أخبار اليوم - في خيمة بلا أبواب ولا نوافذ، وسط حرّ الصيف ولسعات البعوض، يجلس خالد أبو ناموس (36 عامًا) يتأمل الفراغ، كأنه يبحث عن كرامته التي ضاعت منذ اندلاع الحرب.
منذ إصابته في عموده الفقري برصاصة إسرائيلية عام 2006، بات خالد مشلولًا من نصفه السفلي، لكنه رغم كل شيء عاش الحياة بكرامة، حتى جاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر 2023، فبدّل كل شيء.
ورغم الألم المزمن والإعاقة الدائمة التي رافقته لما يقارب العقدين، لم يشعر خالد يومًا بالعجز، إلى أن بدأت الحرب الأخيرة التي سلبته كل ما تبقى من خصوصية وإنسانية.
يقول بصوت خافت يشوبه الانكسار، وهو يتأمل خيمته المهترئة في دير البلح بعد أن نزح من منزله ثلاث عشرة مرة متنقّلًا من حيّ إلى آخر: "قبل الحرب، كنت أعيش حياة طبيعية قدر الإمكان، الإعاقة كانت موجودة لكنها ما كانتش عائق. كنت حافظ كرامتي، عندي حمّام مناسب، ومياه نظيفة، وبيت آمن، وبقدر أتحرك بحرية".
كرامة منتهكة
في الحرب، لم يكن هناك مكان آمن ولا رعاية خاصة، اضطر خالد للتنقّل مع زوجته وابنته الصغيرة فوق عربة خشبية يجرّها حمار، لأول مرة منذ إصابته، فقط ليبتعد عن القصف.
"ما كنتش متخيل إني أنزل من بيتي وأنا على عربية خشب مربوطة بحمار"، قالها بصوت مرتجف من القهر لـ "فلسطين أون لاين".
مع كل قصف، كان يهرب من منطقة إلى أخرى، من بيت إلى خيمة، ومن شارع إلى ساحة مدرسة مهجورة، ومع كل رحلة نزوح، كانت الإهانة تتكرر، والجسد يتألم، والكرامة تُداس.
في خيام النزوح، غابت كل معايير الكرامة الإنسانية، ولم تتوفر أدنى مقومات الحياة، فكيف بمن يحتاج إلى رعاية مستمرة مثل خالد؟ لا حمامات مجهزة، ولا مياه كافية، ولا حتى ستارة تضمن أدنى خصوصية.
كان ينتظر الليل لينظف نفسه باستخدام عبوة مياه معدنية فارغة، يجلس خلف خيمته محاولًا الحفاظ على ما تبقى من إنسانيته.
أدوات مفقودة
ما زاد من معاناته حاجته لمن يساعده في تغيير ملابسه وتنظيف مكان الجلوس، وهي مهام كانت تؤديها زوجته بصعوبة بالغة في ظل غياب الأدوات اللازمة.
"ما في عندنا أدوات تنظيف، لا صابون، لا فوط طبية، لا معقّمات. بس بنستخدم اللي بنلاقيه… مرات بنغلي المي على الحطب وبنستنى تبرد"، يروي بحسرة.
إلى جانبه، تجلس ابنته ذات الست سنوات، تحمل زجاجة ماء وتعطيها له. لم تستوعب بعد لماذا لا يستطيع والدها الوقوف أو الذهاب معها إلى الحمّام، لكنها باتت تشارك والدتها في تنظيفه وتحريك كرسيه المتحرك.
"هي صغيرة، ما لازم تشوف أبوها بهالحالة... مرات بتقولي: بابا ليه ما بتوقف؟ ليه بتنام عالأرض؟ وأنا ما عندي جواب"، قال خالد وهو يحبس دموعه.
وجع الجسد والتجاهل
يعاني خالد من التهابات مزمنة، وآلام في الظهر، وتقرّحات جلدية تتطلب علاجًا طبيًا عاجلًا، لكن الحرب أغلقت الطرق والمستشفيات، وأصبح الدواء حلمًا بعيد المنال.
"آخر مرة أخذت فيها دواء كانت قبل 5 شهور. حتى مسكنات الألم مش موجودة. لما الوجع بيزيد، بصرخ، ومرات بسكت حتى ما أقلق أهلي، بس الوجع بياكلني من جوّه".
وما زاد ألمه، أن لا مؤسسة إغاثية تمكّنت من تقديم المساعدة له، ويقول: "المعابر مغلقة، وكل المؤسسات بتقول إنها ما بتقدر تدخل مساعدات. وأنا بين نار العجز ونار التجاهل".
يشعر خالد اليوم بأنه خارج حسابات الجميع؛ لا المجتمع المحلي ولا المنظمات الدولية التي تكرّر شعارات حقوق الإنسان وحماية ذوي الإعاقة دون أن تترجمها على الأرض.
"مش طالب شفقة، بس طالب أبسط حقوقي... بدي أعيش بكرامة. أرجع لمكان فيه حمّام مناسب، مياه نظيفة، وخصوصية. ما بدي أكتر من هيك"، يقولها خالد بصوت خافت لكنه مشحون بالقهر.
قصة خالد أبو ناموس لا تختلف كثيرًا عن عشرات الآلاف من ذوي الإعاقة في قطاع غزة، الذين سقطوا من حسابات العالم، رغم أن عددهم يتجاوز 160 ألف حالة.
قصته تطرح سؤالًا قاسيًا على ضمير الإنسانية: ما قيمة الاتفاقيات الدولية إن لم تُطبق في أكثر الأماكن احتياجًا لها؟
فلسطين أون لاين