أخبار اليوم - في قسم الطوارئ بمستشفى الشفاء لا يوجد مكان للخطوات. كل زاوية تحتضن جسدا ينزف، وكل ممر تحوّل إلى غرفة علاج بديلة. حين تصل سيارة الإسعاف، ينزل المسعفون مسرعين وهم يحملون جرحى جددا، لكنهم لا يجدون سريرا شاغرا. يضعون المصابين على الأرض مباشرة، فوق بطانيات مهترئة أو بلاط بارد ملطخ بالدماء.
الأطباء والممرضون يتنقلون بين الأجساد الممددة، يركعون بجانب المصابين ليخيطوا جروحا أو يوقفوا نزيفا. بعض المرضى يتلقون الأكسجين وهم مستلقون على الأرض، فيما يتشارك آخرون نفس الجهاز بالتناوب. في الخارج، تحولت ساحة المستشفى إلى ما يشبه جناحا مفتوحا، حيث تتكدس الجثث في انتظار الدفن، والجرحى في انتظار من يلتفت إليهم.
أصوات الأنين تختلط بنداءات الأطباء، وأهالي المصابين يتشبثون بأي زاوية يمكن أن تحمي أبناءهم من التدافع. أحدهم يرفع صوته وهو يتوسل: "أريد سريرا لابني، لا تتركوه على الأرض!" لكن الرد يأتي بصرامة مؤلمة من الطبيب: "لا أسرّة لدينا.. الجميع هنا على الأرض".
تجلس أم خالد غبن بجانب ابنها ذو 22 عاما الممدد على أرضية باردة في ممر قسم الطوارئ بمستشفى الشفاء، وقد وضعت معطفها تحت جسده لتخفف عنه صلابة البلاط. تتحدث بينما عيناها لا تفارق أنبوب الأكسجين الضعيف الذي يغذي رئتيه، وتقول لـ"فلسطين أون لاين": "ولدي لا يصارع الموت على سرير المستشفى كما يفترض، بل على الأرض. منذ لحظة وصولنا، بحثت عن سرير، توسلت الأطباء والممرضين، لكنهم جميعا أجابوا بالحقيقة المرة: لا يوجد أي سرير شاغر. لم أكن أتصور أن أرى ابني بين الحياة والموت وهو مستلقٍ على البلاط".
تروي الأم أن ابنها أصيب قبل ساعات في منطقة زيكيم شمال القطاع، أثناء محاولته الحصول على كيس دقيق وبعض الخبز لأسرته التي لم تذق الطعام منذ يومين "خرج ليجلب قوتنا، فعاد محمولا على أكتاف الناس، مضرجا بدمائه. لا ذنب له سوى أنه أراد أن يطعمنا".
بينما تتحدث، يئن خالد بجانبها من شدة الألم، وقد غطت الدماء ضمادا مرتجلا يلف بطنه. ترفع الأم رأسها للسماء وتقول: "أليس من حقه أن يحصل على سرير نظيف يعالج فيه؟ أليس من حقه أن يجد دواء يخفف عنه؟ أشعر بالعجز وأنا أراه يحتضر أمامي على أرض المستشفى".
الموت أو الجوع
في إحدى زوايا ممر الطوارئ بمستشفى الشفاء، يجلس الشاب محمد أبو ناصر (27 عاما) متكئا إلى الحائط، ساقه اليسرى ملفوفة بضماد غارق بالدماء، بينما يضع بجانبه قنينة ماء فارغة يستخدمها كوسادة. يتحدث بصوت متقطع لـ"فلسطين أون لاين": "أصبت برصاصة في ساقي قبل يومين، عندما حاولت الحصول على طرد غذائي من شاحنات المساعدات في غزة. اضطررت للذهاب إلى زيكيم مع مئات آخرين لأننا لم نعد نجد لقمة تسد جوعنا. لا يوجد أي نظام عادل لتوزيع المساعدات هنا، من يملك القوة يحصل عليها، والبقية يتركون للموت جوعا".
