بقلم: لين عطيات
في زمنٍ صارت فيه الشاشة نافذتنا الأولى، لم يعد السؤال: ماذا نرى؟ بل أصبح أعمق : ماذا يزرع هذا الذي نراه في عقولنا وقلوبنا؟
المحتوى لم يعد مجرد وسيلة ترفيه أو تسلية عابرة؛ بل تحوّل إلى أداة لتشكيل الوعي، وصناعة الذائقة، وصياغة شخصيات أجيال كاملة.
المحتوى والجيل الجديد
الأطفال اليوم يولدون وفي أيديهم أجهزة ذكية، يلمسون الشاشة قبل أن يتقنوا الكتابة، ويتعلّمون النغمة قبل الحرف. هذا الجيل يتكوّن وعيه من خلال مقاطع قصيرة، وأغنيات عابرة، وصور تتكرر آلاف المرات يوميًا إلا أنه من هنا تكمن الخطورة لأنه إن لم يكن المحتوى الذي يتابعه أو يصنعه هادفًا، فإن أول ما سيتأثر هو طريقة تفكيره، ثم منظومة قيمه.
تشير الدراسات الحديثة أن الطفل يقضي بمعدل 3 إلى 5 ساعات يوميًا أمام الشاشات، وهذا الرقم يتضاعف مع اليافعين وهذه الساعات ليست مجرد وقت، بل هي "بذور" تُزرع في العقل: إمّا أن تكون بذور معرفة وقيم، أو بذور فراغ وضياع.
بين المتابعة والصناعة
المسؤولية لا تقف عند ماذا نتابع، بل تتجاوزها إلى ماذا نصنع. اليوم قد أصبح كل شاب قادر أن يكون "مؤثّرًا" بكبسة زر، ينشر فكرة أو صورة أو مقطع فيديو، وقد يصل خلال ساعات إلى آلاف. والسؤال: أي رسالة يرسلها؟ هل يضيف شيئًا لهذا العالم، أم يكرر ضجيجًا فارغًا؟
دور التعليم
المدرسة لم تعد فقط مكانًا لتلقين المعلومات، بل يجب أن تتحوّل إلى مختبر للوعي. على المناهج أن تدمج مواد التربية الإعلامية والرقمية، بحيث يتعلم الطالب كيف يختار محتوى نافعًا، وكيف يميّز بين المعلومة الصحيحة والزائفة، وكيف يستخدم الكاميرا أو القلم ليصنع رسالة تليق بإنسانيته. التعليم هنا ليس ترفًا، بل ضرورة لحماية عقول الأجيال.
دور الأسرة
البيت هو المدرسة الأولى فحين يرى الطفل والديه يختاران برامج هادفة، ويبتعدان عن التافه والمبتذل، سيتعلّم بالمحاكاة. الحوار داخل البيت حول ما يُتابَع ويُشاهَد أهم من أي رقابة شكلية. المطلوب أن نربّي أبناءنا على ذائقة واعية، لا على المنع فقط.
دور الحكومات والمجتمع
الحكومات مسؤولة عن تشجيع صناعة محتوى محلي هادف، وإطلاق منصات تدعم المبدعين الشباب، وتضع ضوابط على المحتوى المسيء. كما أن منظمات المجتمع المدني تستطيع أن تطلق حملات توعية، وورش تدريب، ومسابقات تشجع الشباب على إنتاج محتوى يخدم قضايا مجتمعهم.
ومن التوصيات التي قد يجب أن يأخذ بها:
إطلاق نوادٍ مدرسية وجامعية لصناعة المحتوى، حيث يتعلم الشباب كيف يحوّلون أفكارهم إلى مواد نافعة.
برامج إعلامية تستضيف شبابًا مبدعين، لتقديمهم كنماذج بديلة عن "مشاهير التفاهة".
منصات تعليمية تفاعلية، توضح كيفية التمييز بين التضليل والحقيقة، وبين القيمة والفراغ.
تشجيع الأهل على المشاركة: ليس بالمنع فقط، بل بمرافقة الأبناء ومناقشتهم بما يشاهدون.
الوعي بالمحتوى ليس رفاهية، بل هو معركة وجود ومن يختار ما يتابع وما يصنع هو بالحقيقةيقرر بذلك أي إنسان سيكون.
فلنزرع في شبابنا يقظةً تحميهم من الانسياق وراء الضجيج، ولنمنحهم الأدوات ليكونوا صُنّاع محتوى يرفعون الذائقة لا يهبطون بها. فالمحتوى اليوم لا يُستهلك فقط، بل يصنع مستقبلًا، وربما يصنع أمّة.