أخبار اليوم - "جعانة ومريضة ومبتورة ومرمية.."، تختلط هذه الكلمات بدموع المسنة انتصار معروف في خيمة نزوحها القسري الملتهبة في وقت الظهيرة، دون أن يسد جوعها طعام، أو يروي عطشها ماء، أو يداوي وجعها دواء.
تواري انتصار وجهها بين ركبتيها لئلا يظهر ضعفها وجوعها وألمها، وتكتم صوتها لئلا يسمع أحد أنينها، في وقت تتفشى المجاعة على الأرض، مع منع الاحتلال إدخال المساعدات الإنسانية لغزة باستثناء كميات شحيحة، يرعى ويسلح عصابات من اللصوص لسرقتها، وفق تأكيدات فلسطينية وأممية.
تعاني انتصار، التي تعيش محطات النزوح مع ابنها وزوجته وأطفاله بعد وفاة شريك حياتها، من مرضي الكلى والسكري، وقد أدى ذلك مع المجاعة وشح الدواء إلى بتر جزء من أطرافها، وقد استقبلت يوما جديدا من المعاناة بـ"أمنية" الحصول على "شيء تأكله".
تحمل تجاعيد وجهها قهرا يتجاوز معاني الكلمات، لكنها تحاول التعبير بصراحة جلية عن مأساتها لصحيفة "فلسطين": "كلنا جعانين وميتين من الجوع"، مشيرة إلى أنها لا تستطيع المخاطرة بحياتها عبر المزاحمة على بضع شاحنات مساعدات تسرق قبل أن تصل إلى المجوعين.
ومنذ الثاني من مارس/آذار، أطبق جيش الاحتلال حصاره على قطاع غزة، مانعا دخول المساعدات الإنسانية بما في ذلك الغذاء، قبل أن يسمح أخيرا، تحت ضغط دولي، بدخول بضع شاحنات تقول المنظمات الدولية إنها تمثل قطرة في محيط الاحتياج الإنساني.
ويرعى جيش الاحتلال عصابات منظمة لنهب المساعدات في غزة، اعترف رسميا بتمويلها وتسليحها وتوفير الحماية لها أثناء تنفيذ عملياتها.
ويعرقل الاحتلال تأمين ما يسمح بدخوله من مساعدات شحيحة في غزة عبر استهداف رجال الشرطة في غزة، التي أكدت في بيانات عدة عزمها على مواصلة أداء مهامها في خدمة المواطنين، رغم الاستهدافات الإسرائيلية الممنهجة. ويسعى الاحتلال أيضا إلى إفشال محاولات العشائر تأمين المساعدات، ضمن سياسة متعمدة لإحداث حالة من الفوضى، وفق مراقبين.
وأخيرا، تفاخر الاحتلال بإلقائه ما زعم أنها مساعدات جوا على قطاع غزة، في خطوة يؤكد مراقبون أن ترمي لـ"تجميل صورته"، في إطار "هندسة التجويع"، دون أن تحدث أي فارق في واقع المجاعة.
بأسى، تقول المسنة: أولادنا لا يذهبون إلى مناطق دخول المساعدات الشحيحة، يخافون من القتل على يد الاحتلال، أو إصابتهم بالأذى من اللصوص، نحن ننتظر أن يرزقنا الله.
وتطالب بفتح المعابر وإدخال ما يكفي من المساعدات الإنسانية وتولي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين أونروا المسؤولية عن توزيعها على المجوعين في غزة.
لكن الاحتلال يشن هجمة ممنهجة على أونروا ومؤسساتها ومرر قرارا بـ"حظرها" في برلمانه "الكنيست"، في خطوة يؤكد مراقبون أن هدفها شطب حق العودة.
زوجة ابنها ياسمين معروف تجلس إلى جانبها في خيمة النزوح القسري، ومعها أحد أطفالها وهو مصاب بسوء التغذية، تقول لصحيفة "فلسطين" بقهر: "قاعدين في الشارع هنا.. نسوان جعانات".
