الذكاء الاصطناعي واللعاب .. طب جديد يرصد المستقبل

mainThumb
الذكاء الاصطناعي واللعاب... طب جديد يرصد المستقبل

01-09-2025 11:11 AM

printIcon

أخبار اليوم - إنجاز يضعنا على أعتاب عصر جديد يُسمّى «الطب التنبّؤي الوقائي» في فمك اليوم ما يتجاوز حدود اللسان والأسنان... إنه خريطة بيولوجية دقيقة، أرشيف حي مكتوب بحبر البروتينات والجزيئات الدقيقة، قد لا يحمل بين طياته ماضيك الصحي فحسب، بل حتى الملامح الخفية لمستقبلك. وربما — إذا اخترت أن تُصدّق العلم لا الخرافة — توقيتاً تقريبياً لرحيلك.

لسنا أمام أسطورة من أساطير العرّافين، ولا أبراج ورقية تعدك بالحب أو الثراء، بل أمام علم صلب يتقدّم بخطوات محسوبة... علمٌ تقوده خوارزميات الذكاء الاصطناعي، مدعومة بأجهزة دقيقة قادرة على تحليل قطرة واحدة من لعابك... لتكشف لك ما تعجز عن كشفه التحاليل التقليدية.

إنها ثورة جديدة في الطب: صامتة في مظهرها، لكنها صاخبة في أثرها. ثورة تجعل من لعابك صحيفة يومية تطبع كل صباح تفاصيل حالتك الصحية، وتضع بين يديك — قبل أن يخطه القدر — توقيعاً أولياً لمستقبلك.

اللعاب... من سائلٍ مُهمَل إلى مرآةٍ تكشف المصير

في موضوع سابق بعنوان «حين يتكلّم اللعاب... ويفكّ الذكاء الاصطناعي شيفرته»، توقّفنا عند ثورة هادئة تُعيد رسم ملامح التشخيص الطبي. سائلٌ اعتدناه عابراً، وعددناه طويلاً مجرد إفراز لا قيمة له، فإذا به يتحوّل اليوم بنك معلومات حيّاً، يقرأ جسدك من الداخل من دون وخز إبرة أو قطرة دم.

لكن الجديد اليوم يتجاوز حدود التشخيص. نحن أمام قفزة علمية جريئة، أشبه بفتح بابٍ لم نجرؤ من قبل على طرقه: توقّع احتمالية الوفاة المبكرة، وتحديد العمر البيولوجي الحقيقي — ذلك العمر الذي لا يُسجَّل في جواز سفرك، بل يُكتَب في شفرة خلاياك ويُترجَم في أنسجتك.

كيف يحدث هذا التحوّل المذهل؟ القصة تبدأ مع خريطة دقيقة لمكونات لعابك: من الحمض النووي الحر المتنقّل (Salivary cell-free DNA)، إلى مؤشرات الالتهاب المزمن، وصولاً إلى نسب الإجهاد التأكسدي (Oxidative Stress). وهذه البيانات الدقيقة، أشبه بقطع فسيفساء متناثرة، تُجمَع وتُقدَّم إلى خوارزميات التعلّم العميق، لتعيد ترتيبها في لوحة متكاملة، تُظهر ملامح صحتك ومستقبلك.

والمثير أن هذه الخوارزميات لا تعمل بعين طبيبٍ واحد، بل بعقول ملايين المرضى الذين تم تدريبها على بياناتهم، لتتعرّف على أنماط خفية يعجز حتى أمهر الأطباء عن ملاحظتها.

ما النتيجة في النهاية؟ ملفّ شخصي رقمي لا يكتفي بأن يخبرك بما تعانيه الآن، بل يهمس لك بما قد تعانيه غداً... ومتى قد يحين هذا الغد.