يتوقف قليلا من شدة الألم ثم يضيف: "(إسرائيل) هي من أسست هذه الفوضى.. تمنع دخول الغذاء بالقدر الكافي، ثم تدفع الناس إلى التدافع على الشاحنات، وحين نصل هناك، يطلق جنودها النار علينا. يتركوننا نتقاتل على كيس دقيق، ثم يقتلوننا ونحن نحاول النجاة".
يمسح العرق عن جبينه ويقول: "أنا هنا منذ أكثر من 48 ساعة، أعاني من نزيف داخلي وألم شديد في ساقي، لكنني ما زلت على الأرض، لم أحصل على سرير للعلاج. الأطباء قالوا إن المستشفى يطبق نظام الأولوية، من هو في خطر الموت أولا يعالجونه، أما أنا فانتظر دوري، وقد يطول الانتظار".
يرفع نظره إلى السقف المتهالك ويهمس: "لم أطلب شيئا سوى الطعام لعائلتي.. لكن ما حصلت عليه كان رصاصة جعلتني أصارع الموت على أرض المستشفى".
لا مكان للجرحى
في زاوية مزدحمة بالطوارئ، يجلس الممرض سامي العبسي وقد غطت بقع الدماء ثوبه الأبيض، بينما يسرع مرة أخرى لمداواة جريح جديد. يلتقط أنفاسه بصعوبة ويقول لصحيفة "فلسطين": "لم نعد نجد مكانا للجرحى، ولا أسرّة نعالجهم عليها. نحن مضطرون لتقديم العلاج على الأرض، في الممرات والساحات. الأعداد أكبر بكثير من قدرة أي مستشفى على الاستيعاب".
يضيف أبو عجوة: "حتى المستلزمات الطبية الأساسية نفدت. لا شاش كاف لتغطية الجروح، ولا قطن لتعقيم الدماء، ولا ضمادات لتثبيت النزيف. الأدوية أيضا قليلة جدا. أحيانا نضطر لاستخدام قطعة قماش عادية بدلا من الشاش".
يبتسم بمرارة قبل أن يضيف: "أنا شخصيا أصبحت أعاني من آلام حادة في مفاصل ركبتي وظهري. منذ شهور وأنا أركع على الأرض لأخيط جرحا أو أوقف نزيفا، حتى صار جسدي يصرخ من التعب. لم أعد أقوى على الوقوف طويلا".
يتوقف لحظة، ثم يقول: "أصعب ما يواجهنا ليس الألم الجسدي، بل الألم النفسي. أن ترى شابا يحتضر أمامك لأنك لا تملك سريرا أو دواء تنقذ به حياته.. هذه وصمة عجز لن تمحى من ذاكرتنا أبدا".
لا يقتصر المشهد المأساوي في مستشفيات غزة على الاكتظاظ داخل الأقسام، بل يمتد إلى جذور أزمة مزمنة تفاقمت مع الحرب المستمرة منذ أشهر. فمع تدمير عدد كبير من المستشفيات والأقسام الطبية، وخروجها عن الخدمة بفعل القصف ونقص الوقود، باتت القدرة الاستيعابية المتبقية للمرافق الصحية عاجزة تمامًا أمام الأعداد المتزايدة من الجرحى.
وزارة الصحة في غزة أصدرت بيانًا حديثًا، قالت فيه إن نسبة إشغال الأسرّة في المستشفيات بلغت 300%، وهو رقم يكشف انهيار المنظومة الصحية بشكل غير مسبوق. هذا يعني أن ثلاثة مصابين يشغلون السرير الواحد، بينما يُترك الباقون على الأرض في الممرات أو الساحات يتلقون العلاج تحت ظروف غير إنسانية.
إضافة إلى ذلك، تعاني المستشفيات من نقص حاد في الأجهزة الطبية، مثل أجهزة التنفس الصناعي وأسرة العناية المركزة، نتيجة الحصار المفروض ومنع إدخال المعدات. ومع انقطاع الكهرباء لأغلب ساعات اليوم، يتوقف العمل أحيانًا في بعض الأقسام الحيوية، مما يضاعف من خطورة الوضع على المصابين.
فلسطين أون لاين