التقاعد بعد 30 عامًا خدمة .. حماية للكفاءات أم إغلاق لأبواب الشباب؟

mainThumb
التقاعد بعد 30 عامًا خدمة.. حماية للكفاءات أم إغلاق لأبواب الشباب؟

06-12-2025 05:21 PM

printIcon


أخبار اليوم - عواد الفالح - تفتح التصريحات الحكومية الأخيرة حول عدم الاستغناء عن الموظفين أصحاب الخبرة الذين تجاوزت خدمتهم ثلاثين عامًا نقاشًا واسعًا حول مفهوم العدالة الوظيفية في الأردن، وبينما تتحدث الحكومة عن "الحفاظ على الكفاءات"، يرد مواطنون بسؤال مباشر: هل تقف الدولة على أشخاص بعينهم، أم أن واجبها أن تفتح المجال لجيل جديد ينتظر دوره منذ سنوات؟

في جانب أول، يرى مؤيدو التوجه الرسمي أن خسارة الموظف الذي راكم خبرة طويلة في موقعه تعني خسارة استثمار مالي ومعرفي امتد لعقود، وأن الإحالة التلقائية على التقاعد بعد 30 عامًا أدت في السابق إلى خروج وجوه قادرة على العطاء، في وقت تحتاج فيه الإدارة العامة إلى من يعرف تفاصيل الملفات والأنظمة والإجراءات. هذا الفريق يربط بين الخبرة والاستقرار المؤسسي، ويعتبر أن التسرع في "إخراج" أصحاب الخبرة لم يكن دائمًا في مصلحة العمل.

لكن في الجهة المقابلة، تبدو صورة مختلفة تمامًا. فعدد كبير من المواطنين يرى في استمرار بقاء الموظف نفسه لعشرات السنين في الموقع ذاته تكريسًا لانسداد الأفق أمام الشباب، وتكريسًا لواقع "الوظيفة المغلقة" التي لا يدخلها دم جديد. أصوات شبابية تسأل ببساطة: من أنهى خدمته ثلاثين عامًا أخذ فرصته كاملة في العمل والراتب والترقية، فكيف يبقى في مكانه بينما آلاف الخريجين بلا عمل، ينتظرون وظيفة واحدة لسنوات؟

يتوسع الاعتراض ليشمل البعد الاقتصادي، فهناك من يربط بين ارتفاع نسب البطالة وبين استمرار شغل المواقع الإدارية والقيادية من الفئة نفسها لعقود، معتبرين أن أي مقاربة حقيقية لحل البطالة تتطلب إعادة تدوير المواقع ومنح الفرصة لطاقات جديدة، وليس فقط تعديل نصوص قانونية تبقي الواقع كما هو. في هذا السياق، يتساءل مواطنون عن جدوى الحديث عن "كفاءات نادرة" في مؤسسات لم تنجح حتى الآن في معالجة مشكلات أساسية كالفقر والبطالة وتباطؤ التنمية في المحافظات.

في قلب هذا النقاش، تبرز قضية العدالة بين العاملين أنفسهم. فهناك من يذكّر بأن موظفين كثيرين تمت إحالتهم على التقاعد المبكر في السابق، أحيانًا قبل أن يكملوا 26 عامًا من الخدمة، وبرواتب تقاعدية متدنية حرمتهم من راتب الشيخوخة الكامل، فيما استمر آخرون – غالبًا من أصحاب الحظوة والواسطة – في مواقعهم حتى تجاوزوا الثلاثين عامًا خدمة. السؤال الذي يطرحه هؤلاء اليوم: إذا كانت الدولة تعترف بأن القانون السابق ظلم كفاءات، فكيف ستنصف من أُحيلوا إلى التقاعد وخسروا جزءًا من حقوقهم، بينما يجري الآن تعديل القواعد لصالح من بقي في الخدمة؟

ويتوسع النقد ليطال طريقة اتخاذ القرار نفسها؛ إذ يرى مواطنون أن أي تغيير في قواعد التقاعد يجب أن يُبنى على رؤية شاملة لسوق العمل، وليس على مقاربة تخدم فئة بعينها. بعض الأصوات ترى أن القرار يصب في مصلحة الحكومة ماليًا، حين تُبقي رواتب موظفين حاليين وتؤجل استحقاقات تقاعدية أعلى، أو يكرّس استمرار أسماء بعينها في مواقعها بحجة "عدم التفريط بالكفاءات"، فيما يظل ملف العدالة بين الأجيال مفتوحًا بلا إجابة واضحة.

