الموازنة المزدوجة: بعيدا عن عنق الزجاجة وقراءة الفنجان

mainThumb
حازم رحاحلة

22-11-2023 10:01 AM

printIcon

حازم رحاحلة
لا يمكن أن تمر المعطيات والتحديات المرتبطة بالعدوان الوحشي والغاشم على أهلنا في غزة خاصة وفلسطين عامة مرور الكرام. ودون الخوض في ديناميكية هذه التحديات ومسارات تأثيرها على الأردن مستقبلا، فإنها بدون شك تدعونا وعلى نحو عاجل لتغيير إستراتيجياتنا وطريقة تعاطينا مع مختلف الأمور وخاصة ما يتعلق منها بالشقين الاقتصادي والمالي باعتبارهما الأكثر عرضة للتقلبات الخارجية. علينا أن نعترف بداية بأن النهج الاقتصادي الذي نتبعه ليس بالمسار المنشود القادر على إخراجنا من عنق الزجاجة، الذي أعتقد بأنه التعبير الأكثر مجازا لواقعنا الاقتصادي، فنحن بحاجة اليوم لشحذ الهمم والتفكير حقا خارج الصندوق للخروج بتوليفة من سياسات وبرامج للحلول السريعة القابلة للتطبيق على أرض الواقع، وعدم الركون وانتظار الاستثمارات الخارجية التي بنينا عليها كل آمالنا وتطلعاتنا، واستخدمنا عدم تدفقها إلينا كما تمنينا، شماعة نعلق عليها ضعف مخرجات خططنا وإستراتيجياتنا.


دعونا نلتفت وبعجالة إلى برنامج التصحيح الاقتصادي الجديد الذي أعلنت الحكومة مؤخرا عن الاتفاق عليه مع صندوق النقد الدولي، وهو استكمال متتال لثلاثة برامج سابقة تم تنفيذها مع الصندوق. فهل التعاون مع الصندوق يطلق العنان للإمكانات أم يقيدها؟ الإجابة السريعة على هذا السؤال تكمن بما تم تحقيقه من مؤشرات حقيقية وفي طليعتها النمو الاقتصادي الذي كان تعزيزه عنوانا رئيسا لكافة البرامج، وقد فشل تماما في تحقيقه. فمعدلات النمو المتحققة إبان البرامج السابقة هي الأقل على مدار العقدين السابقين، وتبعا لذلك معدل البطالة آخذ بالارتفاع حتى وصل إلى مستويات قياسية.

بكل تأكيد هذه المعطيات لا تشكل دعوة ضمنية لإيقاف التعاون مع الصندوق، وإنما تأشير على خلل كامن في نهجه. الإشكالية الأساسية ربما تكمن في آلية التعاطي والمواءمة بين الاستقرار المالي والنقدي من جهة، وبين التطلعات الاقتصادية الحقيقية من جهة أخرى. فهل هناك إمكانية لتحقيق الانسجام بين هذين الهدفين، بمعنى هل يمكن المحافظة على الاستقرار المالي والنقدي وفي الوقت نفسه الارتقاء بالنمو الاقتصادي وتحقيق النهضة الاقتصادية الشاملة؟ الإجابة السريعة نعم. وهل هذا متحقق حاليا؟ الإجابة السريعة، لا. والتساؤل البديهي الذي قد يطرحه المسؤولون، هل لديك حلول أخرى؟ الجواب نعم الحلول عديدة، لكن تحتاج الى فهم عميق للتشابكات الاقتصادية وعدم التشبث بالنمطية.
دعونا نفكر معا بالآلية التي يمكن من خلالها إطلاق العنان لمشاريع وأنشطة واعدة من خلال الحكومة نفسها. فالآفاق الاستثمارية غير واعدة ويكتنفها قدر عال من عدم اليقين بفعل الظروف الجيوسياسية المعقدة وانحسار التنافسية الاستثمارية للمملكة، وفي ضوء زخامة الدعم الذي يتلقاه المستثمرون في دول المنطقة التي أصبحت تتزاحم في جذبها للمستثمرين، وارتفاع كلف الطاقة والضغوطات الضريبية الآخذة بخنق اقتصادنا، والتي ترجمها صندوق النقد الدولي في توقعاته الأخيرة للنمو الاقتصاد الأردني في العام بنحو 2.6 % وبحدود 3 % في السنوات الثلاث اللاحقة (هذا قبل الأخذ بعين الاعتبار التبعات الاقتصادية للعدوان الغاشم على غزة)، وهي معدلات كفيلة برفع معدلات البطالة لتتجاوز 25 %. وبالمناسبة، هناك مخاض عالمي كبير حول مسؤولية برامج الصندوق ونهجه عن دوامة الركود الاقتصادي الذي يعاني منه جانب من البلدان التي انخرطت ببرامج تصحيح اقتصادي معه وأفضت إلى معدلات بطالة غير مسبوقة فيها.
اليوم أمامنا فرصة لتغيير نهج الموازنة العامة بإدخال مفهوم الموازنة المزدوجة، الأولى تتمثل بالموازنة العامة بنمطها الحالي، والثانية موازنة رأسمالية تمول بالاقتراض ولها أوجه الإنفاق الخاصة بها وكذلك ومداخيلها. وليس المقصود بالرأسمالية هنا ما دأبت وزارة المالية على اعتباره نفقات رأسمالية بالرغم من أن العديد من بنودها جارية، ولا الإنفاق الرأسمالي الذي ينفذ لغايات تقليدية كالإنفاق على البنى التحتية العامة والمشاريع النمطية ذات النفع العام، وإنما بالمشاريع التي تدر عوائد مباشرة قادرة على تسديد التزاماتها وتحقيق عوائد مالية واقتصادية واجتماعية، كمشروع الناقل الوطني والطاقة والنقل العام بمختلف أنماطه وأيضا الاستثمار في أنشطة حيوية كالصناعات التعدينية الواعدة والزراعية وغيرها. ربما النقد النمطي للنهج المقترح بأنه سيزيد من حجم الدين العام وما يترتب على ذلك من تأثيرات سلبية على التصنيف الائتماني للأردن واستقراره المالي والنقدي. هذا بطبيعة الحال ليس صحيحا بدلالة أن التصنيف الائتماني مرتفع لدول مديونيتها تتجاوز بكثير حجم ناتجها المحلي. الاعتبار الأهم هنا، هو القدرة على تحقيق توازنات مالية دورية قادرة على ضبط مستويات الدين العام مستقبلا والحفاظ على حقوق الدائنين، والنهج المقترح لا يتعارض مع ذلك، بل يعززه.
اليوم علينا الإدراك بأن الوقت يداهمنا والتحديات تحاصرنا، فلا قراءة القادم الأفضل بالفنجان هي التي ستسعفنا، ولا سرد الأرقام وقصص النجاح التي يسوقها كتاب التدخل السريع هي التي ستحدث الفرق. ما نحتاجه اليوم، نهضة فكرية عميقة ترتقي إلى مستوى الفرص كما هي التحديات.