من جامعة هارفارد إلى اليابان... هذا ليس خيالاً

في مايو (أيار) 2025، نُشرت دراسة رائدة في مجلة «نيتشر كوميونيكيشنز بيولوجي» (Nature Communications Biology)، المرموقة في مجال البيولوجيا الجزيئية والطب الحيوي. وكشف باحثو معهد ويس للهندسة المستوحاة من الطبيعة (Wyss Institute for Biologically Inspired Engineering) في جامعة هارفارد، عن ابتكار قد يغيّر قواعد اللعبة في الطب: جهاز فائق الصغر يُزرع في سقف الفم (الحنك)، يراقب باستمرار مكونات اللعاب البشري، ويقيس لحظة بلحظة ما يُعرف بـ«معدل الشيخوخة البيولوجية» (Biological Aging Score).

النتائج لم تكن أقل من مدهشة؛ إذ تمكن هذا الجهاز، عبر متابعة دقيقة لمؤشرات الالتهاب، ونِسَب الأكسدة، والتغيرات الجزيئية في الحمض النووي، ومن خلال دعم خوارزميات التعلّم العميق، من توقّع احتمالية الوفاة خلال السنوات الخمس التالية بدقة تجاوزت 87 في المائة.

وهذا إنجاز يضعنا على أعتاب عصر جديد يُسمّى «الطب التنبّؤي الوقائي» (Predictive Preventive Medicine)، حيث لا يقتصر دور الطبيب على علاج المرض بعد ظهوره، بل يمتد إلى استباقه والتدخل في مساره قبل أن يتجذّر.

وليس بعيداً عن ذلك، اتخذت اليابان خطوة جريئة في الاتجاه نفسه. ففي مشروع تجريبي غير مسبوق، أطلقت جامعة كيوتو (Kyoto University) بالتعاون مع وزارة الصحة اليابانية برنامجاً اندماجياً لاختبار سنوي للعاب ضمن الفحوص الإلزامية للأسنان في المدارس والعيادات. ولا يتوقف هذا الفحص عند حدود صحة الفم والأسنان، بل يشمل تقييماً دورياً للعمر البيولوجي لكل فرد، يُرفق معه ملف صحي شخصي يحتوي على توصيات دقيقة وتحذيرات مبكرة، صُمِّمت لتناسب الحالة الجزيئية الخاصة بكل إنسان.



الذكاء الاصطناعي يتنبأ من قطرة لعاب

ما كان يتطلب سابقاً سلسلة طويلة من التحاليل المخبرية، وعيّنات دم، وانتظار أيام في المختبر... بات اليوم يُنجز خلال دقائق، باستخدام جهاز لا يتجاوز حجمه حجم شريحة ذاكرة (USB).

وقطرة واحدة من لعابك تكفي. تضعها على الجهاز، فتبدأ الخوارزميات في العمل. تُحلّل الجزيئات الحيوية الدقيقة في لعابك — من بروتينات التهابية، إلى شيفرات جينية طافية، إلى نواتج الإجهاد التأكسدي. ثم تُقارن هذه البيانات الشخصية بملايين السجلات المخزنة في قواعد بيانات ضخمة، خضعت سابقاً للتعلّم العميق (Deep Learning).

والنتيجة؟ تقرير رقمي دقيق، لا يخبرك فقط بما أنت عليه... بل بما قد تصبح عليه، ويشمل:

• عمرك البيولوجي الحقيقي (Biological Age) — ذاك الذي يعكس حالتك الصحية على مستوى الخلايا، وليس تاريخ ميلادك فقط.

• احتمالية إصابتك بأمراض مزمنة خلال السنوات العشر المقبلة، مثل السكري، وأمراض القلب، وضمور الدماغ.

• مؤشر الالتهاب الصامت — وهو أحد أخطر العوامل الصامتة لتدهور الصحة دون أعراض ظاهرة.

• تقدير متوسط العمر المتبقي — بناءً على نمط حياتك الحالي، مع إمكانية تحسينه عبر تغييرات مدروسة.

صحيح أن الذكاء الاصطناعي لا يمنحك «تاريخ وفاتك» على طريقة الروايات الخيالية، لكنه يهمس إليك بلغة العلم: «إن لم تغيّر مسارك... فها هو الطريق الذي تمضي فيه».

