"على العهد" .. حين يروي الوطن حكايته في وجه قائده

mainThumb
د. زهور غرايبة

16-07-2025 08:22 PM

printIcon

 

 

د. زهور غرايبة

بهيبة القائد وإنسانية الحضور، يوثّق كتاب "على العهد"، الصادر عن إدارة الإعلام والاتصال في الديوان الملكي الهاشمي، بعدسة المصوّر الخاص لجلالة الملك، يوسف علّان، مسيرة جلالة الملك عبدالله الثاني خلال خمسةٍ وعشرين عامًا من القيادة والعطاء، حيث أنه ليس مجرد إصدار توثيقي، إنما شهادة بصرية ووجدانية على زعامة اختارت القرب من الناس، ورسّخت قيم المسؤولية والوفاء والانتماء في وجدان الأردنيين، جيلاً بعد جيل.

حين بدأت بمشاهدة صفحات كتاب "على العهد"، شعرت أنني لا أفتح وثيقة سياسية تقليدية، وإنما أستعرض شريط حياة، حيث لم تكن الصور مجرد أرشيف معلّق على الجدران، ولم تكن الكلمات تزيينًا لصفحات مصقولة، بل كانت نبضًا حقيقيًا... حياة تُروى بعين من عاشها، لا من كتب عنها.

وفي كل صفحة من هذا العمل التوثيقي، بدا أن جلالة الملك عبدالله الثاني لم يُقدّم نفسه حاكمًا فقط، وإنما إنسانًا، أبًا، أخًا، جنديًا، ومواطنًا من هذا الوطن.

صورة الملك وهو يُرافق ابنته في تخرّجها، بابتسامة ناعمة لا تشبه البروتوكولات، تختصر الكثير من القيم التي نشأنا عليها: البساطة، الدعم، والمشاركة في الفرح، وفي صورة أخرى، يجلس إلى جانب أبنائه في لقطة منزلية دافئة، يظهر وكأنه يخاطب الأردنيين دون أن يتكلّم: العائلة هي أول مسؤولية، وهي نواة أي وطن سليم، لا شيء في تلك الصور يوحي بالافتعال، وإنما حضور طبيعي مخلص، ربما أكثر قربًا مما نتصوّر.

وكان من اللافت أيضًا الحضور الأصيل والدافئ لجلالة الملكة رانيا العبدالله في صفحات الكتاب، والتي لم تكن مجرّد مرافقة في الصور العائلية، وإنما ظهرت كشريكة حياة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وفي كل لقطة جمعتها بجلالة الملك، كانت هناك لغة صامتة من التفاهم والتآزر، في إحدى الصور، تضع يدها على كتفه في لحظة عفوية تفيض بدفء الشراكة، وكأنها تروي ما لا تقوله الكلمات، أما في مشاهد أخرى، في حفلات تخرّج الأبناء، أو اللقاءات العامة، أو الجولات العائلية، فقد بدا دورها امتدادًا طبيعيًا لدورها الوطني في دعم التعليم، وتمكين المرأة، والارتقاء بالخطاب الأردني عالميًا، الملكة كانت حاضرة لا فقط كأم وزوجة، إنما مكوّن بصري وفكري من سردية الحكم، فهي الوجه النسائي العصري في العائلة الهاشمية، تمثّل الحداثة المتوازنة مع الجذور، والحكمة التي ترافق القلب في اتخاذ القرار، وفي بعض الصور، لا تظهر إلى جانب الملك فحسب، بل بجانبه تمامًا؛ تشاركه الموقف والابتسامة والرسالة، هذا التوازن البصري لم يكن عشوائيًا، لكنه يعكس فلسفة الحكم القائمة على الشراكة، وعلى العائلة التي تشكّل نواة وطنية تعكس ما يجب أن يكون عليه المجتمع.

تنتقل عدسة الكاميرا بسلاسة إلى مشاهد أوسع، حيث يصبح الشعب كلّه عائلة الملك، في صور لا تُنسى، يظهر جلالته وهو يسير في الأسواق الشعبية، يربّت على أكتاف الناس، يصافح بحرارة، يُصغي لشكوى امرأة، ويُربّت على رأس طفل، كانت يداه دائمًا مشغولتين؛ إما تمسك بيد أحد، أو تلوّح، أو تُشير نحو شيء بسيط له معانٍ عميقة، في صورة التُقطت في أحد البيوت الأردنية المتواضعة، جلس بين الناس دون حواجز، لا بصفة الزائر الرسمي، بل كأحدهم.