تصف حالة أولادها الذين يبلغ أكبرهم 10 أعوام: "عيانين من قلة الأكل، مرخيين (مصابين بالهزال)، لا في أكل ولا مية ولا دوا ولا حاجة متوفرة عنا".
وسجّلت مستشفيات غزة خلال 24 ساعة ثماني حالات وفاة جديدة بينهم طفل نتيجة المجاعة وسوء التغذية. وبذلك، يرتفع العدد الإجمالي لضحايا المجاعة وسوء التغذية إلى 188 شهيدًا، من بينهم 94 طفلًا، وفق وزارة الصحة.
الاحتلال صنع المجاعة
ولا تزال سياسة التجويع التي يمارسها الاحتلال حتى الآن -كما تؤكد ياسمين- سيدة الموقف، لأن المساعدات لا تصل إلى المواطنين بسبب رفضه تولي أونروا المسؤولية.
تنظر بحسرة إلى طفلها، قائلة: "ابنك بيطلب منك خبزة.. شو قيمتها الخبزة؟ ليش ما وكالة أونروا تمسك المساعدات وترجع للبرنامج القديم وتسلم كل المواطنين؟".
وتضيف: لو لم يمنع الاحتلال المساعدات من الدخول ولم يجوعنا منذ بداية حرب الإبادة واستمرت أونروا والجهات الأممية في دورها لما وصلنا إلى هذا الوضع.
وتطالب بتولي أونروا المسؤولية عن توزيع المساعدات لكل المجوعين، "لأن ما يدخل من مساعدات شحيحة يسرقها اللصوص وتباع بأسعار باهظة لا نستطيع دفعها".
وقبل أيام، وجدت ياسمين نفسها مجبرة تحت سيف التجويع على التوجه إلى إحدى مناطق توزيع المساعدات المشبوهة التي تشرف عليها سلطات الاحتلال بالتعاون مع شركة أمريكية، أملا في الحصول على ما يسد رمق العيش، لكنها أدركت أنها في "مصيدة للموت" ليس إلا.
تقول: الاحتلال يدعي أنه يريد توزيع مساعدات عبر ما تسمى "مؤسسة غزة الإنسانية"، فلماذا يقتل الناس ويطلق عليهم النار هناك؟
وتروي ياسمين أنها شاهدت في اليوم الذي ادعت المؤسسة المذكورة تخصيصه للنساء، شهيدات مجوعات بينهن طفلات ارتقين برصاص الاحتلال.
وبعيدا عن إشراف الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية الدولية، بدأت سلطات الاحتلال منذ 7 مايو/أيار تنفيذ خطة توزيع مساعدات عبر ما تُعرف بـ"مؤسسة غزة الإنسانية"، وهي مدعومة إسرائيليا وأميركيا ومرفوضة من الأمم المتحدة. وأسفرت عمليات الاستهداف المرتبطة بما يعرف بـ"مصائد المساعدات الأميركية الإسرائيلية" عن استشهاد وإصابة مئات من المجوعين منذ بدء هذه الخطة.
وتؤكد ياسمين فشلها في الحصول على أي مساعدات من المؤسسة الإسرائيلية-الأمريكية، مضيفة: ابني ذو الـ10 أعوام يطلب مني تحت وطأة التجويع السماح له بالذهاب إلى مراكزها، لكنني أرفض لأنها رحلة خاسرة، وقد تودي به إلى الموت، في سبيل حفنة من الطحين، حتى إن حصل عليها لا تكفي سوى ليوم واحد.
ولا تطلب الأمهات في غزة سوى ما يحفظ الحياة: خبزة ودواء وأمان، لكن الاحتلال يمعن في صناعة المجاعة، ويترك المجوعين للموت أو لمصائد الرصاص.
فلسطين أون لاين