طبيب الأسنان... أول من يُنذر

تخيّل هذا المشهد... تدخل عيادة الأسنان في زيارة روتينية، لا تشكو من ألم ولا تتوقع سوى فحص سريع وتنظيف بسيط. يبتسم الطبيب، يطلب منك أن تتمضمض بكأس صغيرة من السائل، كما اعتدت دائماً. لكن ما يحدث بعد ذلك... ليس اعتيادياً أبداً.

بدلاً من أن يخبرك بوجود تسوّس بسيط في الضرس الخلفي، يرفع رأسه من شاشة التحليل، وينظر إليك بنبرة مختلفة: «نتائج لعابك تشير إلى تسارع واضح في مؤشرات الشيخوخة البيولوجية... خاصة في الجهاز القلبي والعصبي. نحن في حاجة إلى مراجعة أسلوب حياتك فوراً».

نعم، ما كان مجرّد زيارة للأسنان... تحوّل نقطة إنقاذ مبكر لحياتك.

هذا ليس خيالاً علمياً، بل سيناريو واقعي أقرب إلينا مما نعتقد، خاصةً بعد أن كشفت الدراسات الحديثة عن أن أكثر من 90 في المائة من المؤشرات الحيوية للشيخوخة — مثل الالتهاب المزمن، والإجهاد التأكسدي، وتلف الحمض النووي — تظهر في اللعاب قبل أن تُرصد في الدم أو تُلاحظ في الأعراض الإكلينيكية.

وهنا تكمن المفاجأة: عيادة الأسنان، التي لطالما حُصرت في نطاق التسوّس واللثة، تُعيد اليوم تعريف دورها... لتُصبح الخط الأمامي في الطب الوقائي الذكي (Smart Preventive Medicine)... إنها أول نقطة تماس مع أسرار جسدك، وأول من يكتشف الإنذارات الصامتة التي لا تظهر في التحاليل التقليدية.

ربما في المستقبل القريب، لن تُعرَف عيادة الأسنان فقط بأنها «مكان إصلاح الأسنان»، بل بوصفها البوابة الحيوية لصحة الإنسان الشاملة.

لكن... هل نحن مستعدون فعلاً لمعرفة الحقيقة الكاملة عن أنفسنا؟ من زاوية، قد يكون هذا أعظم هدية علمية تُمنح للإنسان: نافذة إلى المستقبل، وفرصة لتعديل المسار قبل أن يخرج عن السيطرة.

لكن من زاوية أخرى، نحن أمام مفترق فلسفي وأخلاقي عميق:

- هل من حق الطبيب أن يكشف لك عن هذا المصير البيولوجي، حتى لو لم تطلبه؟

- هل نحمّل الإنسان العادي عبء معرفة الموت الإحصائي؟

- وهل كل من يعرف أنه على حافة الخطر... يملك القدرة النفسية على التعامل مع هذا الخطر؟

ثم، ما حدود هذه المعرفة؟ هل ستُصبح «الشيخوخة البيولوجية» بنداً في ملفك الطبي يلاحقك أكثر من الأمراض نفسها؟

إن الذكاء الاصطناعي لا يكشف فقط عن أسرار اللعاب، بل يفتح صندوق «باندورا الأخلاقي للمجتمعات الحديثة. ومع كل خطوة تقنية، تظهر حاجة» ملحّة إلى قوانين تحمي الإنسان من الإفراط في المعرفة... تماماً كما نحميه من الجهل.

قد تكون قطرة لعاب... أنقذت حياة. لأول مرة في تاريخ الطب، لم يعد الفم فقط بوابة للكلام أو الطعام... بل أصبح بوابة للنجاة. ومع بزوغ هذا الجيل الجديد من الطب التنبّؤي الذكي، قد نصل إلى لحظة يصبح فيها أبسط إجراء وقائي — كالمضمضة في عيادة الأسنان — سبباً في تغيير المصير، أو إطالة العمر، أو إنقاذ قلبٍ قبل أن يتوقّف، ودماغٍ قبل أن يتدهور.

إنها ثورة صامتة... لا تحتاج إلى ضجيج الأجهزة، ولا إلى ألم الإبر، بل فقط: * ذكاء يُنصت، ووعي يُقرّر، ومستقبل لا نضيّعه.