصرخ أحيانًا في الليل من شدة الألم، ويشعر بأنه أصبح عبئًا علينا، لكنه لا يدرك أنه مصدر فخر لنا جميعًا، لأنه نجا من الموت ويحمل شهادة على ما حدث."
وتتمنى رواية أن يُسمح لابنها بالسفر لتلقي العلاج المناسب في الخارج وتركيب طرف صناعي يساعده على استعادة بعض قدراته الجسدية، قائلة: "هو ما زال شابًا في بداية حياته، يحتاج إلى الأمل كما يحتاج إلى العلاج."
أظهرت صور ومقاطع مصورة اللحظات الصعبة التي عاشها "محمد"، وهو يربط ذراعه المصابة بحبل مستخدمًا أسنانه، قبل أن يجلس على عربة صغيرة تُقله إلى برّ الأمان. وقد تحوّلت قصته إلى رمزٍ لمعاناة آلاف الجرحى الذين تركت الحرب في أجسادهم وذاكرتهم ندوبًا لا تُمحى.
وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، خلّفت الحرب في قطاع غزة عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، معظمهم من النساء والأطفال، إضافة إلى دمار واسع في البنية التحتية، وقدّرت تكلفة إعادة الإعمار بمليارات الدولارات.
وفي خضم هذه المأساة، تبقى قصة محمد شلدان واحدة من آلاف القصص الإنسانية التي تجسّد ثمن الحرب الباهظ، وتختصر معاناة جيلٍ كامل يبحث عن حياةٍ طبيعية وسط الركام.