من ناحية أخرى، يلفت جزء من النقاش إلى التناقض بين الحديث عن "الكفاءات" وبين الواقع العلمي والمهني في البلاد. فهناك من يشير إلى عشرات آلاف حملة الشهادات العليا، بينهم أعداد كبيرة من حملة الدكتوراه، لا يجدون طريقهم إلى سوق العمل، بينما تواصل الدولة استقدام عمالة أجنبية في مهن بسيطة، وتبقي أبواب الوظائف العامة العليا شبه مغلقة أمام دماء جديدة. هذا التناقض، بنظرهم، يجعل خطاب "الحفاظ على الكفاءات" فاقدًا لصدقيته إذا لم يترافق مع فتح أبواب حقيقية أمام الطاقات الجديدة.

في المقابل، لا ينكر كثيرون أن الإدارة العامة تعاني أيضًا من مشكلة أخرى: خروج بعض الكفاءات الحقيقية بشكل مبكر، أحيانًا بسبب صراعات داخلية أو تغييرات إدارية، ما أدى إلى خسارة خبرات مهمة في التعليم والصحة والبلديات وغيرها. هذا الواقع يفرض سؤالًا مختلفًا: كيف يمكن الحفاظ على الخبرة من دون أن يتحول الموظف إلى "موقع دائم"، ومن دون أن يشعر الشباب أن الباب مغلق أمامهم حتى إشعار آخر؟

يتصل النقاش كذلك بمفهوم الأمان الوظيفي وثقة العاملين بالقانون. موظفون سابقون في مؤسسات عامة يشيرون إلى أن طريقة إحالتهم على التقاعد تركت لديهم شعورًا عميقًا بالظلم، وأن المشهد يصبح أكثر قسوة حين يسمعون اليوم عن تعديل قواعد التقاعد لصالح من بقي بعدهم، بينما لم يحصلوا هم على تعويض أو مراجعة لإنصافهم. هؤلاء لا يعترضون على مبدأ الحفاظ على الخبرة، بقدر ما يطالبون بقواعد واضحة تطبق على الجميع بلا استثناء، وبآلية تعويض عادلة لمن تضرر من القواعد السابقة.

في العمق، لا يتعلّق الأمر بعمر التقاعد وحده، بل بطريقة إدارة دورة الحياة الوظيفية كاملة: التعيين، التدريب، التدرج، الإحلال الوظيفي، والتقاعد. فإذا بقي التعيين محكومًا بالواسطة والمحسوبية، واستمر التدرج مبنيًا على القرب من أصحاب القرار لا على الكفاءة، وشهد التقاعد انتقائية في التطبيق، فإن أي تعديل قانوني لن يكون سوى حلقة جديدة في سلسلة من الإحباط وانعدام الثقة.

ما بين الدعوة إلى "إخراج من أنهى خدمته وفتح المجال للشباب" وبين التحذير من خسارة الكفاءات التي راكمت تجربة طويلة، تبقى الكرة في ملعب صانع القرار ليجيب عن أسئلة جوهرية: هل التعديل المطروح جزء من رؤية شاملة تعيد بناء العلاقة بين الدولة وموظفيها والأجيال الجديدة، أم مجرد استجابة ظرفية تبقي أسباب الخلل كما هي؟ وكيف يمكن تحقيق معادلة تضمن ألا تتوقف الدولة على شخص، وألا يُترك الشباب خارج اللعبة، وألا يشعر من خدم عشرات السنين أنه مجرّد رقم يُستخدم أو يُستغنى عنه حسب الحاجة؟