في مشهد آخر، يتجلّى حضور جلالته العسكري بكل وضوح، في الزي العسكري الذي لم يكن زينة بروتوكولية، حيث بدا أنه رمزًا لهوية وطنية متجذّرة، ففي كل صورة له مع الجنود، يبرز شيء يتجاوز القيادة؛ هنالك مشاركة حقيقية في التعب، في الميدان، وفي تفاصيل الحياة اليومية يظهر في الصور وهو يأكل معهم، يتدرّب بينهم، يُصغي إليهم، ويتحدث بروح الزميل، وتظل صورة الجنود وهم يمدّون أيديهم نحوه بحرارة عفوية واحدة من أكثر المشاهد تعبيرًا عن علاقة الثقة والمحبة والاحترام المتبادل.

اللافت أن الكتاب لا يتجاهل اللحظات غير الرسمية، وإنما يمنحها مساحة واسعة لتكون جزءًا من الرواية... الملك وهو يشوي الطعام، يبتسم من قلبه، يقود مركبة في الصحراء، يحتضن طفلًا، أو يتبرع بالدم... كلها لحظات إنسانية تعكس وجهًا نادرًا من القيادة: القرب، التواضع، والبساطة. في هذه الصور، تتحول الزعامة من موقع سلطوي إلى تجربة حياتية مشتركة مع الناس، تجربة قائمة على التواصل المباشر والعفوية الحقيقية.

أما على المستوى الدولي، فتقدم الصور لحظات مميزة من الحضور الأردني في المشهد العالمي، يظهر جلالته في واحدة من الصور وهو يتسلّم جائزة دولية بحضور المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، في مشهد يحمل دلالات واضحة على التقدير العالمي لشخصه ولسياسات الأردن، حيث يقول التعليق:
"الجوائز لا تُمنح إلا لمن يستحقها، وكنا نشعر بالفخر، لأن التقدير كان لنا جميعًا.

وفي صور أخرى، يوثق الكتاب خطابات جلالته في الكونغرس الأميركي، وفي البرلمان الأوروبي، وفي محافل دولية أخرى إن الكلمات التي ألقاها حملت في طيّاتها دفاعًا عن الإسلام الحقيقي، عن التسامح، عن السلام، وعن القيم التي يؤمن بها الأردنيون، ولم يكن الحديث عن السياسة فقط، وإنما عن الإنسان، عن الأمل، وعن الأطفال الذين يستحقون مستقبلًا أفضل، الرسالة التي أراد إيصالها، مثلما توضح النصوص المصاحبة، لم تكن خطابًا رسميًا فحسب، بل موقفًا أخلاقيًا يمثل دولة تسعى لأن تكون ضميرًا حيًا في عالم مضطرب.

وفي صورة أخرى نرى الملك يصافح رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بطريقة ودية عبر ضربة المرفق، زمن جائحة كورونا. المشهد يختصر الكثير: الاحترام، الواقعية، والتواصل المرن في عالم يتغيّر، ولا شيء قسري في هذه اللقطة، وإنما دفء دبلوماسي صادق.

وفي سلسلة من الصور التي التُقطت في مناسبات عربية، نلاحظ كيف يتنقل جلالته بثقة وهدوء بين القادة العرب، لقاءاته مع قادة دول الخليج، المغرب، ومصر وغيرها من الدول توحي بعلاقات متينة، راسخة، تحكمها الثقة والاحترام، الأردن، من خلال حضوره المتوازن، يبدو حاضرًا في قلب العالم العربي، ليس بحجمه الجغرافي، وإنما بموقفه ومكانته.

حين انتهيت من مشاهدة صور هذا الكتاب – الذي هو في الحقيقة رحلة بصرية وفكرية – شعرت أن "على العهد" عمل إنساني يروي قصة وطن من خلال رجل واحد، وقائد لم يختفِ خلف الأبوب، بل اختار أن يكون بين الناس، ولم يرفع صوته ليُسمع، بل جعل من صمته في المواقف الصعبة رسالة، ومن حضوره في التفاصيل اليومية فعلًا سياسيًا.

وهنا تكمن خصوصية هذه التجربة الأردنية، فكل صورة في الكتاب لا توثق لحظة مضت، بقدر ما تبني معنى مستمرًا للعلاقة بين القائد وشعبه.

وهي علاقة تبدأ بالثقة، وتنمو بالصدق، وتترسخ بالفعل اليومي، وربما أجمل ما يمكن أن نختم به هذا الحديث، أن الحكاية التي رواها "على العهد" لم تنتهِ، هي حكاية ما تزال تُكتب، بتوقيع ملكٍ، وبحبر الوطن.